Our App on Google Play Twitter Home أبحث

تفسير الاصحاح الثالث والعشرون من سفر اللاويين للقمص تادري يعقوب ملطى

المحافل المقدسة


كانت الأعياد المقدسة تمثل جزءًا حيًا ورئيسيًا في العبادة اليهودية، خلالها يجتمع الشعب معًا في محافل مقدسة يذكرون أعمال الله المستمرة معهم. كما يعلن الله فرحه بهم إذ يود لهم راحتهم الحقة وفرحهم الأبدي غير المنقطع. وكانت هذه المحافل تمثل ترمومترًا يكشف عن العلاقة المتبادلة بين الله وشعبه، فإن انحراف الشعب رفض الله أعيادهم بل وكرهها (إش 1: 14)، ومتى رجعوا إليه بالتوبة حسبها الله أعياده وأفراحه يسكب فيها من فيض نعمته.

1. السبت                   [1-3].
2. الفصح وعيد الفطير     [4-8].
3. عيد الباكورة            [9-14].
4. عيد البنطقستي          [15-22].
5. عيد الهتاف              [23-25].
6. عيد الكفارة              [26-32].
7. عيد المظال              [33-44].

line

1. السبت:

كان حفظ السبت وصية هامة يلتزم بها الشعب، لذا جاء الحكم قاسيًا على أول من كسر الوصية بجمعه حطبًا، إذ مات رجمًا (عد 15: 32-36).. وقد تعرضنا لهذه الوصية كثيرًا إذ لم يخل سفر من أسفار العهد القديم من الحديث عنها تقريبًا بصورة أو آخرى، إنما ما نريد أن نؤكده هنا أن وصية حفظ السبت لم تكن وصية ثقيلة يسقط تحتها المؤمنون، ولا واجبًا ينحنون تحته في شكليات وحرفية وإنما كان السبت عيدًا وفرحًا، عطية إلهية لشعبه.

حقًا لقد قدم لنا الكتاب المقدس "حفظ السبت" من الجانب كثيرة، لكنه ركز عليه كعيد مفرح وراحة في الرب القدوس. فمن الجانب الظاهري كان السبت إمتناعًا عن العمل، حتى عن جمع المن النازل كهبة إلهية (خر 16: 21-30). من يعمل يتعرض للغضب الإلهي. وجاء السبت يحمل فكرًا إجتماعيًا روحيًا فقدم كراحة للغرباء والأجراء والعبيد حتى الحيوانات، فيه يذكر الشعب أنه كان قبلاً متغربًا في مصر تحت العبودية فلا يقسوا على خليقة الله (خر 23: 12، تث 5: 12-15). وحمل السبت فكرًا أخرويًا إنقضائيًا بكونه رمزًا للراحة المقبلة (إر 17: 21-27، عب 4)[274].

وأخيرًا فإن السبت هو فرصة لا للخمول والتوقف عن العمل بل للتمتع بالعبادة لله القدوس لينعم الكل بشركة الحياة الإلهية (لا 23: 3، عد 28: 9-10). وكأن السبت كما يحدثنا عنه سفر اللاويين هو التقاء مع الله خلال العبادة المقدسة والذبيحة لا لنكرم الله بعبادتنا لكن ما هو أعظم لكي ننعم بعمل الله فينا واهبًا إيانا الشركة معه لندخل به إلى قداسته[275].

إذن تقديس السبت في جوهرة هو تمتع بالراحة، إذ كلمة "سبت" في العبرية تعني "راحة"، سرها اتحادنا مع ربنا يسوع المسيح القدوس لننعم به بالحياة الجديدة المقدسة. لقد دعاه إشعياء النبي: "مسرة"، "مقدس يهوه"، "المكرم" (إش 38: 53)، وقدم لنا سفر المزامير تسبحة خاصة بالسبت هي تسبحة فرح وحمد لله (مز 92).

السبت هو عيد التمتع بالراحة في الرب السماوي. فيه نذكر راحة الله في اليوم السابع (تك 2: 3) كرمز ليوم الرب الأبدي. كما يقول القديس أغسطينوس الذي فيه [نستريح ونرى، نرى ونحب، نحب ونسبح، هذا ما سيكون في النهاية التي بلا نهاية[276]]. هو عيد الراحة لا من عبودية فرعون (تث 2: 15) وإنما من عبودية الشر، كقول القديس أكليمندس الإسكندري: [إننا نتمسك بالسبت الروحي حتى مجئ المخلص، إذ إسترحنا من الخطية[277]].

 هو عيد مفرح ننعم به هنا كعربون للحياة السماوية كعيد تسبيح لا ينقطع، وكما يقول القديس جيروم معلقًا على مزمور يوم السبت (مز 92): [لا يمكن أن يوجد سبت مالم يسبقه ستة أيام. نحن نعمل الستة أيام لنستريح في السابع.

لا نقدر أن نسبح الرب إلاَّ في يوم السبت (مز 92) مادمنا مشغولين بأعمال العالم، أي مادمنا في الستة أيام لا نستطيع أن نُغني للرب.. ليس أحد في يوم السبت أي في راحة الرب يعمل عملاً دنيئًا، أي يرتبك بأعمال العالم، إنما يلزمه أن يعمل ما يخص السبت.

 أتريد أن تعرف أنه في السبت يعمل الكهنة في هيكل الرب بينما لا يسمح لأحد أن يقطع فيه حطبًا، ففي الحقيقة الرجل الذي اكتشف أنه يجمع حطبًا في البرية رُجم للموت (عد 15: 32-36). في السبت لا يشعل أحدًا نارًا ولا يمارس أي عمل.. إذن لنرى أنه يليق بنا أن نسبح في السبت عندما نترك أعمال هذا العالم[278]].

كان اليهود يتطلعون إلى السبت كرمز لقداسة الله ولحفظ العهد معه، لكن عوض تمتعهم به كعيد مفرح للقلب حولوه في مهابته إلى مباحثات فكرية وجدلية نحو الأعمال الممنوعة يوم السبت حتى لنجد مدرسة شمعي اليهودية تطلب الراحة يوم السبت لا للإنسان والحيوان فحسب بل تمتد إلى الجماد، فلا يجوز للإنسان أن يبدأ عملاً يوم الجمعة لتستمر فاعليته يوم السبت حتى وإن توقف الإنسان عن العمل، مثال ذلك لا يطرح الكتان في الشمس يوم الجمعة ليجف يوم السبت.

 ولا يوضع صوف في مصبغة يوم الجمعة ليمتص الصوف مادة الصبغة يوم السبت. هذا الفكر وإن رفضته مدرسة هليل لكنه يكشف عن حرفية اليهود في فهمهم للسبت.

وقد بلغ بهم الأمر أن يمتنعوا عن الدفاع عن بلدهم إذا ما هاجمهم عدو حتى يعبر السبت، الأمر الذي رفضه الكابيون، ووضعوا حق الدفاع عن النفس والوطن في يوم الرب[279]. لذلك عندما جاء المسيح كشف عن كرامة يوم السبت كعيد مفرح، فقدم فيه أعمال للشفاء ليعلن أن السبت تحرر من الضعف والخطية (لو 6: 9)، مؤكدًا أنه يوم عمل إلهي (يو 5: 19-20).

 لقد كشف عن نفسه أنه رب السبت (مت 12: 1-6) يقدم شريعة السبت بفهم جديد لم يكن الفكر اليهودي قادرًا على إدراكه. وقد إختار السيد أن يُقبر في يوم السبت ويقوم في فجر الأحد، لكي يقبر حرفية الفكر القديم مقيمًا لنا الأحد سبتًا جديدًا فيه تمتع الكثيرون بالرب القائم من الأموات (يو 20: 11-18، لو 24: 34)، وفيه تمتعت الكنيسة بحلول الروح القدس عليها كيوم ميلادها الحق، وفيه صارت تجتمع الكنيسة الأولى للعبادة الأسبوعية كيوم الرب الحقيقي (أع 20: 7).

أخيرًا فإن سبتنا الحقيقي هو ربنا يسوع المسيح، هو عيدنا وراحتنا، فيه نعيد بالإتحاد مع الآب القدوس وفيه نستريح بالنبوة لله وسكني روحه القدوس فينا وتمتعنا بالعضوية في جسد المسيح. إنه راحة للآب إذ يجدنا في المسيح يسوع أولاده متبررين بدم صليبه وراحة لنا فيه[280].

ولكي نتعرف على السبت كعيد مفرح باتحادنا في السيد المسيح القدوس نقدم طقس يوم السبت عند اليهود في نقاط مختصرة:

أولاً: كان اليهود يتطلعون إلى السبت بفرح، فيترقبونه كعروس مزينة تنتظر عريسها، فلم يكن الصوم والحزن ممنوعين تمامًا فيه فحسب وإنما كان اليهود يتمتعون فيه بالطعام والملبس وكل ما يليق بعيد مفرح. فيه كان يجوز إعداد طعام فصح، وفيه يمارس الكهنة أعمالهم في الهيكل، وفيه يشعلون نار الموقد في الهيكل.. إلخ، كأنهم كانوا يلتقون لا بيوم راحة جسدية إنما بالسيد المسيح نفسه خلال الرمز. يتزينون له ويبتهجون دون صوم أو حزن لأن العريس معهم، ويمارسون الأعمال الإلهية خاصة في الهيكل، إذ بالسيد المسيح تنطلق حياتنا لممارسة الأعمال الإلهية الفائقة.

ثانيًا: يبدأ السبت من غروب يوم الجمعة ويستمر حتى غروب السبت، يختلف حساب الغروب ليس فقط حسب إختلاف فصول السنة وإنما أيضًا حسب مواقع البلاد وجغرافيتها، فالبلاد المنخفضة تبدأه قبل البلاد المرتفعة، وكان الوقت يُحسب عندما تنطلق الطيور نحو أعشاشها.

يبدأ السبت في غروب الجمعة حيث يدعى "عشية السبت" أو "الإستعداد" (مر 15: 42، يو 19: 31). ونحن أيضًا نتمتع بالسبت هنا في هذا العالم كما في عشية إذ ننعم بسبتنا المسيح كمن في مرآة خلال الإيمان، حتى متى جاء صباح السبت أي مجيئه الأخير ننعم به في سبت أبدي خلال العيان.. إننا في عشية السبت المفرحة نترقب بشوق شديد الصباح الحقيقي للسبت الأبدي.

ثالثًا: يصل الكهنة الذين عليهم نوبة العمل في الأسبوع الجديد إلى أورشليم بعد ظهر الجمعة ليستعدوا بالأحتفال بالسبت في الهيكل مع الكهنة الذين تنتهي نوبتهم. ويعلن عن الإحتفال بثلاث نفخات من أبواق الكهنة ليتوقف الكل عن العمل ويُشعل مصباح السبت، ويرتدي الكل ملابس العيد.

في هذا العمل صورة رمزية لرجال العهد الجديد (الكهنة القادمون لأسبوع الجديد)، الذين التقوا مع رجال العهد القديم يتسلمون منهم الأسفار المقدسة والنبوات والعهود وكل ميراث روحي. أما ضرب الكهنة بالأبواق ثلاث نفخات فيُشير إلى أبواق الرموز والنبوات التي أعلنت عن حلول السبت الجديد أي مجئ ربنا ليتوقف الكل عن أعمال الجسد ويلتهب بمصباح الروح القدس ويرتدي السيد المسيح نفسه ثوب عيد مفرح!

رابعًا: مرة أخرى يضرب الكهنة بالأبواق بثلاث نفخات لإعلان بدء السبت فعلاً حيث يكون الكهنة الجدد قد بدأوا بغسل مذبح المحرقة من آثار الدم، ويسلم الكهنة الخارجون للداخلين مفاتيح الهيكل والأواني المقدسة وكل ما في عهدتهم.

إن كانت الأبواق السابقة تُشير إلى صوت الآباء والأنبياء والناموس التي أعدت للسبت، فإن هذه الأبواق التالية هي إعلان الكرازة بالإنجيل، فقد التزم رجال العهد القديم بتسليم كل ما في عهدتهم لرجال العهد الجديد، الذين غسلوا المذبح من الحرفية ودماء الحيوانات ليتقبلوا ذبيحة المسيح الفريدة.

خامسًا: يلقى رؤساء العشائر قرعة لمعرفة دور كل واحد منهم في أيام الأسبوع في الخدمة.. وكأن العيد الروحي هو انطلاقة عمل روحي في الهيكل وليس تراخيًا وكسلاً!

سادسًا: أول عمل يقوم به الكهنة هو تجديد خبز الوجوه الذي أُعد يوم الجمعة، فإن كان يوم الجمعة عيدًا يعد بعد ظهر الخميس. هذا هو عمل كهنة العهد الجديد تقديم جسد ربنا يسوع المسيح خبز حياة سماوي، أعده الرب بنفسه يوم الجمعة حين علق على الصليب باذلاً إياه لأجلنا، كما قدمه بعد ظهر خميس العهد..

سابعًا: يحضر الكهنة القادمون والخارجون السبت معًا، فيقدم الخارجون ذبيحة الصباح والجدد ذبيحة المساء. ولعل في هذا العمل رمزًا لوحدة العمل بين رجال العهد القديم والعهد الجديد، فالكل يلتقون معًا في المسيح يسوع، السبت الواحد. الأولون يلتقون خلال الرمز، والجدد خلال الحقيقة!

ثامنًا: تمارس العبادة اليومية مع إضافة ذبائح محرقة إضافية والطعام والسكيب (عد 28: 9-10)، إذ هو يوم لقاء مع الله القدوس خلال الذبيحة وبشبع (الطعام)، وفرح روحي (السكيب).

تاسعًا: عند سكب السكيب العادي يرنم اللاويون تسبحة السبت (مز 92) على ثلاث مراحل، ويقترب الكهنة من بعضهم البعض، وينفخون بالأبواق، ثم يبدأ الشعب في العبادة. إنه يوم فرح للكنيسة كلها، الكل يشترك إما بالتسبيح أو النفخ بالأبواق أو العبادة. يشترك الكهنة مع الشعب في العبادة المفرحة وبهجة القلب.

عاشرًا: في نهاية ذبيحة السبت الإضافية وسكيبها يغني اللاويون مزمور موسى (تث 32) في ستة أقسام (1-6، 7-12، 13-18، 19-28، 29-39، 40 إلخ)، يتخللها نفخات من أبواق الكهنة مع إشتراك الشعب في العبادة.

هذا ويلاحظ أنه إن جاء السبت في العيد الشهري أي رأس الشهر، فتغنى تسبحة السبت مفضلة عن تسبحة رأس الشهر. وإن كان الوقت عيدًا فتقدم ذبيحة السبت قبل ذبيحة العيد.

الحادي عشر: أخيرًا يختتم الإحتفال بعيد السبت بترنم تسبحة موسى الواردة في خروج 15 ليعلنوا أن السبت هو عبور من عبودية فرعون (إبليس) وانتصار روحي على جنوده للإنطلاق خلال البرية إلى أرض الموعد أو أورشليم العليا.

line

2. الفصح وعيد الفطير:

هما عيدان متمايزان، يحتفل بعيد الفصح في اليوم الرابع عشر من نيسان كأول عيد سنوي تفتتح به السنة، أما عيد الفطير فيبدأ بالخامس عشر من نيسان لمدة سبعة أيام أي حتى الحادي والعشرين منه، ونظرًا لالتصاقهما صارا فيما بعد كعيد واحد في الكتاب المقدس، ووضعهما يوسيفوس المؤرخ اليهودي كعيد الثمانية أيام[281].

في دراستنا لسفري الخروج والعدد تحدثنا عن مفهوم الفصح والفطير واقتبسنا بعضًا من أقوال الآباء عنهما، كما تعرضنا لطقسيهما[282]، وأيضًا في دراستنا للأفخارستيا[283].

ما نوضحه هنا أن عيد الفطير كان يدعى "خبز الحزن" (تث 17: 3)، إذ كان يرمز للمرارة التي عاشها الشعب في عبوديته لفرعون، وقد تحول الحزن إلى فرح وبهجة، وصار من أكثر الأعياد المفرحة. وبعد أن كان الإمتناع عن أكل الخمير إشارة إلى سرعتهم في الخروج من مصر (خر 12: 33، 39، تث 16: 3)، صار علامة ترك خمير الحياة القديمة والتمتع بحياة جديدة (إش 52: 11-12) لا ترتبط بخمير الماضي.

line

3. عيد الباكورة:

ارتبط عيد الباكورة بعيدي الفصح والفطير من جانب وبعيد الخمسين من جانب آخر، إذ يحتفل به خلال أيام الفطير بينما يأتي عيد الخمسين بعده بسبعة أسابيع [5]، أي في اليوم الخمسين منه.

يعتبر هذا العيد أول الأعياد الزراعية، مارسه الشعب بعد دخولهم أرض الموعد، وقد اتسم بطقس بهيج للغاية، غايته تقديم الشكر لله واهب الخيرات من جانب ومن جانب آخر لكي بتقديم حزمة البكور يتقدس الحصاد كله. في هذا العيد إذ تقدم حزمة البكور لتقديس الحصاد إنما يعلن تقديس البشرية المؤمنة خلال البكر الوحيد يسوع المسيح، فيه نتبرر لدى الآب ونحسب بقديسين.

يمارس طقس هذا العيد بطريقة شعبية مفرحة، ففي اليوم السابق لعيد الفصح يخرج ثلاثة شيوخ من مجمع السندريم بعد غروب الشمس ليحصدوا في الحقول المجاورة لأورشليم من الشعير بين هتافات الجماهير وتهليلهم. يحمل كل شيخ منجلاً وسلة ويسأل عدة أسئلة مكررًا كل سؤال ثلاث مرات، والجماهير تجاوبه بالإيجاب بعد كل سؤال. أما الأسئلة فهي: أهذه هي السلة؟! أهذا هو المنجل؟! أهذا هو السبت؟! هل أحصد؟! أخيرًا يبدأ يحصد ويضع في السلة، ليحمله إلى الهيكل لأجل تقديمه.

يقول الكتاب: "فيردد الحزمة أمام الرب للرضا عنكم، في غد السبت يرددها الكاهن" [11]. يردد الكاهن حزمة الشعير أمام الرب ليرضي عن شعبه ويكلل السنة الزراعية بالبركة ويفيض عليهم بنعمه. والترديد كما سبق فرأينا هو رفع التقدمة على يدي الكاهن إلى أعلى، ملوحًا بها نحو الأربع اتجاهات كمن يقدمها لله الموجود في كل مكان، ثم يردها ثانية لتصير من نصيب الكهنة، كأنما يتسلمونها منه. يرى البعض أن الكاهن يردد الحزمة بسنابلها بعد غمسها في الزيت، ثم يوقد منها على المذبح مقدار قبضة يده مع اللبان، ويكون الباقي للكهنة.

ويرى آخرون أن الترديد يتم بعد ضرب السنابل بعصا واستخراج حبوب منها تشوى بالنار، يلت الكاهن مقدار عمر منها بالزيت ثم يأخذ ملء قبضة يده ليوقده.. أما الرأي الأرجح فهو إتمام الترديد بعد تحميص الحبوب وطحنها في هاون ونخل الدقيق خلال 13 منخلاً ليقدم الكاهن ملء قبضة يده من الدقيق الناعم بعد أن يلته بالزيت ويردده أمام الرب..

على أي الأحوال تمثل الحزمة شخص السيد المسيح الذي يقدم حياته تقدمة سرور للآب على نار الصليب، لكي يتبارك فيه كل الحصاد، وينعم المؤمنون برائحته الذكية والشركة معه في طبيعته.

يتم هذا العمل في "غد السبت"، ويرى الصدوقيون أن الترديد يتم يوم الأحد فعلاً، بعد السبت الذي في أيام الفطير، لكن الرأي الأرجح أن الترديد يتم يوم 16 من نيسان أيًا كان موقعه من أيام الأسبوع، بكون يوم 15 من نيسان يُحسب سبت عطلة للرب ومحفلاً مقدسًا (خر 12: 16) بكونه أول أيام الفطير. هذا هو الرأي الفريسيين، وما أكده يوسيفوس المؤرخ[284] وفيلون اليهودي الإسكندري[285].

line

أما تقدمات وقرابين هذا اليوم فهي:


أولاً: محرقة الصباح الدائمة ومحرقة المساء الدائمة مع تقدمتهما وسكيبهما (عد 28: 1-8).
ثانيًا: بجانب التقدمات اليومية يقدم تقدمات أيام الفطير السبعة (عد 28: 19-22).
ثالثًا: يمتاز هذا اليوم بترديد حزمة الشعير وتقديم قبضة يد الكاهن منها.
رابعًا: ذبيحة محرقة عبارة عن خروف صحيح حولي [12].
خامسًا: تقدمة طعامية هي عشران من دقيق ملتوت بزيت وسكيبه ربع الهين من الخمر، حيث يوقد الكاهن قبضته منه ملتوتًا بالزيت والباقي للكهنة.

يختم حديثه عن عيد الباكورة بقوله: "وخبزًا وفريكًا وسويقًا لا تأكلوا إلى هذا اليوم عينه إلى أن تأتوا بقربان إلهكم فريضة دهرية في أجيالكم في جميع مساكنكم" [14]. لم يكن ممكنًا أن يأكل أحد من المحصول الجديد في أي صورة من الصور، سواء في شكل خبز أو فريك أو سويق (ربما يقصد به الحبوب المحمصة المطحونة، أو السنابل الخضراء الطرية قبل أن تشوى)، حتى يتم ترديد حزمة الباكورة ليكون الله أولاً، ولكي لا تمتد يد للمحصول قبل تقديسه خلال تقديم الحزمة البكر.. فبمجرد ترديد الحزمة تعرض الغلة الجديدة في الأسواق ويمكن أكلها.

أخيرًا فإن عيد الباكورة إرتبط بعيدي الفصح والفطير.. فإن كان الفصح يُشير إلى موت السيد المسيح لكي نخلص من إنساننا العتيق أو من خميرة الفساد التي تسللت إلينا فإن عيد الباكورة الذي يلي الفصح ويتخلل الفطير يُشير إلى قيامة السيد المسيح وصعوده، بكونه "البكر من الأموات"، الذي اخترق طريق الموت ليهبنا فيه القيامة ويرفعنا به إلى حضن أبيه، فنحيا في السموات.

إنه بكر كل خليقة (كو 1: 15)، خلاله تمتعنا بالبكورية، فصرنا كنيسة أبكار وتم فينا روحيًا قول الآب "إسرائيل ابني البكر" (خر 4: 22)، وكما قال الرسول يعقوب: "شاء فولدنا بكلمة الحق لكي نكون باكورة من خلائقه" (يع 1: 28).

line

4. عيد الخمسين:

ارتبط عيد الخمسين بعيد الفصح وعيد الباكورة، إذ يحتفل به بعد سبعة أسابيع من عيد الباكورة، لذا دُعي "عيد الأسابيع" (خر 34: 22، تث 16: 10)، كما دعي "عيد الخمسين" وباليونانية "البنطقستي" (أع 2: 1؛ 20: 16)، فيه حلّ الروح القدس على الكنيسة المجتمعة في العليا. وهو أيضًا عيد زراعي كالباكورة، يُسمى "عيد الحصاد" (خر 23: 16)، إذ يأتي في ختام موسم الحصاد.

إن كان بعض اليهود يرون أن الفصح والفطير يمتزجان معًا كعيد واحد متكامل، فإنهم أيضًا يرون أن عيد الفطير يمتد حتى يوم الخمسين كفرح غير منقطع حتى يتم عيد الخمسين، فإن كان هذا العيد هو عيد حلول الروح القدس على الكنيسة، فإن غاية صليب ربنا يسوع المسيح أن يرسل روحه القدوس على كنيسته لكي يهبها المصالحة خلال الدم والشركة مع الثالوث القدوس ويمنحها سمات عريسها المصلوب، وكأن الصليب في واقعه يدخل بنا إلى الحياة الخمسينية ليعمل الروح القدس فينا بقوة صليب ربنا يسوع .

قديمًا كان اليهود يربطون بين الأعياد فيرون في الفصح تحررًا من عبودية فرعون، وفي الفطير تخلصًا من خمير مصر (محبة العالم) وفي الباكورة بدء الحياة الجديد خلال تقديس الحزمة الجديدة، وفي الخمسين تمتعًا بكامل خيرات أرض الموعد، وكما يقول المرتل: "الذين يزرعون بالدموع يحصدون بالابتهاج" (مز 126: 5).

ونحن أيضًا نربط بين هذه الأعياد فنرى في الفصح ذبيحة السيد المسيح الفريدة وموته لتحريرنا من سلطان فرعون الحقيقي أي إبليس، وفي الفطير خلع الإنسان العتيق بخميرته الفاسدة، وفي الباكورة تمتع بالإنسان الجديد خلال الإتحاد مع الله في إبنه البكر، أما في الخمسين فيتحقق هذا بالروح القدس الذي يمتعنا بالمسيح البكر خلال حياة الشركة التي تنطلق من مياه المعمودية.

 بمعنة آخر خلال "عيد الخمسين" أي "عيد حلول الروح القدس على الكنيسة" تتحقق الأعياد السابقة فينا فيكمل فصح المسيح في حياتنا بروحه القدوس وننعم بقوة قيامته والصعود معه إلى سمواته.

غاية هذا العيد هو تقديم الشكر لله بمناسبة حصاد القمح، خلال طقس مفرح جماعي، فيه يعلن الكل فرحه بالله صانع الخيرات، متذكرين قول الحكيم: "إكرم الرب من مالك ومن كل باكورات غلتك فتمتلئ خزائنك شبعًا وتفيض معاصرك مسطارًا" (أم 3: 9).

كان اليهود يرون في هذا العيد تذكارًا لاستلام الشريعة في سيناء، إذ اعتقدوا أن موسى النبي استلمها في هذا اليوم. لذلك كانوا يستعدون له بالإعتراف بخطاياهم والإغتسال للتطهير، وكثيرًا ما كانوا يقضون ليلة العيد في التسبيح والعبادة.

أما بالنسبة لطقس العيد وتقدماته فأهم ما يتسم به هذا العيد هو صنع رغيفين، حيث يطحن القمح في دار الهيكل وينخل خلال 12 منخلاً ثم يعجن بالخمير، ويصنع رغيفان كل رغيف من عشر إيفة من الدقيق [17]، وذلك قبل العيد بيوم، فإن كان اليوم سبتًا يعملان في اليوم الذي قبله. هذان الرغيفان يرددان أمام الرب ويأكلهما الكهنة، ولا يوقدان على المذبح لأن بهما خمير. أحد الرغيفين يأخذه رئيس الكهنة، والثاني يقوم بتوزيعه على بقية الكهنة.

ويلاحظ في الرغيفين أن بهما خمير، فبالرغم مما أعطى لهما من قدسية خاصة، لكنهما إذ يمثلا شعب إسرائيل المحتاج إلى ذبيحة تُكفر عما إرتكبه (الخمير).

لعل الرغيفين يشيران إلى الخبز الأرضي والخبر السماوي، وكأنه في عيد الخمسين تطلب الكنيسة أن يعمل فيها الروح القدس لتقديس الحياة الزمنية (الخبز الزمني) والحياة التعبدية السماوية. ولعل أيضًا هذين الرغيفين يُشيران إلى كنيستي العهد القديم والعهد الجديد بكونهما يتباركان بعمل الروح القدس فيهما، أو لعلهما جماعة الأمم واليهود.

رقم 2 يُشير إلى المحبة[286]، كأن عمل الروح القدس في يوم الخمسين هو سكب روح الحب والشركة ليكون لنا القلب الملتهب الناري في محبته لله والناس.

بجانب هذا الطقس تقدم الذبائح والتقدمات الآتية:

أولاً: المحرقة الدائمة الصباحية والمحرقة الدائمة المسائية وتقدماتهما وسكيبهما.
ثانيًا: ذبيحة محرقة من ثور وكبشين وسبعة خراف حولية مع تقدماتها وسكيبها.
ثالثًا: ذبيحة خطية هي تيس من المعز.
رابعًا: ذبيحة سلامة من خروفين حوليين.
خامسًا: تقدمات العيد الإضافية (عد 28: 26-31)، عبارة عن محرقة من ثورين وكبش وسبعة خراف حولية مع تقدماتها وسكيبها، وذبيحة خطية من تيس من المعز أو تيسين.
سادسًا: تقدمات تطوعية يقدمها الشعب حسب ما تسمح به أيديهم، يأكل منها اللاويون والغرباء والفقراء (تث 16: 9-12).

في وسط هذا الفرح العام يحثهم ليس فقط على تقديم تقدمات يتمتع بها الغرباء والفقراء.. وإنما يؤكد لهم ألا ينسوهم في طريقة الحصاد عينها، إذ يوصيهم: "وعندما تحصدون حصيد أرضكم لا تكمل زوايا حقلك في حصادك، ولقاط حصيدك لا تلتقط، للمسكين والغريب تتركه، أنا الرب إلهكم" [22].

والآن نستطع القول بأن عيد الخمسين قد كمل في "عيد الخمسين" المسيحي، أو "عيد حلول الروح القدس". فإن رقم خمسين هو ثمرة إضافة سبعة أسابيع على عيد الباكورة، فإن كان رقم 7 يُشير إلى الكمال، فإن الكمال يتحقق بحلول الروح القدس الذي يأخذ مما للمسيح البكر ويعطينا. هذا وقد رأى كثير من اليهود في عيد البنطقستي إعلانًا للعهد الإلهي إذ رأوا فيه تذكارًا للعهد أو الميثاق للذي قدمه الله لنوح وتجديدًا له[287]، وأيضًا ميثاق الله مع إبراهيم (تك 15)، إذ قيل: [في هذا اليوم أقمنا عهدًا مع إبراهيم كما أقمناه مع نوح في نفس الشهر.

وقد جدد إبراهيم العيد وجعله وصية أبدية[288]]. هكذا كانوا يتطلعون إلى هذا العيد كعيد تجديد العهد مع الله، ودخول أعضاء جدد في العهد معه[289].

لذلك عندما حلّ يوم الخمسين واجتمع التلاميذ في علية صهيون كان اليهود من حولهم يعيدون بتجديد العهد مع الله متذكرين ما حدث مع آبائهم حين سلم الله عهده وشريعته لموسى النبي وما صاحب ذلك من رعود وبروق وأصوات بوق ودخان حتى ارتعب الكل (خر 20: 18).. في هذا اليوم حلّ الروح القدس على التلاميذ وسمع أيضًا صوت هبوب عاصف وارتعب الكل وحدث تجديد للعهد خلال الروح القادر أن يجدد القلوب والأذهان، ويكتب الشريعة والعهد في قلوب المؤمنين (إر 31: 31-34).. صار للكنيسة الروح الإلهي الناري الذي يغير الطبيعة الداخلية ويهب روح النبوة فنتقبل عهدًا جديدًا.

line

 5. عيد الهتاف:

هو عيد بداية السنة المدنية، وبداية الشهر السابع من السنة الدينية، لذا فهو عيد تقديس الشهور (الشهر السابع). أهم ما يمتاز به هذا العيد هو "الهتاف"، حيث يحتفل به اليهود بالهتاف في الأبواق، لهذا دعى "عيد الهتاف" أو "عيد الأبواق"، كما دعى "عيد ميلاد العالم".

أما غاية هذا العيد فهو:

أولاً: بدء السنة الجديدة، وكأن عيد رأس السنة.
ثانيًا: تقديس العالم كله بكون الشهر السابع (دينيًا) هو بكر الشهور، فيه تُقام أعظم الأعياد.
ثالثًا: يرى البعض في هذا العيد إعدادًا للشعب للإحتفال بعيد الكفارة في منتصف الشهر حين يبلغ القمر كماله، فتنعم الكنيسة بكمالها خلال كفارة الصليب.
رابعًا: تذكار للشريعة التي رافقتها أصوات الرعود والبروق.

هذا العيد كغيره من الأعياد اليهودية لم تحتقره كنيسة العهد الجديد بل قدسته، خلال فكر روحي جديد. فإن كانت الأبواق والهتافات قد حملت معنيين رئيسيين ومتكاملين هما تحطيم مملكة الشر وقيام مملكة الله، لذا نسمع عن هدم أسوار أريحا التي للشر (يش 6: 5-21) خلال الأبواق، وأيضًا نجد إعلان ملكوت الله، وتكريم تابوت العهد خلال الهتافات والأبواق (1 مل 17: 20، 4: 5-8، 2 مل 6: 15)، وقد جاءت المزامير تُشير إلى الهتافات الليتورجية التي تصاحب عرش الله (مز 46: 1-7، مز 80: 2-4). كأن عيد الهتاف لم يكن طقسًا لتحديد بدء السنة أي تحديد الزمن، وإنما كان في جوهره إعلانًا عن مملكة الله وتأكيد سلطانه على الزمن[290].

وفي العهد الجديد نسمع عن طقس هذه الأبواق أو الهتاف لا لإعلان بدء سنة زمنية وإنما لإعلان بدء الأبدية أو السنة التي بلا نهاية، فيحدثنا الرسول بولس عن الأبواق التي تدعو المختارين لهذه السنة التي بلا نهاية (1 تس 4: 16، 5: 2)، كما يربط السيد المسيح مجيئه الأخير بأصوات الأبواق (مت 24: 29-31). بهذا يظهر العيد اليهودي كعنصر أساسي في تشكيل الإستخاتولوجي (الحياة الأخروية) المسيحي[291].. إنه عيدنا الروحي الذي فيه بصوت البوق نحطم أسوار أريحا التي للشر لتعلن مملكة المسيح فينا، فتبدأ فينا سنة لا تنتهي، أو أبدية دائمة.

أما ذبائح وتقدمات هذا اليوم فهي:


أولاً: محرقة الصباح الدائمة ومحرقة المساء الدائمة وتقدمتهما وسكيبهما (عد 28: 1-8).
ثانيًا: قرابين رأس الشهر (الهلال) عبارة عن محرقة من ثورين وكبش وسبعة خراف حولية وتقدمتها والسكيب، وذبيحة الخطية من تيس من المعز (عد 28: 21- 25).
ثالثًا: محرقة ثور وكبش وسبع خراف حولية وتقدمتها وسكيبها (قرابين العيد).
رابعًا: ذبيحة خطية من تيس من المعز خاصة بالعيد.

أما طقس هذا اليوم فيبدأ بتقديم المحرقة الصباحية اليومية، بعدها تقدم قرابين الشهر الجديد، وبعد ذلك قرابين العيد حيث ينفخ الكهنة في أبواق القرن، ويعزف اللاويون على آلات موسيقية ويترنم الشعب بالمزامير من بينها (مز 81). يبارك الكاهن الشعب بالبركة المقدسة، قائلاً: "يباركك الرب ويحرسك، يضيئ الرب بوجهه عليك ويرحمك، يرفع الرب وجهه عليك ويمنحك سلامًا" (عد 6: 24-26). ويلاحظ في هذه البركة يذكر إسم يهوه ثلاث مرات، إذ يتمتع الشعب ببركة الثالوث المقدس، وكانوا يتمتعون ببركة الله وهم منطرحون وساجدون على الأرض.

بعد نوال البركة الإلهية كان الشعب - في أيام الهيكل - يتوجه إلى المجامع حيث تُقرأ عليهم فصول من الكتاب المقدس (تك 21: 1-34، عد 29: 1-6، 1 صم 1: 1، 10، تك 22: 1-24، إر 31: 2-20). ثم يترنمون بالمزامير ويعودون إلى منازلهم.

في المساء يعود الشعب إلى الهيكل ليشاهد تقديم محرقة المساء اليومية، ويطلب الصفح عن خطاياه التي إرتكبها في السنة السابقة وبركة الرب في السنة الجديدة، ثم يهنئ بعضهم البعض بالعام الجديد.

line

6. عيد الكفارة:

سبق لنا الحديث عنه في تفسيرنا للأصحاح السادس عشر.

line

7. عيد المظال:

هو آخر الأعياد والمواسم المقررة في الناموس، وبه يختتم العام الزراعي. وقد سمى "عيد المظال" لأنهم كانوا يسكنون خلاله في مظال مصنوعة من أغصان الشجر [42]، كما دعى "عيد الجمع" (خر 23: 16، 34: 22)، إذ فيه ينتهون من جني جميع المحاصيل كالكروم والزيتون.

غاية هذا العيد هو تقديم الشكر لله على انتهاء العام الزراعي، وفي نفس الوقت يحمل هذا العيد تذكارًا لتغربهم في البرية حيث كانوا يعيشون في خيام، وتمجيدًا لله الذي أدخلهم أرض الموعد.

أهم سمات هذا العيد هو اتسامه بالفرح الشديد، السكنى في المظال، طقسه الفريد.

أولاً: اتسامه بالفرح الشديد، فقد عُرف هذا العيد بكثرة الذبائح والعطايا من الأغنياء ليفرح الكل (تث 16: 14)، خاصة وأنه يأتي بعد الحصاد، فيُقدم الكل مما وهبه الله حتى لا يظهروا فارغين أمام الرب. يقول يوسيفوس أن من لم ير أفراح عيد المظال لا يعرف ما هو الفرح.

ثانيًا: السكنى في المظال لمدة سبعة أيام يليها اليوم الثامن الذي يُحسب عيدًا مستقلاً بذاته له طقسه الخاص به وذبائحه ولا يبقى الشعب في المظال فيه. فقد اعتاد اليهود أن يذهبوا إلى أورشليم قبل العيد بيوم، وكان بعضهم يذهب إليها قبل اليوم العاشر من الشهر ليشترك في عيد الكفارة ويقيم هناك حتى يحتفل بعيد المظال. يبدأون في إقامة المظلات بمجرد انتهائهم من عيد الكفارة. وقد حددت المشناة أبعاد المظال، ولا يعفى من السكني فيها سوى المرضى ومرافقيهم. إذ كان الجو ممطرًا بشدة يمكن عدم البقاء الدائم فيها.

خلال السكنى في المظال يرتبط تمتع الشعب بالخيرات وفرحهم بالمحصول (تث 16: 13-16) بتذكار عمل الله معهم الذي أخرجهم من أرض مصر وأسكنهم في المظال أو الخيام حتي يستقروا في أرض الموعد (لا 23: 41-43). فإن كان هذا العيد هو عيد زراعي مفرح فهو أيضًا عيد الغربة لأجل الاستقرار في المظال الأبدية.

تحقق هذا العيد في صورة أكمل وأعمق في العهد الجديد، حين تجلى السيد المسيح على جبل تابور أمام ثلاثة من تلاميذه، وإذ رأى بطرس الرسول أن الحصاد الحقيقي قد تم إذ ظهر السيد المسيح في بهائه وحوله رجاله موسى وإيليا والتلاميذ اشتهى أن يقيم عيد مظال لا ينقطع، سائلاً السيد أن يصنع ثلاث مظال واحدة للسيد وأخرى لموسى وثالثة لإيليا، ليبقى التلاميذ في هذا العيد أبديًا (مت 17: 5).. لكن السيد المسيح أرسل مظلة سماوية من عندياته هي "سحابة منيرة ظللتهم" لكي يسحب قلب التلاميذ إلى العيد الآخروي حين يأتي السيد على السحاب لا ليقيم لهم مظال أرضية بل ليدخل بهم إلى حضن أبيه.. وقد دعى السيد الحياة الأبدية "المظال الأبدية".

ثالثًا: اتسم هذا العيد بطقسه الفريد، الذي تميز بظاهرتين متكاملتين هما سكب الماء والإنارة.

فمن جهة سكب الماء يذكر التلمود أنه ابتداء من اليوم الأول ولمدة سبعة أيام يخرج في الفجر موكبان عظيمان، أحدهما يتوجه لجمع أغصان الزيتون وسعف النخيل والأشجار الأخرى، والثاني يتوجه إلى بركة سلوام ومعه أحد الكهنة يحمل أبريقًا ذهبيًا ليغرف فيه من ماء البركة ويملأ الأبريق. وكان يرافق الموكبين جماعات المرنمين ليعود الموكبان بين الهتافات والترانيم ويصل الكل إلى الهيكل في وقت واحد، فتُقدم محرقة الصباح. ويقيم حاملو الأغصان مظلة جميلة على المذبح بينما يستقبل الكهنة زميلهم الذي يحمل الأبريق الذهبي بالنفخ ثلاثًا في الأبواق.

 يصعد الكاهن على درج المذبح ومعه كاهن آخر يحمل أبريقًا آخر من الذهب به الخمر، فيسكبان سكيب المحرقة من الماء والخمر في طاسين من الذهب مثقوبين ومثبتين على المذبح، فينساب السكيب إلى أسفل المذبح، وكان الناس يستقون الماء بفرح من بركة سلوام في أيام العيد تذكارًا لخروج الماء من الصخرة على يد موسى النبي وشرب آبائهم منها، متذكرين كلمات إشعياء النبي: "أيها الجياع جميعًا هلموا إلى المياه والذي ليس له فضة تعالوا اشتروا وكلوا، هلموا واشتروا بلا فضة وبلا ثمن خمرًا ولبنًا"، "فتستقون مياها بفرح من ينابيع الخلاص" (إش 55: 1، 12: 3).

كان الصدوقيون يرون الإقتصار على سكب الخمر وحده دون الماء. ففي حوالي عام 95 ق.م. كان رئيس الكهنة اسكندر بانياس من الصدوقيين قد سكب الماء على الأرض بعيدًا عن المذبح فثار ضده الفريسيون وأرادوا قتله، فقامت معركة بين الصدوقيين والفريسيين، وانتهت بنصرة الفريسيين، بعد أن قتل أكثر من ستة آلاف شخص.

على أي الأحوال إذ كان الماء والخمر يسكبان على المذبح تُعزف موسيقى الهيكل وترنم مزامير الهليل (مز 113-118). وكانوا عندما يأتون إلى المقاطع التالية: "احمدوا الرب لأنه صالح"، "يا رب أنقذ"، "احمدوا الرب" (مز 118: 1، 25، 29)، يلوح المتعبدون بالأغصان حول المذبح.

هذا ويظهر مدى ارتباط هذا العيد بالماء أن اليوم الثاني من العيد كان يسمى "الاحتفال الأصغر" يقام فيه احتفالات مسائية مبهجة مع بقية الأيام تسمى "فرح مجاري المياه". وقد جاء في التلمود بكل وضوح : "لماذا دُعي اسمه "مجاري المياه"؟ من أجل تدفق الروح القدس حسب ما قيل: بالفرح تنفجر المياه من ينابيع الخلاص[292]].

هذا الطقس الخاص بسكب المياه على المذبح وشربها من بركة سلوام وقد التحم بطقس الأغصان وتلويحها مع التهليل والترنم، ارتبط بطقس آخر هو طقس "الإنارة"، ففي هذا العيد تُضاء في دار الهيكل أربع منارات عالية تبلغ ارتفاع الواحدة نحو 50 ذراعًا، في أعلى كل منها أربعة سرج كبيرة من الذهب، وكانت فتائلها من ملابس الكهنة القديمة وكانت أنوارها تُرى في كل المدينة. وكان الشعب أيضًا يضيئون مصابيح في الشوارع لتصير المدينة كلها أشبه بكتلة من النور البهيج، كما كانوا يزينون المنازل بالزهور. وقد ارتبط النور بالفرح، فكان الكهنة يرقصون ويترنمون وهم على الدرجة الخامسة عشر من درجات الهيكل.

أما علة ارتباط الماء بالنور في هذا العيد فبحسب التقليد اليهودي أن عمود السحاب (الماء) والنار (النور) ظهر لأول مرة لليهود في 15 تشري، أول أيام العيد، كما أنه في نفس اليوم نزل موسى من الجبل وأعلن عن إقامة خيمة الإجتماع، وفي نفس اليوم دشن هيكل سليمان ونزلت الشكينة (1 مل 8، 2 أي 7).

هذا العيد الذي اتسم بالماء مع النور قد تقدس، بالأكثر في العهد الجديد، يحتفل به المؤمنون خلال تمتعهم بالحياة المسيانية ودخولهم إلى الأبدية. فالعصر المسياني في حقيقته هو عصر فيض المياه الحية على أرضنا البرية لتحويلها إلى فردوس حق،

وكما جاء في سفر أشعياء: "أفتح على الهضاب أنهارًا وفي وسط البقاع ينابيع، أجعل القفر أجمة ماء والأرض اليابسة مفاجر مياه، أجعل في البرية الأرز والسنط والآس وشجر الزيت، أضع في البادية السرو والسنديان والشربين معًا، لكي ينظروا ويعرفوا ويتنبهوا ويتأملوا معًا أن يد الرب فعلت وقدوس إسرائيل أبدعه" (إش 41: 18-20)، وقد رأى حزقيال النبي في الهيكل الجديد المياه الحية تخرج من عتبة البيت نحو المشرق عن جنوب المذبح..

 وإذ بأشجار كثيرة جدًا هنا وهناك ترتوي على هذه المياه (حز 47)، وحين تحدث زكريا النبي عن يوم صلب السيد المسيح قال: "ويكون في ذلك اليوم أن مياهًا حية تخرج من أورشليم" (زك 14: 8).. وإذ جاء السيد المسيح لم يعلن أنه هو موضوع هذا العيد، وإنما هو العيد[293]، تحول العيد إلى شخص ننعم به ونرتوي ونستنير، إذ يقول الإنجيلي: "وفي اليوم الأخير من العيد وقف يسوع ونادى قائلاً: إن عطش أحد فليقبل إليّ ويشرب، من آمن بيّ كما قال الكتاب تجري من بطنه أنهار ماء حيّ" (يو 7: 37-38). بهذا فإن السيد المسيح قد أعلن نفسه أنه الطقس العيّدي الذي فيه لا يشربون كآبائهم من الصخرة التي تابعتهم ولا من بركة سلوام بل يفيض في داخلهم ينابيع مياهه الحية.

 هذا أيضًا ما أكده السيد المسيح للمرأة السامرية: "كل من يشرب من هذا الماء يعطش أيضًا، ولكن من يشرب من الماء الذي أعطيه أنا فلن يعطش إلى الأبد، بل الماء الذي أعطيه أنا يصير فيه ينبوع مياء ينبع إلى حياة أبدية" (يو 4: 13-14).

من يشرب من ماء الطقس اليهودي يعطش أيضًا، لكنه إذ جاء الأصل قدم لنا روحه القدوس الماء الذي يفجر فينا ينابيع مياه حية تنبع إلى حياة أبدية، أي قادرة لا على إروائنا فحسب وإنما على تجديد طبيعتنا لننطلق إلى الحياة الأبدية السماوية. هذا هو النهر الصافي من ماء الحياة اللامع كالبللور الذي رآه القديس يوحنا الحبيب خارجًا من عرش الله والحمل (رؤ 22: 1).

وما نقوله عن المياه نكرره أيضًا بخصوص النور، فقد أكد لنا السيد المسيح: "أنا هو نور العالم" (يو 8: 12). وكما يفجر فينا ينبوع مياه حية، فإنه إذ هو العيد الحق يحولنا إلى شركة الحياة معه فنصير نحن أيضًا نور العالم (مت 5: 14).

بجانب هذين الطقسين المتكاملين "سكب الماء والإنارة"، فإننا إذ نرى الجماهير وقد تحولت إلى موكب تلوح حول المذبح بالأغصان، إنما نرى السيد المسيح "الكاهن والذبيحة في نفس الوقت"، وقد خرجت الجماهير في أحد الشعانين تلوح بالأغصان الزيتون وسعف النخل وتفرشه على الطريق (مت 21: 8).. هو عيدنا المفرح واهب النصرة! نلوح له هنا بأغصان الإيمان علامة قبولنا ملكه فينا فيهبنا سعفًا لنخل جديد في ملكوته الأبدي علامة غلبتنا به وملكنا معه (رؤ 7: 9).

أما عن طقس العيد فيبدأ هكذا في مساء اليوم الرابع عشر ينفخ الكهنة في الأبوق إعلانًا عن قدوم العيد، وينظفون مذبح المحرقة، وبعد منتصف الليل مباشرة يفتحون الأبواب حتى يتسنى للشعب أن يدخل للإشتراك في الإحتفالات العظيمة بالعيد.

بجانب الطقوس السابق ذكرها تقدم التقدمات والذبائح التالية (عد 29: 12-19):
أولاً: المحرقة الصباحية الدائمة وأيضًا المسائية مع تقدمتهما وسكيبهما.
ثانيًا: محرقة العيد يبدأ اليوم الأول بثلاثة عشر ثورًا ثم يتناقص كل يوم ثورًا فيبلغ كل الثيران سبعين ثورًا، كما يُقدم أيضًا كبشان وأربعة عشر خروفًا حوليًا كل يوم مع تقدمتهم.
ثالثًا: ذبيحة خطية للعيد من تيس من المعز.
رابعًا: ما يقدمه الشعب من ذبائح السلامة والنذور والنوافل والقرابين التطوعية إبتهاجًا بالعيد.

هذا ومع انسحاب الشعب من المذبح في نهاية كل خدمة يومية يترنمون قائلين: "ما أجملك أيها المذبح" أو "نشكرك يارب (يهوه) ونشكرك أيها المذبح"[294].

أما بالنسبة لليوم الثامن، كما قلنا يُحسب عيدًا مستقلاً، وقد دعى بالإعتكاف، حيث يتوقف الكل عن العمل ويتفرغ للعبادة.. في هذا اليوم لا يسكنون المظال ولا يلوحون بالأغصان. أما تقدمات هذا اليوم وذبائحه فهي:

أولاً: المحرقة الصباحية الدائمة وأيضًا المسائية مع تقدماتهما وسكيبهما.
ثانيًا: ذبيحة محرقة من ثور وكبش وسبعة خراف مع تقدماتها وسكيبها.
ثالثًا: ذبيحة خطية من تيس من المعز.
رابعًا: ما يقربه الشعب من ذبائح تطوعية (عد 29: 35-29).

نختم حديثنا عن المظال بما جاء في سفر التثنية وهو أن الشريعة تُقرأ أمام كل إسرائيل في هذا العيد في كل سنة سبتية "السنة السابعة" (تث 31: 9-13).

line

المراجع:
[274] للمؤلف: الرسالة إلى العبرانيين، الأصحاح الرابع.
[275]  T. Maertens: A Feast In Honour of yahweh, 1966, p. 166.
[276] City of God 22:30.
[277] المسيح في سر الأفخارستيا، 1973، ص125.
[278] On Ps. hom21.
[279] Jos. Antiq. 12:6:2, 14:4:2.
[280] المسيح في سر الأفخارستيا، الباب الأول- سّر السبت.
[281] Antiq. 2:15:1.
[282] الخروج، 62- 78، سفر العدد193.
[283] المسيح في سفر الأفخارستيا، الباب الأول- سّر الفصح.
[284] A. Edersheim, p. 257.
[285] Ibid, p. 265.
[286] الإنجيل بحسب متى، 1983.
[287] T. Maertens. A Feast in Honour of Yahweh, p. 144. Book of Jubiless 6:16- 17.
[288] Book of Jubiless 14:20.
[289] T. Maertens, p. 145.
[290] Ibid, ch 3.
[291] Ibid p. 61.
[292] Edersheim, p. 280.
[293] T. Meartens, p. 87.
[294] Edersheim, p. 285, 6.