Our App on Google Play Twitter Home أبحث

تفسير الاصحاح العاشر من سفر التثنية للقمص تادري يعقوب ملطى

غنى عطايا الله لهم


لم يقف موسى النبي عند السلبيات مهاجمًا اتكال الشعب على برّهم الذاتي، وإنما سألهم أن يسلكوا بروح إيجابية. كان يليق بهم أن يتأملوا في فيض نعمة الله وغنى عطاياه لهم. فإنه حتى بعد سقوطهم في العبادة الوثنية وتعلقهم بالعجل الذهبي، وتعبدهم له قبل الرب أن يغفر لهم، ويهبهم عطايا بلا حصر. يذكر منها أربع عطايا: إعادة كتابة لوحي الشريعة، إبقاء الكهنوت اللاوي بعدما ارتكب هرون أول رئيس كهنة خطأ فاحشًا، إفراز سبط لاوي لخدمته، قبوله شفاعة موسى عنهم.

1. إعادة كتابة لوحي الشريعة [1-5].
2. إبقاؤه الكهنوت اللاوي [6-7].
3. فرز سبط لاوي لخدمته [8-9].
4. قبوله شفاعة موسى عنهم [10-11].
5. دعوة لمخافة الرب والالتصاق به [12-22].

line

1. إعادة كتابة لوحيّ العهد:


الله عجيب في حبه للإنسان وشوقه للالتصاق به، فمع بشاعة ما فعله الشعب في أدق اللحظات كما رأينا في الأصحاح السابق، وسط هذا الفساد عاد ليكتب لهم على لوحين حجريين آخرين بإصبعه من جديد ذات الوصايا ليوضعا في تابوت العهد، معلنًا رغبته في المصالحة وإقامة العهد كما من جديد.

"في ذلك الوقت قال لي الرب:
انحت لك لوحين من حجر مثل الأولين،
واصعد إليّ إلى الجبل،
واصنع لك تابوتًا من خشب.
فأكتب على اللوحين الكلمات التي كانت على اللوحين الأولين اللذين كسرتهما وتضعهما
في التابوت" [1-2].

ماذا طلب الله من موسى؟


أولاً: إن ينحت لوحين من حجر، فإن كانت قلوبنا قد تحجرت بسبب الخطية، يلزم أن تُضرب بأدوات حادة، أي بعمل الروح القدس الناري الذي يبكت على خطية، ويهب القلب تواضعًا وانسحاقًا، فيتقبل الوصية الجديدة فيه. عِوض الاتكال على البر الذاتي يليق بنا أن نطلب من روح الرب أن يهبنا روح التواضع، فيمد الرب إصبعه، وينقش وصيته في أعماقنا.

ثانيًا: أن يصعد إلى الله على الجبل. فإن الرب يتحدث مع الجماهير عند سفح الجبل، لكنه يقدم أسراره الفائقة على الجبال العالية، مع النفوس التي تترك سفح الجبل وتصعد بروح الرب كما مع السيِّد المسيح نفسه، فتراه متجليًا على قمة جبل تابور. يصرخ المرتل قائلاُ: "رفعت عينيّ إلى الجبال من حيث يأتي عوني" (مز 121: 1).

لنهرب إلى الجبال كما علمنا السيِّد المسيح (مر 13: 14). وكما يقول العلامة أوريجانوس: [من يهرب يليق به أن يعرف الموضع الذي ينبغي أن يهرب إليه[102]]. لنترك كل ارتباطاتنا اليومية، وأفراحنا مع متاعبنا، ونصعد إلى الرب، كي نلتقي به وننعم بلمسات يده النارية، تنقش على قلوبنا وصية الحب الإلهي الناري.

ثالثًا: واصنع لك تابوتًا من خشب السنط. أول شيء طلب الله من موسى أن يصنعه عند إقامة خيمة الاجتماع بواسطة بصلئيل هو تابوت العهد. وها هو هنا يطلب أن يصنع تابوتًا من الخشب مغشى بالذهب من الداخل والخارج (خر 25: 10؛ 37: 1)، فهل طلب من موسى أن يصنع تابوتًا آخر؟!

على أي الأحوال لم يكن ممكنًا أن يقدم موسى اللوحين المنحوتين ليكتب الله عليهما بإصبعه ما لم يعد التابوت الخشبي الذي يحفظ فيه اللوحين. ما هو هذا التابوت الخشبي إلا صليب ربنا يسوع المسيح، الذي فيه تحفظ الوصية دون أن تكسر. فمن يلتصق بصليب المسيح، ويشاركه صلبه يتقبل الوصية، ويحفظها في قلبه.

رابعًا: أن يتسلم من الله اللوحين المكتوب عليهما ويضعهما في التابوت. هذه هي عطية الله الفائقة، أن نقبل ميثاقه، ونحمل وصيته بكل حرص في قلوبنا المشتركة في صليب المسيح كمخزنٍ حيٍ لها.

خامسًا: في طاعة كاملة لله وحب شديدٍ للشعب وضع موسى اللوحين في التابوت وقدمهما للشعب:

"فصنعت تابوتا من خشب السنط ونحت لوحين من حجر مثل الأولين،
وصعدت إلى الجبل واللوحان في يدي.
فكتب على اللوحين مثل الكتابة الأولى الكلمات العشر التي كلمكم بها الرب في الجبل من
وسط النار في يوم الاجتماع وأعطاني الرب إياها.
ثم انصرفت ونزلت من الجبل،
ووضعت اللوحين في التابوت الذي صنعت فكانا هناك كما امرني الرب" [3-5].

فما تمتع به موسى من عطايا إنما لحساب الشعب، نزل إليهم وقدم لهم ما سلّمه له الرب. هكذا يليق بنا أن نشتهي دخول كل نفس إلى خبرة الحياة الجديدة التي صارت لنا في المسيح يسوع. الخادم المحب هو الذي يقدم للغير لا مما له، بل مما قدمه الرب له.

ما كتبه في اللوحين هو بعينه ما سبق أن كتبه في اللوحين السابقين، فإن كلمة الله لا تحتاج إلى تصحيح أو تعديل، إنما هي ثابتة إلى الأبد.

كتب عشرة وصايا أو كلمات ولم يكتب عشرة مجلدات؛ فإنه ليس بكثرة الكلام تخلص البشرية بل بكلمة الله الممتزجة بحبه العملي.

سادسًا: إذ تسلم الشعب لوحيّ العهد أمكنهم التحرك نحو كنعان. "وبنو إسرائيل ارتحلوا من آبار بني يعقان إلى موسير" [6]. تمتعوا مع الوصية بآبار المياه ثم تحركوا، هكذا نقبل وصية الرب ونتمتع بمياه الروح القدس الذي يقودنا نحو كنعان السماوية. يليق بنا أن نبدأ رحلتنا من الآبار حيث مياه المعمودية والتمتع بالبنوة لله، ونبقى نتمتع بهذه الآبار. "من هناك ارتحلوا إلى الجدجود، ومن الجدجود إلى يُطبات أرض أنهار ماء" [7].

بني يعقان: اسم عبري معناه "أبناء يعقان، وهو اسم قبيلة يُرجح أنها من نسل سعير الحوريين وقد أطلق هذا الاسم على الآبار بنو إسرائيل، وكانت بثيروت. وقيل أنها هي البترين الحالية، على بعد ستة أميال جنوب العوجا (عد 33: 31-32).

موسير أو مسُيروت: اسم عبري معناه "رباط" أو "رباطات"، وهي بالقرب من جبل هور (عد 33: 30-31).

الجدجود أو حور الجدجاد: وهو اسم عبري معناه "كهف جدجاد" (عد 33: 32). ربما تقع على وادي غدغودة أو غداغد، التابع لوادي جيرافي، شمال كونتيلة الجيرافي، شمالاً إلى الشمال الغربي من خليج العقبة.

يُطبات: اسم عبري معناه "طيبة"، وهو محلة من محلات بني إسرائيل في البرية (عد 33: 33) غربي البرية. يظن أنها الطابة على بعد 22 ميلاً شمالي العقبة.

line

2. إبقاؤه الكهنوت اللاوي:


لقد غضب الرب جدًا على هرون ليُبيده (9: 20)، فصلى أخوه موسى من أجله، وقبل الرب صلاته عنه، لهذا أكمل هرون عمله الكهنوتي، وتسلم ابنه العمل من بعده.

"هناك مات هرون، وهناك دُفن.
فكهّن ألعازار ابنه عِوضًا عنه" [6].

عِوض هرون سار ألعازار رئيس الكهنة الجديد مع الشعب وانطلق بهم نحو كنعان، إلى "أرض أنهار ماء" [7]. فإن عمل رئيس الكهنة هو أن يدخل بشعب الله إلى ينابيع مياه الروح القدس التي تحوّل بريتهم القاحلة إلى فردوسٍ سماوي، يحمل ثمار الروح.

line

3. فرز سبط لاوي لخدمته:


أظهر الله حنوّه على شعبه بعد سقوطهم في عبادة العجل وصلاة موسى عنهم، إذ عاد يؤكد فرز سبط لاوي لخدمته، وأن يكون هو نفسه وليس الأرض نصيبهم.

"في ذلك الوقت أفرز الرب سبط لاوي ليحملوا تابوت عهد الرب،
ولكي يقفوا أمام الرب ليخدموه،
ويباركوا باسمه إلى هذا اليوم.
لأجل ذلك لم يكن للاوي قسم ولا نصيب مع اخوته.
الرب هو نصيبه كما كلمه الرب إلهك" [8-9].

اختيار الله هرون وبنيه كهنة ليكون هو نفسه نصيبهم، صورة حية لعطية الله لذاته المجانية وليس عن بر ذاتي.

حمل سبط لاوي تابوت العهد الحافظ للوحي الشريعة، وكأنهم يحملون الوصية الإلهية المقدسة كسرّ حياة وبركة لكل من يقبلها عاملة في حياته، وحالّة في قلبه.

line

4. قبوله شفاعة موسى عنهم:


بسبب عبادة العجل تعطّل الموكب، لكن موسى مكث أربعين يومًا صائمًا ومصليًا يشفع في شعبه حتى لا يهلك، فقبل الرب صلاته وطلب منه أن يتحرك مع الشعب لكي يدخلوا

ويمتلكوا الأرض.

"وأنا مكثت في الجبل كالأيام الأولى أربعين نهارًا وأربعين ليلة،
وسمع الرب لي تلك المرة أيضًا.
ولم يشأ الرب أن يهلكك.

ثم قال لي الرب:

قم اذهب للارتحال أمام الشعب،
فيدخلوا ويمتلكوا الأرض التي حلفت لآبائهم أن أعطيهم" [10-11].

كان موسى رمزًا للسيد المسيح الذي صام عنا، وبذل ذاته لمصالحتنا مع أبيه، حتى لا نهلك، بل ندخل به إلى حضن الآب ونرث مع المسيح المجد الأبدي.

+ بينما يوجد الكثير في العالم ليُحب، فمن الأفضل أن يُحب من خلال العلاقة بذاك الذي خلقها.
العالم جميل، لكن الذي خلقه أجمل منه.
العالم مجيد، لكن الذي أسس العالم هو أكثر بهجة.

لذلك يلزمنا أن نعمل قدر المستطاع أيها الأحباء أن نحب العالم دون أن يبتلعنا، وألا نحب الخليقة أكثر من الخالق. الله يهبنا ممتلكات أرضية لكي نحبه بكل قلبنا ونفسنا. لكننا أحيانًا نثير غضب الله علينا حينما نحب عطاياه أكثر من الله نفسه.

نفس الأمر يحدث في العلاقات البشرية. افترض أن إنسانًا يقدم عطية خاصة لمن تحت وصايته. فذاك الذي تحت الوصية يبدأ يستخف بالمعطي ويحب العطية أكثر من الذي يهبها. افترض أنه لا يفكر في المعطي كصديق بل كعدو. هكذا تكون العلاقة مع الله إننا نحب بالأكثر الذين يحبوننا لأجل ذواتنا وليس لأجل عطايانا لهم. هكذا يُعرف الله بأنه يحب من يحبونه أكثر من حبهم للعطايا الأرضية التي يهبها[103].
الأب قيصريوس أسقف آرل

line

5. دعوة لمخافة الرب والالتصاق به:


إن كان في الأصحاح السابق قد عرض في مرارة بشاعة ما فعله إسرائيل منذ دعوتهم للخروج حتى اللحظات التي يتحدث فيها موسى معهم. وقد ركز على سقوطهم في سبك العجل الذهبي والتعبد له، مع اشتراك رئيس الكهنة نفسه في العمل، وأيضًا ركز على التكرار المستمر للتذمر، إذ لم يحدث مرة أو مرتين كلحظات ضعف عاشوا فيها، بل صارت أشبه بطبيعة تعمل فيهم. الآن بروح الرجاء المفرح يحثهم على التقوى أو التمتع بمخافة الرب والالتصاق به. موضحًا النقاط التالية:

أولاً: الله لا يحتاج إلى خدمة الإنسان ولا إلى عطاياه، بل يطلب قلبه وحبه الخالص.

"فالآن يا إسرائيل ماذا يطلب منك الرب إلهك،
إلا أن تتقي الرب إلهك،
لتسلك في كل طرقه وتحبه وتعبد الرب إلهك من كل قلبك، ومن كل نفسك.
وتحفظ وصايا الرب وفرائضه التي أنا أوصيك بها اليوم لخيرك.
هوذا للرب إلهك السموات وسماء السموات، والأرض وكل ما فيها" [12-14].

جاءت الكلمات "السموات وسماء السموات" جميعها بصيغة الجمع، فماذا عنيَ بها؟ يرى البعض أن الكلمة الأولى يقصد بها جلد السماء، والثانية الفضاء وما يضمه من كواكب، والثالثة "سموات السموات" هي موضع القدِّيسين في الأبدية مع مصاف الطغمات السمائية.

+ إنه لا يحتاج إلى شيء نعطيه له، وهذا برهان خاص على الحب الخالص، عندما ذاك الذي لا يحتاج إلى شيء، وليس في ضرورة إلينا، يفعل كل شيء من أجل أن نحبه. لذلك يقول موسى: "ماذا يطلب منك الرب إلهك إلا أن تحبه وأن تكون مستعدًا للسير وراءه؟!" [12].

عندما يأمرك أن تحبه فإنه يظهر فوق الكل أنه يحبك. ليس شيء يضمن خلاصنا مثل أن نحبه[104]. القدِّيس يوحنا الذهبي الفم

ماذا يطلب الله منك؟

سؤال يقدمه موسى النبي في أواخر حياته على الأرض لشعبه، يليق بكل مؤمن أن يردده في قلبه وفكره ليراجع نفسه، ويجيب بكل أمانة عليه.

لقد طلب الله من موسى النبي أن ينحت له لوحين من حجر ويصنع تابوتًا من الخشب [1] وقام الله بكتابة الوصية.. فماذا طلب من الشعب؟

لم يطلب منهم أن يقدموا الذبائح الحيوانية، ولا ذكّرهم بالشرائع الخاصة بالتطهيرات، ليس لعدم أهميتها، وإنما لأنه قد أقام الله ألعازار بن هرون كاهنًا [6]، وأكد إفراز سبط لاوي لخدمته [8]، وهو يعلم أن الشعب يجد تجاوبًا في تنفيذ الطقوس، لكنه خشي أن ينشغل الشعب بالشكليات ويفقد الأعماق الداخلية الخاصة بالشركة مع الله. لهذا جاءت الوصايا الإلهية في الأحاديث الوداعية لموسى النبي تؤكد محبة المؤمنين لله ومخافتهم له من كل القلب والنفس، والطاعة للوصية. كما ركّز على محبة القريب خاصة الأيتام والأرامل والغرباء، بهذا يُقيم منهم كواكب منيرة في السماء [22].

جاءت الإجابة على السؤال: ماذا يطلب منك الرب إلهك؟ هي:

أ. لا يطلب لنفسه شيئًا لأن للرب سماء السموات والأرض وكل ما فيها، فهو ليس في عوزٍ إلى شيءٍ ما. وكما يقول المرتل: "قلت الرب أنت ربي ولا تحتاج إلى صلاحي"[105] (مز 16: 2).

+ لا يحتاج الله إلى صلاحنا، بل نحن نحتاج إلى صلاحه.
القدِّيس غريغوريوس أسقف نيصص

+ قل لي: ما هو نفع الله أن أكون بارًا (عادلاً)؟! وماذا يضيره أن أكون شريرًا؟! أليست طبيعته غير قابلة للفساد؟ لا يصيبها ضرر، وفوق أيضًا أي ألم؟ ليس لدى العبيد مهما كانوا أغنياء شيء ما من عندياتهم، بل ما لديهم هو من سادتهم[106].
القدِّيس يوحنا الذهبي الفم

ب. يطلب ما هو لك وهو أن تتقيه، أي تتمتع بمخافته التي هي بدء الحكمة، وقائد لك في حياتك. المخافة التي ترتبط بالحب، مخافة الابن الذي يخشى جرح مشاعر أبيه.

كثيرًا ما يتحدث موسى النبي في هذا السفر عن "مخافة الرب" أو أن نتقيه، مازجًا الخوف بالحب، كما في العبارات السابقة. يقول الأب ماتيروس: [إنه من اللائق أن تقف أمام الله بعقل يقظ متنبه برعدة وخوفٍ مع التهاب الروح بالفرح والحب العميق[107]]

(رو 12: 11-12).

الإنسان الروحي المملوء حبًا لله يحمل أيضًا مخافة مقدسة تهبه جدّية في حياته ممتزجة بالسلام. يقول القدِّيس يوحنا الذهبي الفم: [الإنسان الهزلي في تعاملاته ليس قديسًا. فحيث توجد النجاسة يكون الهزل؛ وحيث يكون الضحك في غير أوانه يكون الهزل؛ أصغ إلى قول النبي: "اعبدوا الرب بخوفٍ وهللوا له برعدة" (مز 2: 11). الهزل يسلم النفس إلى التنعم والتكاسل. إنه يثير النفس بصورة غير لائقة، فكثيرًا ما تجنح إلى أعمال العنف وتوجد حروبًا[108]].

ج. أن تسلك في كل طرقه، فلا تنحرف يمينًا أو يسارًا، بل تتمتع بالطريق الإلهي الملوكي. لا تسلك حسب هواك، ولا حسب طرق الناس التي قد تضللك، بل تحمل إرادة الله عاملة فيك.

د. تحبه، فتدرك حبه لك، وتختبر الدفء الحقيقي لأبوته وصداقته.

هـ. تعبده من كل قلبك وكل نفسك، فتنال كرامة الوقوف أمامه والشركة مع السمائيين في حياتهم السماوية وفرائضه بكونها مصدر الحياة والشبع واللذة والاستنارة!

ثانيًا: الله يود أن يلتصق بنا، لكي نتمتع به بكونه حياتنا.

"ولكن الرب إنما التصق بآبائك ليحييهم،
فاختار من بعدهم نسلهم الذي هو أنتم فوق جميع الشعوب كما في هذا اليوم" [15].

اختياره لنا ليس إلا لأنه يطلب حياتنا، مقدمًا ذاته مصدر حياة. واضح أن الوصايا في هذا الأصحاح بدأت بالتزامات الإنسان نحو الله أن يحبه ويتقيه ويعبده، ثم بالالتزام نحو القريب خاصة الأيتام والأرامل والغرباء وأخيرًا نحو الإنسان نفسه حتى يُحصى الإنسان ضمن نجوم السماء المتلألئة.

لقد أكد في أكثر من موضع أن الرب هو نصيب شعبه، وفي هذا الأصحاح يؤكد أنه نصيب خدامه اللاويين. ليس لأنه في احتياج إليهم إذ له "السموات وسماء السموات والأرض وكل ما فيها" [14]، إنما لكي يلتصقوا به فيحيون ويقتنون. يصير لهم مالك السماء وسماء السموات وكل الأرض.

ثالثًا: الله يطلب ختان القلب

"فاختنوا غرلة قلوبكم،
ولا تصَلِّبوا رقابكم بعد" [16].

واضح أن الله منذ العهد القديم لا يطلب من فرائضه ووصاياه ممارسات جسدية بحتة، بل يطلب ما يمس كياننا الداخلي. فإن كان قد وضع ختان الجسد علامة قبول الميثاق مع الله، فإن ما يطلبه هو ختان القلب والروح. لا يطلب بتر جزء من جسم الإنسان، بل بتر جذور الفساد والخطية من أعماق النفس. بختان القلب يمكن للمؤمن أن يتمم الوصية العظمى التي هي الاستماع لله والحب له من كل القلب ومن كل النفس ومن كل القوة، وبهذا يتمم كل الناموس.

وكما يقول الرسول بولس: "لأن اليهودي في الظاهر ليس هو يهوديًا، ولا الختان الذي في الظاهر في اللحم ختانًا، بل اليهودي في الخفاء هو اليهودي، وختان القلب بالروح لا بالكتاب هو الختان" (رو 2: 28-29).

يربط النبي بين ختان القلب وعدم تصلب الرقبة، لأن من يقبل الختان الروحي، ويمارس بالروح الموت عن شهوات الجسد تنحني أعماقه بالطاعة لله في فرح شديد، ويكون الإنسان مستعدًا في الداخل لحمل نير المسيح بلذةٍ وشوقٍ.

رابعًا: يدعونا للانتساب إلى الله نفسه الذي هو إلهنا، رب الأرباب وإله الآلهة، الذي يشتهي أن نكون أرباب وآلهة، نحمل شبهه ونصير أيقونة حيّة له، فيكون ربًّا للأرباب وإلهًا على الآلهة. وهو في هذا يشتاق أن ينتسب الكل إليه دون محاباة ولا خلال رشوة، بل ينتسب إلينا أن تقدست أعماقنا.

"لأن الرب إلهكم هو إله الآلهة ورب الأرباب،
الإله العظيم الجبار المهيب،
الذي لا يأخذ بالوجوه ولا يقبل رشوة" [17].

لاحظ الفكر الأسمى عن وحدانية الله في [17] فإن هذه الفكرة تتخلل السفر كله وهي حجر الزاوية في تعليمه. إنه الإله المرهوب القدير، الذي لا تقف أمامه الآلهة الوثنية والأرباب الباطلة. يشتاق إلى الانتساب إلى الإنسان المتواضع، ليس عن ضعف ولا عن عجز أو احتياج، بل خلال الحب.

خامسًا: يدعونا إلى الاهتمام بالمرذولين والمحتاجين والمطرودين والغرباء، متشبهين به.

"الصانع حق اليتيم والأرملة،
والمحب الغريب ليُعطيه طعامًا ولباسًا،
فأحبوا الغريب لأنكم كنتم غرباء في أرض مصر" [18-19].

إذ يختبر المؤمن مراحم الله واهتمامه به خاصة حين كان في عوزٍ أو ضيقٍ يلزمه يرد هذا الحب بالحب نحو المعتازين والذين في ضيقة. هكذا يربط النبي محبتنا لاخوتنا بحبنا لله نفسه.

سادسًا: الدعوة لمخافة الرب والالتصاق به والاعتزاز به، متذكرين عجائبه الدائمة معنا.

"الرب إلهك تتقي إياه تعبد وبه تلتصق وباسمه تحلف.
هو فخرك وهو إلهك الذي صنع معك تلك العظائم والمخاوف التي أبصرتها عيناك.
سبعين نفسا نزل آباؤك إلى مصر
والآن قد جعلك الرب إلهك كنجوم السماء في الكثرة" [20-22].

نسبح الله ليس فقط الذي نسمع عنه ، ولا الذي صنع عجائب مع آبائنا، بل نتمتع بخبرة الحياة معه. وكما يقول القدِّيس يوحنا الحبيب: "الذي رأيناه بعيوننا، الذي سمعناه بآذاننا، الذي لمسته أيدينا من جهة كلمة الحياة" (1 يو 1).

العجيب يفتخر كثير من الأشرار بانتسابهم لإبليس، بينما يخجل بعض المؤمنين من إعلان إيمانهم بالله والحديث عنه.

أخيرًا يختم هذا الأصحاح بتأكيد عمل الله القائم على حبه واختياره: "سبعين نفسًا نزل آباؤك إلى مصر والآن جعلك الرب إلهك كنجوم السماء في الكثرة" [22]. يقول القدِّيس غريغوريوس أسقف نيصص: [بإن الذين نزلوا إلى مصر 75 نفسًا (أع 7: 14؛ تك 46: 27؛ تث 10: 22). نفهم من هذا أنها لم تكن نفوسًا مجردة بل أناسًا لهم أجساد، هكذا عندما نسمع أن المسيح صار جسدًا، أو أخذ جسدًا، إنما أخذ الطبيعة البشرية كلها[109]].

line

من وحي تثنية 10


أقمني كاهنًا يا رئيس الكهنة الأعظم

+ برجاساتي كسرت عهدي معك،
لكنك تطلب مني أن أنحت مع موسى حجرين.
لقد تحجر قلبي تمامًا،
من ينقش عليه ناموسك سوى روحك الناري!
لتُحول قلبي إلى لوحي عهد أودعهما في تابوت عهدك.
لأحمل مع الكهنة التابوت بتقديسك لكل كياني!

+ أخطأت مع هرون رئيس كهنتك وسبكت لي تمثالاً!
لترد لي كرامة كهنوتي.
بالصفح عني وتقديس قلبي!

+ أفسدت عمل الكهنوت،
عد واعمل فيً،
فأذكر أنك أنت نصيبي يا مُشبع أعماقي!

+ شفع موسى في هرون وكل الشعب.
دمك يشفع فيّ، ويرد لي برك.
في خجل أعترف لك:
كم مرة كسرت عهدك؟
كم مرة شوّهت جمال عملك فيّ؟
كم مرة نسيت كهنوتي؟
الآن ارجع إليك بروح المخافة الربانية.
ردني إليك فأنت أنت الكل لي.

line
المراجع:
[102] Origen: Commentary on Matthew, 41.
[103] Sermons 159:6.
[104] In 2 Cor. hom. 30:4.
[105] Comm. On Canticle , sermon 4.
[106] In 1 Tim. Hom. 16.
[107] Book of Perfection, 2.
[108] In Eph. Hom., 17.
[109] See St. Gregory of Nyssa: Against Eunomius, Book 2: 13.