Our App on Google Play Twitter Home أبحث

تفسير الاصحاح التاسع من سفر التثنية للقمص تادري يعقوب ملطى

بماذا يتبرر الشعب؟


في الأصحاح السابق ركّز موسى النبي على تأكيد أن ما يتمتع به الشعب من بركات ليس هو ثمر برّهم الذاتي، إنما هو عطية مجانية من قبل الله الذي يشتهي أن يدخل معهم في ميثاق. يدخل بهم إلى القفر لكي يُدركوا قفر طبيعتهم الداخلية، ويبعث إليهم موسى قائدًا ليُعلن أنه مهتم بهم، يحملهم إليه شخصيًا. إنه أمين في مواعيده بالرغم من عدم أمانتهم.

وفي هذا الأصحاح أوضح أن الله أقام عهده مع شعبه ليسكب فيض بركاته، لا لأجل برّ الإنسان الذاتي [1-6]، بل من أجل أمانة الله في وعوده. الله في أمانته قدم لشعبه الشريعة، بينما عبد الشعب العجل الذهبي [7-21]. لم يقف موسى النبي في سلبية أمام هذا الجرم العظيم، بل يشفع في شعب الله مذكرًا إيّاه بالوعود الإلهية [22-29].

ويلاحظ أن ذكرى أحداث حوريب في (9: 7، 10: 11) وعرض التفصيلات الخاصة بالزمان والمكان يرجح أنها طبعت أثرًا عميقًا على ذهن موسى، كل هذه تنهض دليلاً قاطعًا جامعًا على صحة نسبة السفر إلى موسى النبي.

1. الله هو قائد المعركة [1-3].
2. النصرة ليست بسبب برّهم الذاتي [4].
3. هزيمة الأمم بسبب شرّهم [4-5].
4. أمانة الله في مواعيده مع آبائهم [5 (ب)-6].
5. شعب متذمر منذ البداية [7].
6. شعب يعبد العجل أثناء تسلم الشريعة [8-15].
7. غضب موسى النبي وكسر لوحيّ العهد [16-19].
8. اشتراك رئيس الكهنة في خطأهم [20].
9. قبول سحق العجل عِوضًا عن سحقهم [21].
10. سلسلة من التذمر والسخط [22-24].
11. موسى النبي يشفع فيهم [25-29].

line

1. الله هو قائد المعركة:


"اسمع يا إسرائيل أنت اليوم عابر الأردن لكي تدخل وتمتلك شعوبًا أكثر وأعظم منك،
ومدنًا عظيمة ومحصنة إلى السماء،
قومًا عظامًا وطُوالاً بني عناق الذين عرفتهم وسمعت من يقف في وجه بني عناق.
فاعلم اليوم أن الرب إلهك هو العابر أمامك، نارًا آكلة.
هو يبيدهم، ويذلهم أمامك، فتطردهم وتهلكهم سريعًا كما كلمك الرب" [1-3].

يرى البعض أن بقوله "اسمع يا إسرائيل"، أنها عظة جديدة قدمها موسى ربما في السبت التالي بعد العظة السابقة[96].

منذ حوالي 38 عامًا كانوا بالقرب من أرض الموعد، لكن لم يكن قد حلّ ملء الزمان لدخولهم، إذ لم يُسمح لهم بذلك بسبب طبيعة التمرد التي سيطرت على قلوبهم. الآن في الشهر الحادي عشر من السنة الأربعين من الرحلة صدر الأمر: "اليوم عابر الأردن". وفي اليوم الأول من السنة الجديدة عبروا إلى أرض الموعد، خلال هذا الشهر مات موسى النبي.

ربما تتشابه الكلمات التي نطق بها موسى النبي في هذه العظة مع الكلمات التي نطق بها الجواسيس (عد 13: 28، 33)، لكن شتّان ما بين الروح الذي نطق به موسى ليُعلن أمانة الله في تحقيق وعوده لشعبه، فيعبر أمام شعبه كنارٍ آكلة تحرق كل مقاومة، وبين روح الجواسيس الذي يُحطم الإيمان ويُفقد النفوس رجاءها في التمتع بالوعود الإلهية.

يؤكد أن إسرائيل يواجه أممًا وشعوبًا أكثر في العدد، وأعظم في القوة وفي خبرة الحرب، وليس كالشعوب البدائية التي كانت تقطن أمريكا أو أستراليا تتسم بالبساطة وعدم النظام الخ. مع هذا فإن الله نفسه يقوم بدور القيادة، وتكون الحضرة الإلهية هي سرّ نصرة الشعب.

يليق بالشعب أن يجاهد ويحارب، معتمدًا على الوعد الإلهي: "كما كلمك الرب" [3]. ما ينعم به الشعب من نصرة هو عطية إلهية، وليس عن قدرة بشرية. بحسب المنطق البشرى لن يقدر هذا الشعب أن يغلب ويملك، لكن هذه النصرة عطية مقدمة من إله المستحيلات، الصانع العجائب. إنه يدخل بنا إلى المعمودية (الأردن) لكي نملك معه (رؤ 5: 10)، محطمًا كل قوى العدو (بنى عناق).

سرّ القوة "إن الرب إلهك هو العابر أمامك نارًا آكلة" [3]. إن كانت سهام العدو ملتهبة نارًا (أف 6: 16) فإن الرب يقيم نفسه سور نارٍ حولنا (زك 2: 5)، محطمًا هذه السهام عنا.

line

2. النصرة ليست بسبب برّهم الذاتي:


يحذرهم موسى النبي من الكبرياء والتشامخ، فإنه ليس بسبب برّهم ينالون النصرة، بل بسبب أمانة الله.

"لا تقل في قلبك حين ينفيهم الرب إلهك من أمامك قائلاً:
لأجل برّي أدخلني الرب لأمتلك هذه الأرض" [4].

إن نسبنا النصرة لله يمجدنا ويكللنا، أما إن نسبناها إلى برّنا الذاتي يسحب نعمته المجانية، ونفقد النصرة، ونصير في هوانٍ وعارٍ. فمن جهة الطبيعة البشرية هو "شعب صلب الرقبة" [6]، إنما من أجل الوعد الإلهي والعهد الذي يقيمه مع الإنسان بقسمٍ [5] يملك الإنسان. لنتمسك بالعهد الإلهي فهو يحول قسوة قلبنا إلى برّ المسيح.

line

3. هزيمة الأمم بسبب شرّهم:


إن كان من أجل غني مراحم الله يهب الله مؤمنيه قوة ونصرة، فإن إبادة الأشرار وهلاكهم هو ثمر طبيعي لشرهم وفسادهم، فإن الله ليس بظالمٍ.

"ولأجل إثم هؤلاء الشعوب يطردهم الرب من أمامك.
ليس لأجل برّك وعدالة قلبك تدخل لتمتلك أرضهم،
بل لأجل إثم أولئك الشعوب يطردهم الرب إلهك من أمامك" [4-5].

يتمجد الله في مؤمنيه بعطاياه المجانية، ويتمجد في الأشرار المصممين على شرهم وعنادهم بدمارهم. الذين يرذلهم الرب، إنما بعدالة يستحقون أن يُرذلوا، أما الذين يقبلهم فليس من أجل برّهم الذاتي، بل من أجل مراحمه المجانية الفائقة.

الله في محبته للإنسان يؤكد أن ما يحل بالأمم الشريرة ليس من قبيل ممارسة الله سلطانه، إنما بسبب شرهم. وهو في هذا يقدم درسًا لشعبه، إنه وإن قدّم لهم الأرض مجانًا من أجل غنى نعمته، وليس لأجل برّ فيهم، فإنهم إن تمادوا في الشر يكون نصيبهم كنصيب الأمم السابقة لهم، سيطردهم شرهم هم أيضًا.

لا نعجب إن كان الله – في ملء الزمان – قد قطع الأغصان الطبيعية، أي اليهود، بسبب جحدهم الإيمان بالمسيا المخلص، وطعّم الأغصان البرية لتأتي بثمر الروح. بروح التواضع وعدم التشامخ على الأغصان المقطوعة.

line

4. أمانة الله في مواعيده مع آبائهم:


"ولكي يفي بالكلام الذي أقسم الرب عليه لآبائك إبراهيم واسحق ويعقوب.
فاعلم أنه ليس لأجل برّك يعطيك الرب إلهك هذه الأرض الجيدة لتمتلكها،
لأنك شعب صلب الرقبة" [5-6].

لقد أقسم لآبائهم الذين أحبّوه، فقدم لأبنائهم ميراثًا، ليس عن استحقاقهم الذاتي بل من أجل أمانة الله. فاختيار العازر بن هرون كاهنًا يوحي بغفران خطية هرون. هكذا دامت وظيفة رئيس الكهنة.

line

5. شعب متذمر منذ البداية:


"اذكر، لا تنسَ كيف أسخطت الرب إلهك في البرية،
من اليوم الذي خرجت فيه من أرض مصر حتى أتيتم إلى هذا المكان كنتم تقاومون الرب" [7].

بعد أن أكد أنه ليس بسبب برهم الذاتي بل من أجل أمانة الله في مواعيده مع آبائهم يعطيهم الميراث أوضح لهم أنهم لم يمارسوا البرّ، بل كانوا مملوءين تذمرًا وسخطًا منذ بداية الطريق وهم في مصر عند خروجهم، وبقوا هكذا عبر الطريق كله أثناء التيه في البرية. كانت طبيعتهم هي التذمر، مارسوه منذ البداية حتى نهاية رحلتهم.

هنا يسجل موسى النبي خبرته المُرّة مع شعبه الذي دعاه "صلب الرقبة" [6]، دائم السخط من اليوم الذي خرجوا فيه من مصر حتى بلغوا إلى أرض موآب، يحملون روح المقاومة للرب.

line

6. شعب يعبد العجل أثناء تسلم الشريعة:


سبق لنا الحديث عن إقامة العجل الذهبي في دراستنا لسفر الخروج، الأصحاح 32. واقتبسنا ما قاله مار أفرآم السرياني: [أُستبعد موسى النبي عنهم إلى حين حتى يظهر العجل الذي كان قدامهم، فيعبدوه علانية، هذا الذي كانوا يعبدونه خفية في قلوبهم[97]].

مما أحزن قلب موسى أن الشعب في أقدس اللحظات التي كان الله فيها يتحدث مع موسى مقدمًا شريعته له التي تحذر بشدة من العبادة الوثنية؛ كان موسى صائمًا أربعين يومًا وأربعين ليلاً لا يأكل خبزًا ولا يشرب ماءً، وكان الجبل يدخن بالنار في حوريب؛ إذا بالشعب يزوغ عن الحق، وفي عناد وصلابة رقبة يصب عجلاً ذهبيًا يتعبد له.

في الموضع الذي فيه استلموا الشريعة، كسروها وفي نفس لحظات استلامها. بينما كانت عيونهم لا زالت تنظر الجبل متقد نارًا لم تلن قلوبهم، بل صبّوا العجل الذهبي بسبكه في نارٍ متقدة.

"حتى في حوريب أسخطتم الرب،
فغضب الرب عليكم ليُبيدكم" [8].

هكذا يُعبّر موسى النبي عن بشاعة خطيتهم حتى أن الرب أراد إبادتهم في اللحظات التي فيها أراد أن يقدم لهم كل محبة ورحمة.

"حين صعدت إلى الجبل لكي آخذ لوحي الحجر،
لوحي العهد الذي قطعه الرب معكم،
أقمت في الجبل أربعين نهارا وأربعين ليلة لا آكل خبزًا ولا اشرب ماءً.
وأعطاني الرب لوحي الحجر المكتوبين بإصبع الله،
وعليهما مثل جميع الكلمات التي كلمكم بها الرب في الجبل من وسط النار في يوم الاجتماع.
وفي نهاية الأربعين نهارًا والأربعين ليلة لما أعطاني الرب لوحي الحجر لوحي العهد.

قال الرب لي:

قم انزل عاجلاً من هنا، لأنه قد فسد شعبك الذي أخرجته من مصر،
زاغوا سريعًا عن الطريق التي أوصيتهم
صنعوا لأنفسهم تمثالاً مسبوكًا.
وكلمني الرب قائلاً:
رأيت هذا الشعب وإذا هو شعب صلب الرقبة.
اتركني فأبيدهم وأمحو اسمهم من تحت السماء وأجعلك شعبًا أعظم وأكثر منهم.
فانصرفت ونزلت من الجبل والجبل يشتعل بالنار ولوحا العهد في يدي" [9-15].

كان موسى في أمجد لحظات عمره على الأرض، إذ كان على قمة الجبل يتمتع برؤية ظل مجد الله، ويتسلم الشريعة التي سجلها الله على لوحين ونحتها كما بنارٍ إلهية، وقد اهتز الجبل كله وامتلأ دخانًا وضبابًا. توقع عند نزوله أن يرى الشعب كله، رجالاً ونساءً، أطفالاً وشيوخًا لا يشغلهم شيء سوى استلام الشريعة.

ظن أنه يرى عيونهم شاخصة نحو قمة الجبل، نسوا أكلهم وشربهم ونومهم في وسط هذا المجد العظيم. لكن نفسه تحطمت تمامًا إذ عِوض النار الإلهية طلبوا من رئيس الكهنة أن يوقد نارًا يلقون فيها الحُليّ الذهبية ليصب لهم عجلاً مسبوكًا يكون لهم إلهًا.

الذهب الذي سمح لهم الله أن يأخذوه من المصريين عِوض سنوات ذلهم وعبوديتهم قدموه للعبادة الوثنية لإغاظة الله مخلصهم.

لقد أساءوا استخدام عطية الله، فكان يليق بالأقراط الذهبية التي سمح لهم أن يأخذوها أن يستخدمها النساء والفتيات وليس الأبناء. لكن الشعب في تدليل وعدم التزام جعلوا بنيهم يلبسونها، إذ قال لهم هرون: "انزعوا أقراط الذهب التي في آذان نسائكم وبنيكم وبناتكم وأتوني بها" (خر 32: 2). هذا الانحلال دفعهم إلى العبادة الوثنية فسحبوا الأقراط لصبها عجلاً.

صارت البركات بالنسبة لهم لعنة، وكما يقول على لسان النبي: "ألعن بركاتكم، بل قد لعنتها، لأنكم لستم جاعلين في القلب" (ملا 2: 2).

الجبل الجامد الصخري اتقد بالنار لإعلان الحضرة الإلهية، وقلوب شعب الله تحجرت لتشعل نارًا بشرية تشكل لهم إلهًا حسب قلوبهم الرديئة.

الاجتماع [10] جاءت في الترجمة السبعينية "إكليسيا" والتي تعني كنيسة، وقد اقتبسها استفانوس في خطابه "الكنيسة التي في البرية" (أع 7: 38). والكلمة تعني الاجتماع معًا في مكان خاص، وفيها معنى الفرز والاجتماع.

line

7. غضب موسى وكسر لوحي العهد:


"فنظرت وإذا أنتم قد أخطأتم إلى الرب إلهكم،
وصنعتم لأنفسكم عجلاً مسبوكًا،
وزغتم سريعًا عن الطريق الذي أوصاكم بها الرب،
فأخذت اللوحين وطرحتهما من يدي وكسرتهما أمام أعينكم.
ثم سقطت أمام الرب كالأول أربعين نهارًا وأربعين ليلة لا آكل خبزًا ولا أشرب ماءً من أجل
كل خطاياكم التي أخطأتم بها بعملكم الشر أمام الرب لإغاظته.
لأني فزعت من الغضب والغيظ الذي سخطه الرب عليكم ليُبيدكم.
فسمع لي الرب تلك المرة أيضًا" [16-19].

كأنه يقول لهم أي برّ تفتخرون به عند دخولكم أرض الموعد، وأي استحقاق لكم وأنتم أفقدتموني وعْيي حين نظرت ما لم أكن أتوقعه.

+ نقرأ أن الشريعة كتبت بإصبع الله، وأعطيت خلال موسى، خادمه المقدس. يرى الكثيرون إصبع الله أنه الروح القدس[98].
القدِّيس أغسطينوس

كسر موسى النبي اللوحين الحجريين أمام أعين الشعب ليُعلن لهم أنهم قد كسروا الناموس، وصاروا تحت لعنة العصيان. الآن وقد جاء السيِّد المسيح ليُقدم لا لوحيّ حجر بل روحه القدوس الناري، فينقش ناموس العهد الجديد على القلب، في الأعماق الداخلية. وكما يقول الإنجيلي: "لأن الناموس بموسى أُعطيَ، وأما النعمة والحق فبيسوع المسيح صارا" (يو 1).

بينما كان الله يقدم لوحي الشريعة لموسى، وكان موسى صائمًا من أجل خطايا الشعب [18]، والجبل يشتعل نارًا [15]، أي أن الله ونبيه والطبيعة كانوا يعملون لحساب الشعب، إذا بالشعب يفسد مُلزمًا هرون أن يقيم لهم العجل الذهبي.

كان موسى في أسعد لحظات عمره وهو في حضرة الرب يتسلم نيابة عن الشعب كله، بل وعن البشرية، شريعة الرب، في جوٍ رهيبٍ للغاية. يقف صائمًا لا يأكل ولا يشرب أربعين يومًا، في عزلة كما عن العالم كله، على الجبل المتقد نارًا، يلتقي مع خالق السماء والأرض، الذي ينقش بإصبعه الإلهي الشريعة على لوحين من الحجارة. كان يود أن ينزل إلى الشعب ليقدم لهما اللوحين كلوحي عهد بين الله والإنسان، لكنه عاد ليجد العهد قد انكسر بسرعة لم يتوقعها.

ألقى بلوحي العهد على الأرض فانكسرا، ليُدرك الكل أنهم كسروا العهد بإغاظتهم الرب.

عبّر موسى النبي عن فزعه الشديد لا بالتقائه مع الرب وسط النار، بل بإدراكه السخط الإلهي الذي حلّ عليهم لإبادتهم تمامًا.

لقد صام للمرة الثانية أربعين يومًا أخرى وتوسل عن شعبه، وسمع له الرب تلك المرة أيضًا. إذن أين هو برّهم الذي يفتخرون به؟!

line

8. اشتراك رئيس الكهنة في خطأهم:


لقد اشترك رئيس الكهنة معهم في الخطأ، إذ قام بسبك الذهب وصنع تمثال العجل للتعبد له. كان يليق بذاك الذي يضع على جبهته صحيفة ذهبية مكتوب عليها "قدس للرب" أن يُقاوم خطأ الشعب، لكنه عِوض تقديس الشعب ورفع غضب الله عنهم، سقط هو تحت الغضب الإلهي.

"وعلى هرون غضب الرب جدًا ليُبيده" [20].

عندما تحدث موسى النبي عن غضب الرب على الشعب وسخطه لم يقل "غضب الرب جدًا"، لكنه قال ذلك عندما تحدث عن خطأ رئيس الكهنة. ليس عند الله محاباة، فإن من يعرف كثيرًا ولا يعمل يُضرب كثيرًا. خطية الراعي أكثر خطورة من خطية الشعب، لهذا فإن الله يؤدب الرعاة بحزمٍ أشد من تأديب الشعب عندما يُخطئوا.

+ إن شرف الكهنوت عظيم، لكن إن أخطأ الكهنة فهلاكهم فظيع.
+ لا يخلص الكاهن لأجل شرفه، إنما إن سلك بما يليق بشرفه[99].
القدِّيس جيروم

+ إنني أخشى لئلاَّ إذا تسلمت القطيع في حالة جيدة ومنتعشة، وبعدم مهارتي أفسده، فأغيظ الله ضدي، هذا الذي يحب القطيع حتى بذل ذاته لأجل خلاصه وافتدائه[100].

+ الرجل العلماني إذا زلّ ينتصح بسهولة، وأما الإكليريكي فإذا صار رديئًا يضحى غير قابل للنصح[101].

القدِّيس يوحنا الذهبي الفم عِوض أن يشفع رئيس الكهنة في الشعب صار محتاجًا إلى من يشفع فيه:

"فصليت أيضًا من أجل هرون في ذلك الوقت" [20].

من يستطيع أن ينطق بهذه الكلمات غير موسى، فإنه حتى هرون لم يحفظ الوصية الخاصة بعدم العبادة للأوثان بعد أن توقفت علامات حضور الرب المنظور!

line

9. قبول سحق العجل عِوض عن سحقهم:


استحق الشعب أن يُسحقوا بسبب بشاعة خطيتهم حتى في اختيارهم للمكان والتوقيت. لكن من مراحم الله أنه قبِل أن يُحرق العجل ويرضض ويُطحن ثم يُذرى كالغبار في النهر عِوض أن يُصنع هكذا بالشعب.

لقد صار الشعب على شبه من تعبدوا له، وقبِل الرب سحق الشبه والعفو عنهم.

"وأما خطيتكم العجل الذي صنعتموه فأخذته وأحرقته بالنار ورضضته وطحنته جيدًا حتى نعِم كالغبار،
ثم طرحت غباره في النهر المنحدر من الجبل" [21].

line

10. سلسلة من التذمر والسخط:


لقد بدأ الشعب بالسخط والتذمر من قبل خروجهم من مصر، ورافقهم هذا السخط في البرية، حتى بلغ الذروة في حوريب، أثناء تسلم موسى الشريعة. وقد صام موسى وتشفع فيهم، ومع هذا لم تتغير طبيعتهم المتذمرة، فصارت حياتهم سلسلة لا تنقطع من التذمر والسخط، يذكر على سبيل المثال:

"وفي تبعيرة ومسّة وقبروت هتأوة أسخطتم الرب.
وحين أرسلكم الرب من قادش برنيع قائلاً:
اصعدوا امتلكوا الأرض التي أعطيتكم
عصيتم قول الرب إلهكم ولم تصدقوه ولم تسمعوا لقوله.
لقد كنتم تعصون الرب منذ يوم عرفتكم" [22-24].

يذكرهم موسى أيضًا بالعصيان، إذ أمرهم الرب في قادش برنيع أن يصعدوا ليملكوا، لم يصدقوا ولا سمعوا لقوله (9: 22-24، راجع عد 13؛ 32: 8).

line

11. موسى يشفع فيهم:


"فسقطت أمام الرب الأربعين نهارًا والأربعين ليلة التي سقطتها،
لأن الرب قال إنه يهلككم.
وصليت للرب وقلت:
يا سيد الرب، لا تهلك شعبك وميراثك الذي فديته بعظمتك،
الذي أخرجته من مصر بيدٍ شديدة.
اذكر عبيدك إبراهيم واسحق ويعقوب.
لا تلتفت إلى غلاظة هذا الشعب وإثمه وخطيته.
لئلاَّ تقول الأرض التي أخرجتنا منها:
لأجل أن الرب لم يقدر أن يدخلهم الأرض التي كلمهم عنها،
ولأجل أنه ابغضهم أخرجهم لكي يميتهم في البرية.
وهم شعبك وميراثك الذي أخرجته بقوتك العظيمة وبذراعك الرفيعة" [25-29].

إن الأمر خطير للغاية فقد سقط موسى أمام الرب ليصلي ليلاً ونهارًا من أجل الشعب. يرى البعض أنها بخلاف الأربعين يومًا التي صامها للمرة الثانية ويُعيد الرب الكتابة على لوحيّ العهد، وإن كان البعض يرى أنها ذات الأربعين يومًا.

صلى موسى للرب وذكّره بوعده مع آبائهم إبراهيم واسحق ويعقوب، طالبًا ألا يلتفت إلى غلظة قلوبهم وإثمهم وخطيتهم. ليذكر أنه شعبه الذي صنع معه عجائب لإنقاذه!

يقول آدم كلارك: [يهب الله بركات كثيرة لأشخاص غير مستحقين نسبيًا، إما لأجل أسلافهم الأتقياء، أو بسبب أشخاص متدينين مرتبطين بهم، لهذا فإن الاتحاد مع كنيسة الله هو بركة عظيمة].

لم يبرر موسى نفسه، لكنه بالحب صام وصلى وطلب من الله أن يعمل من أجل عهده مع أسلافهم المباركين.

من وحي تثنية 9


من يشفع فيَّ،
فإني دائم التذمر!

+ بماذا أتبرر أمامك يا فائق الحب.
إني إنسان دائم التذمر.
اشترك مع شعبك القديم في روح التذمر.
انطلقوا من مصر متذمرين،
عِوض أن يمجدوك يا واهب النصرة.
رافقهم تذمرهم حتى في أروع اللحظات.
كان الجبل لا زال متقدًا بالنار من أجلهم،
وحمل موسى لوحيّ العهد المكتوبين بإصبعك.
السماء والطبيعة حتى الحجارة تشهد لحبك.
مع هذا كسروا عهدك قبل استلامهم لوحيّ العهد.
هرون الكاهن الأعظم صار محتاجًا إلى من يشفع فيه عندك!
من ينقذني من خطاياي غيرك يا صانع العجائب.

+ استبدلوك بعجلٍ ذهبي يا من حركت كل الطبيعة لحسابهم.
عوض القداسة مارسوا الرجاسات لإغاظتك.
من يجدد فكري وقلبي وإرادتي غيرك؟!

+ نفسي مُرّة في داخلي!
مع كل فسادي كثيرًا ما أنسب بركاتك إلى بري الذاتي.
أنت وحدك سرّ كل برّ حقيقي.
أنت واهب القداسة ومعطي البركات.

line
المراجع:
[96] Matthew Henry Commentary.
[97] Hom. 2, On Our Lord 1:17.
[98] St. Augustine: On Ps. 8.
[99] الحب الرعوي، 1965، ص147.
[100] المرجع السابق، ص160.
[101] المرجع السابق، ص164.