بالنسبة لنا نحن المصريين، أظن أن هناك ارتباطًا شرطيًّا بين الكتاب والشتاء. مثلما هناك ارتباطٌ أدبى معنوى بين الكتاب وبداية العام؛ ربما لأن القراءةَ هى البداية. بدايةٌ لكلِّ جميل وثرى. وثمّةُ ارتباطٌ عملى بين

الكتاب وبرودة الطقس؛ لماذا؟ هل لأن القراءة تمنحُ الدفءَ للعقل والقلب معًا؟! ربما. فى العام 2021، وهو العامُ الذى تلى حظر كورونا، بعدما صمت معرضُ القاهرة الدولى للكتاب عن الكلام عامًا. فى ذلك العام أخلفَ المعرضُ
موعدَه المعتاد وزارنا فى شهر يونيو بسبب الجائحة، وها هو يعود إلينا فى يناير لنُطفئ شمعتَه السادسة والخمسين، ونتمنى معه أمنيةً جميلة لمصر الجميلة. معرض القاهرة الدولى للكتاب أحد أضخم وأقدم معارض الكتب فى
العالم، وأكبر معرض كتاب فى العالم العربى، يزوره سنويًّا أكثر من مليونى زائر، ويعرض كتبًا لمئات دور النشر من كل أرجاء الدنيا. أنشأته الهيئة المصرية العامة للكتاب عام 1969، احتفالًا بعيد الميلاد الألف لمدينة
القاهرة، التى تأسست رسميًّا عام 969م، بينما كان ميلادُها الفعلى قبل الميلاد بألفى عام وعُرفت بأسماء شتى: أون، منف ممفيس، هليوبوليس، الفسطاط، بابليون مصر، العسكر، القطائع، وغيرها، قبل أن يستقرَّ اسمُها الحالى الجميل: القاهرة.
وكذب مَن قال إن القراءة للتثقف والمعرفة. وكذب من قال إنها للاستمتاع وحرق أوقات الفراغ. القراءةُ أبعد من هذا وأشدُّ أثرًا. القراءةُ دواءٌ مجانى لأمراض البدن والأعصاب والدماغ. انهلوا من
إكسير الحياة فى مركز مصر للمعارض الدولية بالتجمع الخامس، هذه الأيام، لأن فى القراءة حياة. فقد أثبت الطبُّ أن مَن يقرأ يوميًّا غالبًا لا يضربه مرضُ آلزهايمر، الوحش الذى يأكل ذاكرة
الإنسان ويلتهم تاريخه. فى دراسة نشرتها مجلةُ: Destination Sant حول علاقة القراءة بالصحة العقلية، قالت: اقرأوا الكتبَ، الصُّحفَ، المجلات، والعبوا الشطرنج، ولا تستسلموا للكسل!. تلك النصيحةُ
الموجزةُ هى نِتاجُ دراسات مكثفة قام بها باحثون عالميون، خرجوا على إثْرِها بتوصيات تقول إن على الإنسان أن يُشغِّلَ ويُفعِّلَ خلاياه الذهنيةَ والعصبيّة باستمرار، وطيلةَ عمره. لأن تلك
الخلايا ليست إلا عضلاتٍ مثلها مثل أى عضلة فى الجسم؛ تفقدُ قدرتها على العمل إن رَكنَتْ إلى الكسل والرخاوة، وتنشطُ قواها إن مُرِّنَتْ وأُجهِدَت فى التدريب المستمر. تمامًا مثلما يمرّن
الرياضيون عضلاتهم بالركض اليومى والتريّض. وأكّد الباحثون أن الدماغَ، شأنُه شأنَ الساقين والذراعين والخِصْر، يحتاجُ إلى تمارينَ دائمةٍ، لإبعاد شبح آلزهايمر، وغيره من الأمراض العقلية
والجسدية. ولهذا السبب ربما أطلقتِ العربُ اسمَ رياضيات على عِلم الجبر والتفاضل والتكامل وحساب المثلثات... إلخ، لأنها ليست إلا رياضةً للذهن. فهى للدماغ مثلما الرياضةُ للبدن. وهنا نقطةٌ
تُحسَبُ لعبقرية اللغة العربية على اللغات الأخرى التى أطلقت على ذلك العلم أسماء مثل Mathematics المشتقة من الجذر الإغريقى Mathema التى تعنى: ما تمَّ تعلّمه، أو معرفته. وكانت الكلمة تُطلق على
معظم العلوم وحتى الفلك، قبل أن ينفرد الاسمُ فقط بعلم الرياضيات المعروف حاليًا، من جبر وحساب مثلثات وتفاضل وتكامل، وغيرها من رياضات الذهن الجميلة. وأتذكر الآن العبارة المدهشة التى
كتبها الفيلسوفُ الإغريقى أفلاطون على باب أكاديميا التى كان يشرح فيها لطلابه مبادئ الفلسفة: (مَن لا يعرفُ الرياضيات والهندسة لا يدخل علينا). هنا يتأكد لنا العلاقة الوثقى بين علم المنطق وبناء الذهن الصحى السليم.
أجرى الباحثون دراستَهم على نحو سبعمائة شخصٍ يبلغون من العمر ثمانين عامًا. وجاءتِ النتيجةُ كالتالى: كبارُ السنّ النُّشطاء ذهنًا، معرضون بنسبة أقلّ للإصابة بمرض آلزهايمر، مقارنةً بأشخاص لم يمارسوا أىَّ نشاط
فكرى خلال أعمارهم. وإذًا، تكفى قراءةُ كتابٍ من وقتٍ إلى آخر، للوقاية من أمراض الشيخوخة الذهنية مثل الخَرَف والنسيان والتراجع العقلى وفقدان القدرة على التحكم فى الوظائف الحيوية. لهذا قيل إن مَن يقرأ يعش ألفَ
حياة، لا حياة واحدة. وأجرت الأممُ المتحدة دارساتٍ وأبحاثًا حول عادات القراءة لدى مختلف شعوب العالم. أفادتِ تلك الدراساتُ أن معدَّلَ ما يقرؤه الفردُ، سنويًّا، على طول العالم العربى وعرضه، هو ربعُ صفحة فقط
(!)، فيما معدّلُ ما يقرؤه الفردُ الأمريكى أحد عشرَ كتابًا، والبريطانى ثمانية كتب، كلَّ عام. أما الإسرائيلى المحتلّ فيقرأ أربعةَ كتبٍ شهريًّا، أى ثمانية وأربعين كتابًا كلّ العام! مصادفةٌ عجيبة لرقم حزين (48)! وبه
فى معرض الكتاب لا يُباع الكتاب، بل تُقدّم مفاتيحُ الأبواب المؤدية إلى عوالم السحر. كل غلافٍ عتبة، كل صفحةٍ خطوة، وكل فكرةٍ ضوءٌ ينير بقعة معتمة من العقل. كلّ معرض كتاب ومصرُ جميلة ومشرقة وآمنة. اقرأوا تصحّوا؛ لأن فى القراءة حياة.