نتحدّث كثيراً كمثقفين عن التسامح وقبول الآخر، ولكننا نقولها ونُردّدها بطريقة المثل الشعبى حسنة وأنا سيدك، نقولها بنبرة تعالٍ وفوقية، نتحدّث إلى المختلف عنا فى الدين أو اللون أو الجنس أو الفكر أو الميول.. إلخ، وكأننا نتفضّل عليه، من

باب المنحة والهبة والتنازل، وهذه هى معضلتنا ومشكلتنا الفكرية الأساسية التى تُعطل مجتمعاتنا عن الدخول فى روح المدنية والحداثة، لم تنفذ إلى روحنا وخلايانا ونخاعنا، لم نصل إلى درجة الامتزاج التى وصفها د. زكى نجيب محمود بالعصارة فى الزيتونة.
أولاً لا بد أن نعرف ما هو التسامح Tolerance وما هو القبول Acceptance؟، هما كلمتان بمعنيين مختلفين، ومعظمنا للأسف لم يصل حتى إلى التسامح الذى هو درجة أدنى من القبول!، Tolerance
التسامح والتحمل هو أن تقبل بوجود الآخر المختلف معك، حتى لو لم توافق على أفكاره أو سلوكه، من الممكن أن يكون عندك جفوة وفجوة ونفور نفسى، قد لا تحب درجة هذا الاختلاف،
لكنك فى النهاية كمواطن متحضّر تختار عدم قمعه، وتركه يمارس حريته، وهذا هو الحد الأدنى فى الدولة المدنية، وبدونه لا يمكن أن نعتبر هذا المجتمع مجتمعاً متسامحاً مدنياً حداثياً.
القانون لا بد أن يمنعك من التمييز أو الاعتداء على حرية الآخر المختلف، حتى لو كانت قناعاتك الشخصية رافضة أو مستنكرة، إذا كنت شخصاً لا يوافق على دين أو أسلوب حياة شخص آخر، جار أو زميل، لا بد فى النهاية أن تحترم حق هذا الآخر فى ممارسة شعائره أو أسلوب حياته.
نأتى إلى الـAcceptance القبول، صعدنا درجة أعلى، ليس فقط أن تسمح بوجود الآخر، بل أن تعترف بشرعيته والمساواة الكاملة له، أن تنفتح عليه بجد، بمشاعر ود حقيقية، واعتراف بأن
التنوع جزء طبيعى من المجتمع ومن الحياة، هذا هو المستوى الأعلى، حيث تُبنى العلاقات والسياسات على المساواة التامة، لا على مجرد الامتناع عن الإقصاء، هنا أنت شخص لا
يكتفى بالسماح لآخر بممارسة دينه، بل أنت شخص ترى فى ذلك إثراءً للمجتمع، تشارك فى مناسباته وتتعاون معه كمواطن مثلك تماماً، ببساطة الـTolerance أن أتركك تعيش كما تريد رغم خلافى معك.
أما الـAcceptance فهو أن أرحّب بك كما أنت، وأراك مساوياً لى تماماً، باللغة العامية زيى زيك. فى العصور الوسطى التسامح كان يقدم كمنحة هشّة، تتآكل وتتبخر فى أى وقت،
وبالمزاج، تاريخياً فى أوروبا فى تلك القرون الوسطى، الدين كان جزءاً لا يتجزّأ من السلطة السياسية، والاختلاف المذهبى أو الفكرى كان يُعد تهديداً للوحدة الدينية
والسياسية، هنا كان التسامح مجرد امتياز شخصى أو جماعى يمنحه الملك أو الحاكم، ويُمكن سحبه بسهولة، ومنعه بدون أى إحساس بالذنب، وعلى حسب مود وعقلية الملك، ودرجة تعصّبه، يكون القرار.
بعض الملوك على سبيل المثال منحوا بعض اللجوء الدينى أو الملاذ للهروب من الاضطهاد لبعض الأقليات، مثل منح اليهود العيش فى مدن معيّنة مقابل ضرائب أو خدمات، مع إمكانية طردهم لاحقاً كما حدث فى إنجلترا 1290 وإسبانيا 1492، الآن الوضع فى الدول التى استقر فيها هذا العرف وتلك القوانين صار القبول أبجدية تعامل، وقانون تعايش، حقاً وليس منحة.