دخل على صحفى زميل، ودون مقدمات وجدته يتحدث بحماس عن شجرة العذراء فى منطقة الزيتون التى ينزل منها الزيت، ويتجمع حولها آلاف المواطنين الذين جاءوا اليها من كل مكان، دون أن يعرف أحد من أخبرهم ولا كيف تجمعوا فى ساعات قليلة.
كان دهشة الزميل متجددة لا يبددها الوقت الذى استغرقه حتى وصل إلى مكتبى بالجريدة التى كنت أتولى مسئولية تحريرها، ولا إعادته للحكاية التى كان حريصا على روايتها لكل من يقابله.
كان فى كل مرة يزداد حماسا ويقينا، بأن ما يحدث فى منطقته وبالقرب من بيته معجزة كاملة بكل المقاييس، ولما شكك بعض الزملاء فيما يقوله محتجا بأن ما يحدث ليس الا بعضا من الخرافات التى يدمنها المصريون، وجدته غاضبا، فما رآه بعينيه لا يمكن أن يكون خرافات أبدا.
لم يكن الزيت الذى ينزل من الشجرة ورآه بنفسه هو ما جعله يعيش هذه الحالة التى مؤكد أنها كانت روحانية تماما، ولكنه كان يتساءل: من أين عرف الناس ما جرى، وتجمعوا على وجه السرعة.
وقتها لم يكن الخبر انتشر من الأساس، ولم تكن لدينا منصات التواصل الاجتماعى التى تستطيع إذاعة الخبر فى دقائق قليلة فيعرفه الملايين دون مجهود يذكر... وكانت هذه فى حد ذاتها معجزة أضافها الزميل الصحفى إلى معجزة نزول الزيت من شجرة العذراء.
لم أجد امامى فى حقيقة الأمر إلا أن أتفاعل مع ما قاله الزميل المتحمس الذى كان يتحدث بيقين، وإلا أصيب بالإحباط الشديد، فقد شعرت أنه يحتاج فقط لأن يصدقه أحد... أى أحد.
وضعت القصة بتفاصيلها على الصفحة الأولى، وهو ما احتج عليه البعض بأننى بما فعلته روجت لخرافة تناقض العقل.
فشجرة الزيتون ليست الا شجرة عادية حتى لو ارتبط اسمها بالسيدة العذراء.
وليس معنى أن بعضا ممن تلمسوا منها البركة وقضيت حاجاتهم أنها شجرة مباركة، أو أن العذراء مدت يدها اليهم ومسحت على جباههم وطبطبت على ظهورهم.
فتحت كتب التاريخ لأعرف قصة هذه الشجرة وحقيقتها.
توقفت قليلا أمام المؤرخ الإسلامى تقى الدين المقريزى، فوجدته يقول أن العائلة المقدسة حطت رحالها عندما قدمت إلى مصر بالقرب من عين شمس ناحية المطرية، وهناك استراحت إلى جوار عين ماء، غسلت فيه ثيابها وثياب طفلها الصغير.
تصادف وهى تفعل ذلك أن تدفق الماء على الأرض من حولها، فأنبت الله نبات" البلسان"، وهو نبات يستخرج منه "عطر البلسم" ولم يظهر إلا فى هذا المكان، وهناك أزهرت شجرة عرفت باسم السيدة العذراء، تحولت إلى مزار ومكان للتبرك، وكان من الطبيعى أن تنسج حولها الأساطير، فمن يناجى السيدة أمامها تقضى حاجته مهما كانت صعبة وعسيرة ومعقدة ومستحيلة.
ولك أن تعى ما قاله البعض من أن شجرة العذراء كانت تجعل ببركة السيدة الطاهرة النساء ممن لا يستطعن الحمل حوامل.
فى العام 1656 ميلادية جرت على الشجرة عوادى الزمن، أدركها الوهن وأحاط بها الضعف، فسقطت، ولا يسألنى أحد: ولماذا لم تحمها السيدة العذراء من الوهن والسقوط؟
فهذا ما جرى، وكان طبيعيا جدا أن يجرى، فحكم الزمن لا يستطيع أن يرده أحد.
لم يترك الكهنة شجرة العذراء على حالها، أخذوا فرعا من فروع الشجرة التى أسلمت أمرها لله، وقاموا بزرع الفرع بجوار الكنيسة المجاورة للشجرة القديمة، فنمت وتفرعت وعاد إليها بهائها، فهى فرع من أصل.
بدأت الوفود تتجدد على الشجرة قاصدين وجه السيدة العذراء، فالبركة بركتها والنعمة نعمتها والخير خيرها... فهى الشفيعة والمغيثة وجابرة الخواطر.
ومن بين ما يحيط الشجرة من حكايات أنه وأثناء الحملة الفرنسية على مصر 1879 1801، زار جنود الحملة شجرة العذراء، وكتب بعضهم أسماءهم على فروعها بأسنة سيوفهم، وكان يقال أنه لكى تتأكد من ذلك فليس عليك إلا أن تزور الشجرة لترى بعينيك.
أغلقت حكايات التاريخ، وما قاله المؤرخون، وما سجلوه فى كتبهم.
عدت إلى حالة زميلى التى بدت روحية تماما وهو يتحدث عن نظرات الحاجة والضعف والعوز فى عيون من أحاطوا بشجرة العذراء، محاولين تلمس الزيت بأيديهم، فقد أرادوا الحصول عليه ثقة منهم أن فيه البركة كلها.
لم أنكر على زميلى حالته، ولم ألتفت لمن قالوا لى أننى أروج بما نشرته الخرافات التى لا تليق بمن يعمل بمنهج علمى رصين، ومن يفكر بمنطق لا يمكن أن يتسلل إليه الخيال ولو بقيد أنملة.
عقليا سلمت لمن انتقدوا النشر تماما.
لكن عاطفيا لم أتماه معهم.
فرغم أننى كنت أعرف عن ذلك الكثير، لكننى لا أستطيع إنكار الحالة الروحية التى تتشكل من خلالها علاقة المعوزين بالسيدة العذراء، هؤلاء الذين يذهبون الى كنائسها، وكل ما يرتبط بها واضعين همومهم بين يديها طالبين
منها أن تحنو عليهم بنظرة، وهى النظرة التى يكون لها أثر السحر، وعندما يحكم القدر براحة المتعبين، لا ينظرون الى الأسباب المادية التى يحكم الله من خلالها فى كونه، ولكن يعتبرون أن بركة العذراء هى التى حلت عليهم.
كثيرة هى الأشياء التى تحيط بنا وتفتقد المنطق، نبحث لها عن تفسيرات عقلية فلا نجد، نفتح كتب العلم لتعيننا على استيعاب ما يجرى، لكنها تظل صماء لا تنطق، وهو ما يجعلنا نستسلم تماما.
قف مثلا أمام صاحب حاجة وهو يؤكد لك أن العذراء كانت فى عونه، وأن حاجته لم تقض إلا بعد أن لجأ إليها.
هل يمكن أن تحدثه عن الأسباب التى لابد أن يأخذ بها؟
هل يمكن أن تقول له أن يركن إلى قوانين الله فى الأرض؟
وما الذى يمكن أن تفعله إذا قال لك: وما الذى يجعلك تنكر أن كرامات العذراء ومعجزاتها من بين قوانين الله التى تعمل فى الأرض؟
مؤكد أنك ستضع وجهك فى الأرض دون أن تكون قادرا على مناقشته أو إقناعه بشئ، لأنه ليس عندك ما تقنعه به من الأساس.
ليس عليك إلا أن تجرب، فقط تخلص من كل قناعاتك القديمة وهواجسك التى تؤرقك، والصور الراسخة فى وجدانك وأنت تستقبل ما سيقولونه عما قدمته ولا زالت تقدمه السيدة العذراء.
ففى كل كنيسة من كنائس السيدة العذراء المنتشرة على الأرض مصر، تستمد منها اسمها وبركتها، يمكن أن تسمع قصة معجزة وحكاية كرامة، عند كل أثر عليه اسمها يمكن أن تسمع لصوتها وتحاصرك عيناها.
فمن ينتظرون معجزاتها يتعاملون معها على أنها قائمة بينهم، فأم الرب ترعى أبناءها ولا تغفل عنهم أبدا... والسيدة المتواضعة تحتضن المعوزين جميعا لا تفرق بينهم... والمرأة التى كان التسليم عنونها، تقول للمحتاجين: هلموا إلى يا كل من أتعبتكم الحياة.
ليس من حقك أبدا أن تتعالى على من يهيم عشقا فى السيدة العذراء، لأنها قدمت له يد العون.
ليس من حقك أبدا أن تنكر عليه ما يذهب إليه فى حبها، فالمصريون فى عشقهم له مذاهب، وكلها صحيحة ومقبولة حتى لو لم تكن منطقية.
معجزات مريم العذراء هنا ليست ملكا للمسيحيين فقط، فهى لا تطلب ممن يلجأون إليها شهادة ميلاد أو رقم قومى، أو تطلب منهم أن يمدوا أيديهم أمامهم لترى الصليب يزينها، ولكنها تفتح ذراعيها لكل من يقصدها مسيحى، مسلم، ملحد.
كل من يحمل اليها وجعه تنظر اليه بعين الرضا.
وهل يمكن للموجوعين فى الحياة إلا أن يطلبوا الرضا ويرضون به.
الحق أقول لكم.
معجزة السيدة العذراء ليست فى شجرة تحمل اسمها فالعذراء ليست شجرة.
ولا فى صورة معلقة على جدار كنيسة... فليست بالصور وحدها تتحرر القلوب المعلقة على أوتار الحيرة.
ولا فى أيقونة تطل بوجهها الصبوح على من يتطلعون اليها منها... فالأيقونات ليست إلا دليل لطريق طويل تنتظر فى آخره من تهفو نفوسهم إليها.
معجزة العذراء الحقيقية فى الإيمان بها، فآمنوا بها تبسط يديها لكم.