Our App on Google Play Twitter Home أبحث

تفسير الاصحاح الحادى عشر من سفر يشوع للقمص تادري يعقوب ملطى

المؤامرة الكبرى


إذ إِحتل يشوع المنطقتين الوسطى والجنوبية أرسل يابين ملك حاصور إلى الملوك المحيطين به، خاصة ملوك المنطقتين الشمالية والشرقية، ليخرج الكل معًا دفعة واحدة لمحاربة يشوع، فدفعهم الرب في يده وأعطاه كل أرضهم ميراثًا له.

1. يابين والمؤامرة الكبرى [1].
2. حلفاء يابين [1-4].
3. موقعة مياه ميروم [5-8].
4. عرقبة خيلهم [9].
5. الإبادة التامة للشر [10-22].
6. استراحت الأرض [22].

line

1. يابين والمؤامرة الكبرى


إذ سمع يابين ملك حاصور بانتصارات يشوع أرسل إلى الملوك المحيطين به في الشمال والشرق، فاجتمعت الجيوش معًا شعبًا غفيرًا كالرمل على شاطئ البحر وبخيل ومركبات كثيرة جدًا لمحاربة يشوع ورجاله.

كلمة "يابين" في رأي البعض هي لقب خاص بكل ملوك كنعان، مثل "فرعون" بالنسبة لملوك مصر، وأبيمالك في فلسطين، وحارث لملوك شمال بلاد العرب. أما معنى الكلمة بالكنعانية فتعني "الله يراقب"، وإن كان العلامة أوريجانوس يرى أنها تعني "أفكارًا" أو "مهارة". وبلدة "حاصور" تعني بالعبرية "حظيرة" وفي رأي العلامة أوريجانوس تعني "قصر".

ويعتقد البعض أن هذه المدينة كانت تقع على مياه ميروم، ولعلها هي تل القدح على بعد أربعة أميال غرب جسر بنات يعقوب، وقد اكتشفت بقايا المدينة من عصور الكنعانيين والعبرانيين.

يرى العلامة أوريجانوس أن ما فعله يابين ملك حاصور إنما يرمز لما يفعله الشيطان أو الأفكار الشيطانية من إثارة للحروب الروحية في العالم كأنه قصره أو حظيرته، معطيًا مثلاً بهذه الأفكار التي ألقاها في قلب ملك بابل حين سقط في الكبرياء مصممًا أن يهدم حصون الشعوب وينهب كنوزهم، كما رأى في يابين رمزًا للحية أمكر حيوانات الأرض التي استطاعت أن تفسد حياة البشرية وتهدم سلامها وتفقدها الفردوس! إذًا فيابين بكونها تعني أفكارًا أو مهارة إنما تُشير إلى أفكار الشيطان المتعجرفة أو حيله ومهارته في خداع البشرية، أما "حاصور" أي "حظيرة أو "قصر"، فكما يقول العلامة: [الأرض كلها هي قصر هذا الملك الذي نال السلطان على الأرض كلها وكأنها قصره، إنه الشيطان!.. مكتوب في الأناجيل أن القوي ينام في قصره في أمان حتى يأتي من هو أقوى منه فيكبله بالأغلال وينزع ممتلكاته. إذًا ملك القصر هو رئيس هذا العالم[190]].

line

2. حلفاء يابين


حرض يابين بقية الملوك على القتال وكأن الأفكار الشيطانية المتعجرفة والمملوءة خداعًا تثير كل طاقات الإنسان والظروف المحيطة به للعمل لحساب مملكته عوض العمل لحساب مملكة يشوع الحقيقي، من بين هؤلاء الملوك:

أولاً: يوباب ملك مادون: "يوباب" بالعبرية تعني (صراخ)، أما "مادون" فبالكنعانية تعني (خصومة)، ويرجح أنها ضربة مادين بالقرب من حطين في الجليل. ويرى العلامة أوريجانوس أن "يوباب" يعني (عداوة)، و"مادون" يعني (مرارة). لذلك يقول: [يرسل الشيطان (يابين) إلى قوة أخرى معادية منتسبة بالطبع إلى الملائكة المتمردين، أي إلى ملك المرارة. فمن هذا الملك وأعماله تحلّ المرارة والصعوبات ببني البشر المساكين الزائلين.

حقًا إن كل أنواع الخطايا مُرّة، فإنه ليس شيء أمر منها حتى وإن حملت في البداية شيئًا من الحلاوة وذلك كما كتب سليمان.. وعلى النقيض فإن البر يبدو في البداية مرًا، لكن نهايته أحلى من العسل، وذلك عندما يقدم ثمار الفضيلة[191]]. هكذا إذ يحمل إبليس طبيعة البغضة والكراهية خاصة ضد الإنسان الإناء الضعيف موضوع حب الله الذي يحتل مركز إبليس وجنوده قبل سقوطهم، لا يكف عن إثارة كل ما هو مرّ ضدهم حتى يفقدهم فرحهم في الرب ولذتهم الروحية وسلامهم الداخلي.

ثانيًا: ملك شمورن: أما الملك الثاني فهو ملك "شمورن" وفي رأي العلامة أوريجانوس أن كلمة "شمورن" تعني (إستماع)، مقارنًا بين شمورن وصموئيل، فإن الأخير ثمرة إِستماع الله لصوت الإنسان وصلواته (1 صم 1: 20)، أما الأول "شمرون" فيمثل" الاستماع لصوت إبليس ووصاياه". هكذا يسعى إبليس بكل طاقته أن يقيم له مملكة بين البشر، يخضعون لشريعته التي جوهرها الظلم والدنس!

ثالثًا: ملك أكشاف: هذا هو الملك الثالث الذي يستدعيه يابين ملك حاصور. أما "أكشاف" ففي رأي العلامة أوريجانوس فتعني (ما أسرع زوال هذا!) كأن مملكة إبليس في الواقع تقوم على ما هو سريع الزوال، لكنه سيتخدم كل خداعاته ليجتذب البشرية إلى مملكته ليعطيهم ما هو زائل وسريع الفناء! إن كان شمرون يجتذب الإنسان ليسمع صوت إبليس، فإن ملك أكشاف يقدم من عندياته ما هو في الحقيقية لا شيء! يقول العلامة أوريجانوس: [هذا هو نص كلمات إبليس: "أعطيك هذه جميعها إن خررت وسجدت ليّ" (مت 4: 10). فإن كنت تخدم يسوع تجاوبه هكذا: (إني أعبد سيدي وإلهي وليس آخر غيره).

أما أعوان إبليس فيسمعون له كما فعل ملك شمرون الذي إِستمع ليابين وذهب لمحارية يشوع[192]]. لكن ماذا نال شمورن من سماعه لصوت يابين وإغراءاته سوى الهلاك والموت؟! ونحن أيضًا إذ ننصت لصوت العدو طالبين الملذات الأرضية، مقاومين عمل يسوعنا الحق، فماذا ننال؟! يقول العلامة أوريجانوس: [ما أسرع زوال الملذات، وما أقرب فنائها، هذه التي يظنها الخطاة دائمة!![193]].

رابعًا: الملوك الذين في الجبل شمالاً: كما تُشير إلى الجبال المقدسة إلى مملكة الله تقوم عليها مدينة الله التي لا يمكن إخفاؤها، وعليه يتجلى الرب أمام أنبياءه وتلاميذه، رجال العهدين القديم والجديد، والراقدين والأحياء، فقد عرفت الشياطين لها جبالاً تملك عليها، هي أفكار الكبرياء المتشامخة، حيث تنطلق بالنفوس إليها لكي تنحدر منها إلى الهاوية.

خامسًا: ملك العربة جنوب كنروت: يرى العلامة أوريجانوس أن كلمة "عربة" تعني (خيانة)، وكلمة "كنروت" تعني (كالمصابيح)، وكأن إبليس يستخدم كل نوع من الالتواء لكي يخدعنا فيظهر مصباح منير أو ملاك نوراني مع أنه في حقيقته هو ظلمة! يقول العلامة: [إنه يدعو قوى الخيانة لا لتهاجم أرواح البشر صراحة إنما تفاجئها بطرق ملتوية.. فإن كنا كبولس نقول: إننا لا نجهل حيله[194]].

سادسًا: ملك دور غربًا، سواء في السهل أو في المرتفعات. ويرى العلامة أوريجانوس أن "دور" تعني "هداية" لكنها ليست هداية من الشر إلى الخير، إنما هداية يثيرها يابين لينحرف بالمؤمنين عن الحق تحت ستار الإنجيل كما حدث في غلاطية.

 يقول الرسول: "إن أتعجب أنكم تنتقلون هكذا سريعًا عن الذي دعاكم بنعمة المسيح إلى إنجيل آخر، ليس هو آخر، غير أنه يوجد قوم يزعجونكم ويريدون أن يحولوا إنجيل المسيح، لكن إن بشرناكم نحن أو ملاك من السماء بغير ما بشرناكم فليكن أناثيما" (غلا 1: 6- 8). هذا هو عمل سكان دور أن يحاربوا المؤمنين خفية خلال الإنجيل، بتقديم مفاهيم خاطئة منحرفة بعيدة عن روح الحق.

سابعًا: الكنعانيون: يرسل يابين ملك حاصور إلى ملوك الكنعانيين لمهاجمة رجال يشوع. "الكنعانيون" تعني (الهياج) أي الذين يختلقون جوًا من الشغب والهياج في كل ظرف حتى يفقد المؤمنون سلامهم الداخلي، ويعيشون كمن في وسط الأمواج[195].

ثامنًا: الأموريون: "الأموريون" تعني (يصبح مرًا)؛ عمل عدو الخير هو أن يمرر نفوس المؤمنين لكي يفقدهم كل عذوبة روحية في داخلهم، فيحطمهم باليأس والضجر.

إذن بدعوة من يابين ملك حاصور إِجتمع بهؤلاء الملوك بجوشهم: "شعبًا غفيرًا كالرمل الذي على شاطئ البحر في الكثرة ومركبات كثيرة جدًا" [4].

فالحروب الروحية شديدة وعنيفة ومُرّة، لأن الأعداء كثيرون جدًا وعنفاء لهم خيولهم ومركباتهم المتنوعة، منهم من يتقدم في خصومة وعداوة ليمرر حياتنا كيوباب ملك مادون، ومنهم من يستخدم كل وسيلة لكي نستمع لصوت العدو كملك شمورن، ومنهم من يحرضنا بالأمور الزائلة كملك أكشاف، ومنهم من ينفخنا بأفكار المجد الباطل والكبرياء كالملوك الذين في الجبل، ومنهم من يخدعنا كسرج منيرة كملك عربة جنوت كنروت، ومنهم من يثير القلائل حولنا كالكنعانيين أو يمرر الظروف المحيطة بنا كالأموريين.. ما أكثر حيل إبليس عدونا فإنه يستخدم كل وسيلة لتحطيمنا. لهذا يقول الرسول بطرس: "إصحوا وإِسهروا لأن إبليس خصمكم كأسد زائر يجول ملتمسًا من يبتلعه هو، فقاوموه راسخين في الإيمان" (1 بط 5: 8-9).

line

3. موقعة مياه ميروم


"فاجتمع جميع هؤلاء الملوك بميعاد، وجاءوا ونزلوا معًا على مياه ميروم لكي يحاربوا إسرائيل. فقال الرب ليشوع: لا تخفهم، لأنيّ غدًا في مثل هذا الوقت أدفعهم جميعًا قتلى أمام إسرائيل، فتعرقب خيلهم وتحرق مركباتهم بالنار" [5-6].

إن كان مع كل نصرة تهيج قوات الظلمة، فمع كل هياج لقوات الظلمة يؤكد الرب من جديد أنه يهب نصرة جديدة على مستوى أعظم.. في الواقع أن سفر يشوع هو سلسلة من الحروب المتوالية، أو بمعنى أدق سلسلة من النصرات المتوالية، خلالها ينطلق المؤمن من مجد إلى مجد حتى يبلغ إلى قياس ملء قامة المسيح (أف 4: 13)، وتتجمل الكنيسة كلها وتتهيأ بالمجد للعرس الأبدي.

يؤكد الرب ليشوع: "لا تخفهم"؛ فإن الله يريدنا في حربنا الروحية أن نكون مملؤين ثقة فيه أنه الغالب، وبه نغلب. يُريد أن يعمل بمؤمنيه وليس بعديمي الإيمان، يسند النفوس المتكئة عليه لا المرتبعة.

لماذا يقول الرب: "لأنيّ غدًا في مثل هذا الوقت أدفعهم جميعًا قتلى.." [6]، لأنه غدًا تُشير إلى ما بعد هذا الدهر، فإننا وإن كنا ننال نصرات متوالية، وننعم بسلطان روحي على الظلمة يتزايد مه نمونا الروحي، لكننا نبقى في حرب لا تنتهي حتى يأتي الغد الذي فيه يُلقى إبليس في البحيرة المتقدة نارًا. يقول العلامة أوريجانوس: [إنه الموعد الذي فيه تهلك كل القوة المعادية، حيث تُهزم تمامًا.

 وذلك عندما ترى الذي عن اليسار يُقال لهم: "اذهبوا عني إلى النار الأبدية المعدة لإبليس وملائكته" (مت 25: 41). إنه ذات الوقت الذي فيه نحن أيضًا إن كنا منتصرين، أي استطعنا نوال النصرة في تبعيتنا ليسوع رئيسنا، يكون لنا الملكوت الذي أعده لقديسيه الذين نفذوا تعاليم الرب وصنعوا البر، ننعم به من أيدي سيدنا يسوع المسيح له المجد والقوة إلى دهر الدهور، آمين[196]].

line

"فجاء يشوع وجميع رجال الحرب معه عليهم عند مياه ميروم بغتة وسقطوا عليهم، فدفعهم الرب بيد إسرائيل فضربوهم وطردوهم إلى صيدون العظيمة وإلى مسرفوت مايم وإلى بقعة مصفاة شرقًا، فضربوهم حتى لم يبق لهم شارد" [7-8].

لقد تحققت الغلبة ليشوع ورجاله بضرب يابين وكل تابعيه حتى لم يبق لهم شارد، ويلاحظ في هذه المعركة الآتي:

أولاً: كما اجتمع الملوك المعادين تحت قيادة يابين الملك حاصور، هكذا إِجتمع رجال الحرب مع يشوع تحت قيادته، فإن حربنا الروحية هي لحساب قائدنا الحقيقي، يسوع المسيح ربنا، إن نزلنا المعركة تحت قيادته نغلب وننتصر، لكننا إن اتكلنا على ذواتنا ومهارتنا وقدرتنا وأسلحتنا نسقط وننهزم. لنصرخ على الدوام إلى يشوعنا فهو وحده العارف حيل إبليس بكل تفاصيلها وله السلطان أن يهدمها تمامًا.

ثانيًا: إن كانت هذه الحرب تُشير إلى الحرب الروحية القائمة في القلب، لكنها مع هذا فهي ليست حربًا فردية ضد كل واحد منا، إنما هي حرب مملكة إبليس ضد الكنيسة كلها بكونها مملكة الله.

لهذا كما إجتمع جميع رجال الحرب مع يشوع، هكذا يليق بنا في جهادنا الروحي أن نحمل الروح الجماعية، ففي جهادي أطلب صلوات إخوتي المجاهدين مع آبائي وإخوتي الذين غلبوا وانطلقوا! إن كل نصرة تتحقق في أعماق نفسي إنما هي نصرة الكنيسة كلها خلالها يتحقق دخولها إلى كمال أعظم وجمال أروع، وعلى العكس كل ضعف أسقط فيه إنما هو على حساب الجماعة! ليتنا نجاهد بروح الجماعة، روح الوحدة والحب في المسيح يسوع ربنا.

ثالثًا: قام يشوع ورجاله بحرب هجومية ضد يابين ورجاله فجاءوا عليهم بغتة وسقطوا عليهم، وكأن السيد المسيح يُريد منا لا أن نقف لننتظر الخطية، وعند هجومها علينا ندافع عن أنفسنا إنما يليق بنا أن نبدأ بكل طاقتنا بالهجوم أولاً على كل خطية قبل أن يكون لها موضع فينا، وتحمل سلطانًا علينا.

 فلا نقف موقف الخوف والضعيف أمام الخطية إنما موقف التشدد والقوة لنغلب وننتصر ونطردها إلى صيدون العظيمة، أي إلى موضع الصيد. نصطادها نحن قبل أن تصطادنا، ولا نترك فيها شارد يهرب إلى حواسنا أو قلبنا الداخلي بل نحطمها تمامًا.

رابعًا: يقول الكتاب "طردوهم إلى صيدون العظيمة"، كلمة "صيدون" تعني (صيد)، لهذا فإن منطقة صيدون تُشير إلى الموقع الذي فيه يصطاد العدو نفوس المؤمنين، كقول المرتل: "هيأوا شبكة لخطواتي" (مز 57: 6). ولهذا سمح الله أن يتحقق طرد إبليس (يابين) وأتباعه إلى صيدون العظيمة، وكأنه يسقط في الفخاخ العظيمة التي نصبها المؤمنين. هو يقيم الفخ لنا، وهو الذي يسقط فيه.

بالضربات التي يصوبها العدو ضدنا لإهلاكنا ننال كمؤمنين الغلبة والنصرة ونستحق الإكليل، أما هو فيمتلئ كأس شره ويسقط تحت الهلاك.

line

4. عرقبة خيلهم


"ففعل يشوع بهم كما قال له الرب، عرقب خيلهم واحرق مركباتهم بالنار" [9]. يتسائل العلامة أوريجانوس عن سبب الأمر الإلهي بعرقبة خيلهم، أي ضرب خيلهم عند العرقوب دون أن يأمر باغتنام الخيل، في حين أنه في أيام موسى حين غلبوا مديان، "نهبوا جميع بهائمهم وجميع مواشيهم وكل أملاكهم" (عد 31: 9)، وأحصيت الغنيمة فكان من بيتنها 61 ألفًا من الحمير (عد 31: 32-34) سمح لهم بسلبها لإستخدامهم الشخصي أما الخيل فقتلوها، لماذا؟

يرى القديس أمبروسيوس أن الإنسان بسقوطه تحت ثقل الخطايا صار كالأتن، إذ يقول: [الحيوان حيوان كسول وغبي يمكن بسهول إفتراسه.. أي درس يفيدنا هذا الحيوان؟ إنه يليق بنا أن نكون أكثر حذرًا، ولا نعيش في غباء، في خمول الجسد والعقل! أليس بالحري يليق بنا أن نلجأ إلى الإيمان الذي يُخفف عنا أحمالنا الثقيلة؟![197]]. وفي نفس الوقت يُحذرنا ذات القديس من الإمتثال بالخيل قائلاً: [لماذا تحرم نفسك من العقل الذي وهبك إياه الله؟!.. هذه هي إرادة الله ألا نكون هكذا، إذ يقول: "لا تكونوا كفرس أو بغل بلا فهم" (مز 32: 9)[198]].

يرى العلامة أوريجانوس أن الأتن يستخدمها الإنسان في حمل الأثقال والسفر لخدمته وتعزيته، أما الخيل فيستخدمها في الحرب لهلاكه، لهذا صارت الأتن تُشير إلى جنس البشر بينما الخيل إلى إبليس المتعجرف المهلك.

 ولهذا اهتم الناموس بالحمير دون الخيل: "إذ صادفت ثور عدوك أو حمار شاردًا ترده إليه، إذا رأيت حمار مبغضك واقعًا تحت حمله وعدلت عن حّله فلابد أن تحل معه" (خر23: 4-5). وفي سفر زكريا بينما يعلن عن دخول السيد المسيح ممتطيًا الأتان وجحش إبن أتان يؤكد ابادته المركبات الحربية والخيل علامة حلول السلام: "ابتهجي جدًا يا إبنة صهيون، اهتفي يا بنت أوشليم. هوذا ملكك يأتي إليك هوعادل ومنصور وديع وراكب على حمار وعلى جحش إبن أتان، وأقطع المركبة من أفرايم والفرس من أورشليم وتُقطع قوس الحرب.

 ويتكلم بالسلام للأمم، وسلطانه من البحر إلى البحر، ومن النهر إلى أقاصي الأرض" (زك 9: 9-10). يقول العلامة: [أنظر فإنه حسب قول النبي أنه الذي يركب على الجحش قطع المركبة من أفرايم والفرس من أورشليم، لهذا أعتقد أن الأتان والجحش هنا يُشيران إلى المؤمنين الذي يجلس فيهم المسيح، وأن الخيل والفرس على العكس تمثل صورة للذين كانوا في السماء ونزلوا بسبب كبريائهم وتشامخهم.. هؤلاء الذين تبعوا القائل: أصعد فوق مرتفعات الرب (السحاب)، أصير مثل العلي" (إش 14: 14).

 لهذا السبب على ما أظن يقول النبي: "باطل هو الفرس لأجل الخلاص وبشدة قوته لا ينجى" (مز 33: 17). هكذا أيضًا قيل عن الذين يثقون في الشيطان: "هؤلاء بالمركبات وهؤلاء بالخيل، أما نحن فاسم الرب إلهنا نذكر" (مز 20: 8). المقارنة هنا في الحقيقة ليست بين المركبات (الخيل) وبين الرب كأمرين نتضرع إليهما، إنما هنا يوضح أننا نطلب من الله الحقيقي أما هم فيتضرعون إلى المركبات والخيل أي الشيطان[199]]. إذن فالخيل التي يلتزم يشوع برجاله أن يعرقبها والمركبات التي يحرقها بالنار إنما تُشير إلى تحطيم قوى إبليس أي الخطية، خاصة شهوات الجسد المفسدة للروح.

إننا ملتزمون أن نستل سيف الروح الذي هو كلمة الله (أف 6: 17) من غمده لنضرب به الشهوات الجسدية الشريرة كمن يعرقب الخيل. إن كان يابين، أي إبليس، يسعى وراءنا بخيله أي "الاهتمام بالجسد" الذي فيه عداوة لله (أف 8: 7)، مقدمًا لنا أفكاره المتعجرفة التي هي من قبيل الذهن الجسدي (كو 2: 8) فلنلجأ إلى يشوعنا الذي يقبلنا كجنود روحيين يحملون أسلحته التي تعرقب الخيول وتحرق المركبات الشريرة.

في دراستنا للمركبة الشاروبيمية الحاملة للعرش الإلهي رأيناها تمثل "الحياة البشرية" المقدسة، التي صارت بالروح القدس الناري عرشًا لله وهيكلاُ مقدسًا له[200]، كل ما ورد في المركبة من تفاصيل تطابق حياتنا التي تقدست في الرب، فإنه من الجانب الآخر فإن مركبات الشيطان هي القلوب الدنسة المصرة على شرها، والتي صارت عرشًا له، تحمل فكره وخداعاته وتعمل لحسابه.. هذه التي تحترق معه بالنار المعدة لإبليس وجنوده!

مادمنا في العالم يستطيع الله أن يحوّل قلوب الأشرار إلى هيكل مقدس له بروحه القدوس إن قبلت عمله الناري فيه قبل أن تطرد إلى نار أخرى لا تليق بالمؤمنين، ولم تُعد للبشر بل لإبليس وملائكته!

line

5. الإبادة التامة للشر


"ثم رجع يشوع في ذلك الوقت وأخذ حاصور، وضرب ملكها بالسيف، لأن حاصور كانت قبلاً رأس جميع تلك الممالك. وضربوا كل نفس بها بحد السيف. حرموهم، ولم يبق نسمة، وأحرق حاصو بالنار" [10-11].

لا يقف الأمر عند عرقبة خيل يابين وحرق مركباته بالنار، وإنما في جسارة وبقوة يرجع يشوع برجاله ليأخذ حاصور: يضرب ملكها بالسيف ويقتل كل نسمة بها، ويحرقها بالنار.

إن كانت حاصور التي تعني (القصر) مركز مملكة يابين، فيلزمنا بعد أن نغلب شهوات الجسد الشريرة بيشوعنا الحقيقي ونحرق كل أثر لها، فإننا نعود بيسوعنا إلى حاصور، إلى حيث كان إبليس يملك ويسيطر.. إلى حياتنا التي إستخدمها العدو كقصر لمملكته، لكي نضرب إبليس بيسوع المسيح ربنا الغالب وحده.

وكما يقول العلامة أوريجانوس: [لقد كنا تحت "ملك الخطية" (رو 6: 12)، تحت ملك الشهوات الردية، بمعنى أن الخطية بوجه عام تملك علينا، كقول الرسول: "إذًا الجميع أخطأوا وأعوزهم مجد الله" (رو 3: 23). ففي كل واحد منا يوجد ملك خاص يسود علينا، ويسكن فينا، ففي إنسان يسكن البخل يشغل المملكة، آخر الغرور، وآخر الكذب، وآخر الشهوات الجسدية، وآخر الغضب، فيقول الرسول بولس: "إذًا لا تملكن الخطية في جسدكم المائت لكي تطيعوها في شهواته" (رو 6: 12).

 قبل أن يكون لنا الإيمان كان في كل منا مملكة للخطية، لكن بمجئ يسوع قُتل جميع الملوك الذين يسيطرون علينا.. معلمًا إيانا كيف نقتلهم جميعًا ولا نترك أحدًا منهم يهرب. فإنه إن تركنا واحدًا يحيا لا يمكن أن نُحسب تابعين سيف يشوع. إن ملكت فيك خطية البخل أو الغرور أو الشهوات الجسدية فلا تكن من جنود إسرائيل ولا تكون قد إِتبعت الأمر الذي أعطاه الرب ليشوع[201]].

لقد كان الأمر الإلهي هو إبادة الشر تمامًا، فلا يُترك له أثر حتى لا يعود فيملك على القلب ثاينة، ها هو الأمر الذي أطاعه يشوع، إذ قيل "لأنه كان من قبل الرب أن يشدد قلوبهم (الملوك) حتى يلاقوا إسرائيل للمحاربة، فُيحرموا، فلا تكون عليهم رأفة بل يُبادون كما أمر الرب موسى" [20].

 يقول العلامة أوريجانوس: [لم يقل أن يشوع قد أمسك بواحد أثناء الحرب وترك الآخر، لكنه أمسك بالكل، أي أخذهم وقتلهم جميعًا، لأن الرب يسوع طهرنا من كل أنواع الخطايا وهدم جميعها. لقد كنا قبلاً في الحقيقية جميعنا "أغبياء، غير طائعين، ضالين، مستعبدين لشهوات ولذات مختلفة، عائشين في الخبث والحسد، ممقوتين، مبغضين بعضنا بعضًا" (تي 3: 3)، أي كانت فينا كل أنواع الخطايا التي توجد في الإنسان قبل الإيمان، لكن يشوع قتل كل الذين خرجوا للرب، فلا توجد خطية مهما كانت كبيرة لا يقدر الله أن يغفرها. إنه الكلمة وحكمة الله (1 كو 1: 24) الذي يغلب كل شيء.

ألا تعتقد معي أنه قد رُفعت عنا الخطية بكل أنواعها في مياه المعمودية؟‍! هذا ما أراد الرسول بولس أن يقوله، إذ بعدما عدد كل أنواع الخطايا، أضاف: "وهكذا كان أُناس منكم، لكن إِغتسلتم بل تقدستم بل تبررتم باسم الرب يسوع وبروح إلهنا" (1 كو 6: 11) [202]].

مرة أخرى يقول العلامة أوريجانوس: [كيف يتحقق فينا كلام الكتاب إنه لم تبق نسمة (يش 11: 11)؟.. لنفرض أن إحساسًا بالغضب يرتفع في قلبي، يمكن لهذا الإحساس ألا يبلغ إلى العمل خشية العقاب العتيد، لكن هذا لا يكفي إنما حسب قول الكتب يجب أن أتصرف بحيث لا يبقى فيَّ أي حركة للغضب. فإن اضطربت النفس، حتى وإن لم يصل الفكر إلى حد العمل فإن هذا الاضطراب نفسه لا يليق بجندي المسيح.

 فجنود يشوع يجب عليهم أن يتصرفوا بحيث لا يتركوا شيئًا يتنغص في قلبهم. إن تُرك شيء ما سواء كان عادة أو مجرد فكرة خاطئة يمكن أن تنمو مع الزمن وتزداد وتتقوى وأخيرًا تقودنا إلى العودة للقيئ (أم 26: 11)، فتصير الأواخر أشر من الأوائل (لو 11: 26). هذا ما يقصده المزمور النبوى: "طوبى لمن يمسك أطفالك ويضرب بهم الصخرة" (مز 137: 9).

 فإنه يقصد بأطفال بابل هنا الأفكار الشريرة.. هذه التي إن شعرنا أنها صغيرة وفي البداية يجب أن نمسكها ونقطعها ونضرب بها الصخرة، التي هي المسيح (1 كو 10: 4). يجب أن نقتلها حسب أمر الرب ولا نترك منها نسمة نتنسمها داخلنا. إذن طوبى لمن يمسك أطفال بابل الصغار ويضرب بهم الصخرة ويقتلها وهي بعد أفكار بدائية[203]].

يقول الكتاب عن يشوع ورجاله أهم "ضربوا كل نفس بها بحد السيف؛ حرموهم، ولم يبق نسمة، وأحرق حاصور بالنار" [11]. لا يقف الأمر عند إبادة كل نسمة للشر حتى لا يتنسم داخلنا قط، وإنما أيضًا أحرق حاصور- قصر الملك يابين - بالنار.

 ما هذه النا التي يلقى بها يشوع على القصر إلاََّ نار الروح القدس الذي يحرق فينا كل الأشواك الخانقة للنفس، فلا تعود بعد حاصورنا قصرًا ليابين بل ليشوع، عوض مملكة إبليس تقوم مملكة يسوع ربنا بروحه الناري الذي يقدس أعماقنا الداخلية.

أخيرًا فإنه من قبل الرب تشدد الملوك الأشرار لمحاربة شعب الله، بهذا يمتلئ كأس شر إبليس وجنوده فيتأهلوا للإبادة والسحق بجدارة، وفي نفس الوقت تتشدد قلوب أولاد الله للحرب الروحية فيتذكرون في عيني الله ويستحقون أكاليل النصرة هذا وإن تشديد قلب الملوك لا يعني أن الله يلقي فيها القسوة، إنما يرفع يده عنهم لتظهر قسوتهم التي كان الله يحجزها إلى حين لحماية شعبها، لكن في الوقت المناسب يتركهم يعملون سؤل قلبهم فيسقطون في ثمر عملهم.

line

6. إِستراحت الأرض


يقول العلامة أوريجانوس: [في أيام موسى لم يُقل ما قيل في أيام يشوع: "إِستراحت الأرض من الحرب" (يش 11: 23). فبالتأكيد هذه الأرض المملؤة صراعًا وحروبًا لن يمكن أن تستريح من الحرب إلاَّ بعطية الرب يسوع.. ففينا يوجد مقر لكل قوم الرذائل العاملين في أرواحنا دون أن يتركوا لنا أي راحة. نعم ففي داخلنا الكنعانيون الفرزيون واليبوسيون الذين نطردهم بجهاد وسهر وصبر طويل، وفي النهاية تستريح أرضنا من الحرب[204]].

وفي موضع آخر يقول العلامة أوريجانوس: [كيف يؤكد لإبن نون أن الأرض استراحت من الحرب مع أن الحرب لم تتوقف في عهده؟ لقد كمل هذا في الرب يسوع.. فإن كنت تجد فيك "الجسد يشتهي ضد الروح والروح ضد الجسد" (غلا 5: 17) فإنك إذ تأتي ليسوع وتنال نعمة المعمودية لغفران الخطايا تستريح الأرض التي هي أنت من الحرب، بشرط أن تحمل في الجسد كل حين إماتة الرب يسوع لكي تظهر حياة يسوع أيضًا في جسدنا (2 كو 4: 10).

بهذا تنتهي الحرب فيك، وتصير صانع سلام وتدعى إبن الله (مت 5: 9). نعم، يكون لك هذا عندما تنتهي الحرب وتنتصر على أعدائك، فتكون لك راحة في "كرمتك" التي هي يسوع المسيح وتحت التينة (ميخا 4: 4) التي هي الروح القدس، وعندئذ تشكر الله ضابط الكل في المسيح يسوع الذي له المجد والسلطان إلى أبد الأبد (1 بط 4: 11)[205]].

line
المراجع :
[190] In Jos. Hom. 14:2.
[191] Ibid.
[192] Ibid 14:3.
[193] Ibid.
[194] Ibid.
[195] Ibid.
[196] Ibid.
[197] Hexameron 6:3.
[198] Ibid.
[199] In Jos. Hom 15:3.
[200] للمؤلف: حزقيال 1981، ص 21-38.
[201] In Jos. Hom 15:4.
[202] Ibid 12:5.
[203] Ibid 15:3.
[204] Ibid 1:6.
[205] Ibid 15:7.