Our App on Google Play Twitter Home أبحث

تفسير الاصحاح الخامس من سفر التثنية للقمص تادري يعقوب ملطى

الوصايا العشر - قلب العهد الإلهي

استدعى موسى النبي ليس فقط الشيوخ والقيادات بل وكل الشعب وسألهم أن يذكروا أن العهد الذي قطعه الله مع إسرائيل لم يكن عهدًا يخص الماضي، بل هو عهد حاضر على الدوام وقائم. ذكرهم بالوصايا العشر، وكيف أنهم طلبوا منه أن يقترب هو من الله نيابة عنهم، لكي يقبل منه الشريعة.

بعد أن تحدث عن تطهير أرض الموعد من العبادة الوثنية، ومن سفك أي دم بريء، قدم لنا موسى النبي عصب العهد الإلهي، وهو الوصايا العشرة. وقد جاءت مطابقة لما ورد في (خر 20: 2-17)، غير أنها قدمت تعليلاً جديدًا للاحتفال بالسبت، إنه تذكار لعمل الله الخلاصي بإخراج الشعب من عبودية فرعون [15]، عِوض كونه تذكارًا للخليقة (خر 20: 11).

يختم حديثه بتأكيد الطاعة لصوت الرب كشرط للتمتع بخيرات الحياة الجديدة في أرض الموعد [22-33].

1. عهد إلهي حاضر [1-5].
2. الوصايا العشر [6-22].
3. تسلمه الشريعة [23-33].

line

1. عهد إلهي حاضر:

"ودعا موسى جميع إسرائيل وقال لهم:
اسمع يا إسرائيل الفرائض والأحكام التي أتكلم بها في مسامعكم اليوم،
وتعلموها، واحترزوا لتعملوها" [1].

دعي موسى الشعب لكي يسمع الوصية ويتعلمها ويعمل بها ويحفظها، الأمر الذي سبق فأكده في العظة الأولى. يطالبنا الله أولاً أن نسمع، ثم نتعلم، وثالثًا نحفظ، أي ندخل بالوصية إلى أعماق القلب لكي نحتفظ بها كما في مخزن آمين [1]. وكما يقول الكتاب "خبأت كلامك في قلبي كي لا أخطئ إليك" (119: 11). رابعًا أن نمارسها، فلا يكفي تخزينها في الأذن بالسماع، ولا في الفكر بالتعلم، ولا في القلب بالحفظ والاشتياق إليها، وإنما يلزم ترجمتها عمليًا بالعمل.

 فإنه لا يطلب منا أن نملأ أذهاننا بأفكار نظرية ولا شفاهنا بكلمات جوفاء، وإنما يلزم ترجمة الوصية إلى عملٍ، فيكرس الإنسان كل أعضاء جسده لتنفيذها، كما يليق به أن يحفظها في قلبه، مكرسًا كل مشاعره لحسابها. هكذا تملأ الوصية عقل الإنسان وتقدس أعضاء جسمه، وتلهب قلبه بالحب. يشترك الجسم كله في تنفيذها فيتقدس الإنسان بكليته بقبوله الوصية والتفاعل معها.

لا يستطيع أحد أن يدعى أنه يتمم كل الوصايا بكمالها إلاَّ السيِّد المسيح. فالوصايا أشبه بمرآة تكشف ما في القلب، لكنها تعجز عن أن تجدده وتغير طبيعته. أو هي أشبه بكشافات النور المثبتة في العربة، تكشف الطريق، وتظهر العقبات، لكنها تعجز عن إصلاح الطريق.

 لهذا يقول الرسول بولس: "إذ نحن نعلم أن الإنسان لا يتبرر بأعمال الناموس بل بإيمان يسوع المسيح آمنّا نحن أيضًا بيسوع المسيح لنتبرر بإيمان يسوع لا بأعمال الناموس؛ لأنه بأعمال الناموس لا يتبرر جسد ما" (غلا 2: 16). لا يقدر أن يتبرر بأعمال الناموس، أولاً لأن الناموس يعجز عن تصحيح ما قد حدث بسبب خطايانا، ثانيًا لأنه لا يقدر أحد أن يتمم وصايا الناموس.

"فلماذا الناموس؟ قد زيد بسبب التعديات إلى أن يأتي النسل الذي قد وُعد له مرتبًا بملائكة بيد وسيط" (غلا 3: 19). فمن حقك أن تتساءل: لماذا الناموس؟ الإجابة لكي تكتشف تزايد التعديات والحاجة إلى ذاك الذي يولد حسب الوعد الإلهي الذي قدم لنا بواسطة الملائكة. "إذًا قد كان الناموس مؤدبنا إلى المسيح لكي نتبرر بالإيمان، ولكن بعدما جاء الإيمان لسنا بعد تحت مؤدبٍ" (غلا 3: 24-25).

هوذا صار الناموس خادمًا لنا، يمسك بأيدينا، ويدخل بنا إلى الصليب، قائلاً لنا: "ادخلوا يا أصدقائي الصغار إلى المخلص، فهو وحده قادر أن يبرركم ويمجدكم!" إذن الناموس صالح، يعلن عن فكر الله، ويكشف عن عجزنا ويحثنا على التمتع بشركة المجد الأبدي. "إذ الجميع أخطأوا وأعوزهم مجد الله" (رو 3: 23).

يحول موسى النبي الوصايا والأحكام والشرائع إلى عهدٍ، إذ يقول: "الرب إلهنا قطع معنا عهدًا في حوريب" [2]. الوصايا كما يبرزها موسى النبي هنا ليست مجرد أوامر أصدرها الله لكي يطيعها الإنسان، إنما في أعماقها هي "عهد" بين الله والإنسان.

أولاً: التطلع إلى الوصايا والأحكام والشرائع كعهدٍ يعطي فهمًا خاصًا للعلاقة

بين الله والإنسان. فإن الله لا يأمر وينهي كسيِّدٍ يجب على العبيد طاعته، ولا كخالقٍ ليس للخليقة أن تحاوره، لكنه يرفع الإنسان ليصير كندٍ، يتحاوران معًا. يرى المؤمن في الوصايا ثمرة عهدٍ يقوم على كامل حرية إرادته. يتعامل مع الله ككائنٍ عاقلٍ له أن يقبل أو يرفض وله أن يحاور ويحاجج.

ثانيًا: هذا العهد يُقام بين الله وكنيسته الحاضرة، عهد جديد لا يشيخ. إنه ليس بالعهد الذي أُبرم بين الله والجيل السابق، بل هو عهد حاضر عصري. "ليس مع آبائنا قطع الرب هذا العهد، بل معنا نحن الذين هنا اليوم جميعنا أحياء، وجهًا لوجهٍ تكلم الرب معنا في الجبل من وسط النار" [3-4]. إنه عهد شخصي، إن كان قد أقيم مع إبراهيم واسحق ويعقوب، لكن يتمتع به الجيل الحاضر كعهدٍ قائم معهم شخصيًا. يقيم الله عهده الشخصي مع الكنيسة المعاصرة، ومع كل مؤمن شخصيًا كعضوٍ حيّ فيها. "ليس مع آبائنا.. بل معنا" التعبير العبري يحمل معنى "ليس مع آبائنا فقط، بل معنا أيضًا"، هنا يلقي موسى النبي عليهم المسئولية الشخصية، لأنهم أول من سيسكنون الأرض روادًا فيها. خلال هذا العهد يتكلم الرب مع شعبه "وجهًا لوجه" [4].

ثالثًا: عهد صريح، تحقق وجهًا لوجه، ليس في الظلام بل في وسط النار. ليس كما قال أليفاز التيماني: "إليَّ تسللت كلمة فقبلت أُذني منها ركزًا، وفي الهواجس من رؤى الليل عند وقوع سبات على الناس، أصابني رعب ورعدة فرجفت كل عظامي" (أي 4: 12-14).

رابعًا: وسيط العهد هنا هو موسى النبي الذي يقف بين الله الساكن في السموات والشعب الذي عند سفح الجبل، غاية وساطته هو تقديم الشريعة للشعب وسماعهم صوت الرب دون أن يموتوا. وهو في هذا رمز لسيِّد المسيح الوسيط بين الآب والإنسان، فيه ينعم الإنسان بالكلمة الإلهي، وفيه يصير الإنسان موضع سرور الآب.

"الرب إلهنا قطع معنا عهدًا في حوريب" [2]. يشير موسى إلى المكان بالذات ليشعرهم بمسئوليتهم وامتيازهم.

line

2. الوصايا العشر:

يُعيد موسى النبي ذكر الوصايا العشر مع تفسيرها. لقد مات الذين سمعوا الوصايا العشر وبليت عظامهم، أما الجيل الجديد فكان محتاجًا إلى سماع هذه الوصايا مع تفسيرٍ لها على ضوء خبرة الأربعين عامًا في البرية.

قد يعترض البعض قائلاً إن ما ورد هنا هو تكرار لما ورد في سفر الخروج (20). ليكن، فإن الكتاب يؤكد أهمية هذه الوصايا، والالتزام بسماعها أكثر من مرة، لأنها أساسية في حياة المؤمن. سبق فتحدث عن الوصايا العشر، لكنه يعود فيذكرهم بها وفي شيء من التفصيل. هكذا يليق بنا إلاَّ نمل من سماع الوصية حتى نتممها، فتكون لنا إرادة الله عاملة فينا. الحديث المتكرر عن الوصية مفرح، وكما يكتب الرسول بولس: "كتابة هذه الأمور إليكم ليست عليّ ثقيلة، وأمامكم فهي مؤمَّنة" (في 3: 1).

"وجهًا لوجه تكلم الرب معنا في الجبل من وسط النار.
أنا كنت واقف بين الرب و بينكم في ذلك الوقت لكي أخبركم بكلام الرب،
لأنكم خفتم من أجل النار ولم تصعدوا إلى الجبل فقال.." [4-5].

حقًا إنه إله مهوب، نار آكلة، لكنه يهب حياة لشعبه، إذ يقول: "لأنه من هو من جميع البشر الذي سمع صوت الله الحيّ يتكلم من وسط النار مثلنا وعاش؟!" [26]. قد أرانا مجده وعظمته، وسمعنا صوته من وسط النار؛ هذا اليوم قد رأينا أن الله يكلم الإنسان ويحيا [24]. هكذا نفهم الوصية ليست أوامر صادرة، إنما ارتفاع كما على الجبل لنلتقي مع الله في مجده، يتحدث معنا وجها لوجه فلا نموت.

تعتبر الوصايا العشر لب الشريعة وأساس عهد الله. ويمكن أن نعتبر الأصحاحات (12-26) تطبيقًا مفصلاً لمبادئها على حياة الشعب في أرض كنعان. كان شعب العهد القديم يهتم بتنفيذ مظهرها، أما ربنا يسوع فكشف عن أعماقها. لقد جعل المسيح منها قانونًا "لدخول الحياة" حين طلب من الشاب الغني أن يحفظها ليحيا (مت 19: 18).

 كما جعلها قانون الحياة لكل تابعيه. ظن الشعب القديم أنه يتبرر بمجرد استلامه الوصايا، أما العهد الجديد إذ نكتشف عجز البشرية عن إتمام كل الوصايا في أعماقها، ندرك حاجاتنا إلى السيِّد المسيح الذي يبررنا بدمه، ويسندنا بروحه القدوس لتنفيذ الوصية.

"أنا هو الرب إلهك الذي أخرجك من أرض مصر من بيت العبودية.
لا يكن لك آلهة أخري أمامي.
لا تصنع لك تمثالاً منحوتًا صورة ما مما في السماء من فوق وما في الأرض
من أسفل وما في الماء من تحت الأرض.
لا تسجد لهن ولا تعبدهن لأني أنا الرب إلهك إله غيور
افتقد ذنوب الآباء في الأبناء وفي الجيل الثالث والرابع من الذين يبغضونني.
واصنع إحسانًا إلى ألوف من محبي وحافظي وصاياي" [6-10].

يعطي الله اسم "يهوه" إله العهد، فيدخل في شركة وصلة مع شعبه المختار كنصيب لهم. كما أنه في ملء الزمان قد بذل ابنه (يو 3: 16) وهذه الصلة الشخصية بين الله والإنسان في المسيح هي أساس الإيمان المسيحي.

افتقد ذنوب الآباء في الأبناء [9]، لا في الجرم بل بالنسبة للعواقب، هذا صحيح نلمسه بالاختبار العملي. كما نختبر الوعد بالرحمة إلى "ألوف من محبّي وحافظي وصاياي" [10].

"لا تنطق باسم الرب إلهك باطلاً، لأن الرب لا يبرئ من نطق باسمه باطلاً.
احفظ يوم السبت لتقدسه كما أوصاك الرب إلهك.
ستة أيام تشتغل وتعمل جميع أعمالك.
وأما اليوم السابع فسبت للرب إلهك،
لا تعمل فيه عملاً ما أنت وابنك وابنتك وعبدك وأمتك و ثورك وحمارك وكل بهائمك ونزيلك
الذي في أبوابك لكي يستريح عبدك وأمتك مثلك.
واذكر انك كنت عبدًا في أرض مصر، فأخرجك الرب إلهك من هناك بيدٍ شديدةٍ وذراعٍ ممدودةٍ لأجل ذلك أوصاك الرب إلهك أن تحفظ يوم السبت" [11-15].

يحتاج الإنسان أن يفرز هذا اليوم للعبادة وانتظار الرب والإصغاء لصوته، حتى لا يجري في صراع محموم خلق الثروة أو الحكمة، بل تصير حياته ذات معنى حسب قصد الله وإرشاده. وهذه الوصية نبوة عن الراحة الأبدية القادمة (عب 4: 9). بهذا انتقل السبت اليهودي إلى الأحد المسيحي حيث الحرية الحقيقية في المسيح يسوع.

"اكرم أباك وأمك كما أوصاك الرب إلهك لكي تطول أيامك،
ولكي يكون لك خير على الأرض التي يعطيك الرب إلهك" [16].

تتعلق هذه الوصية الخامسة بأقدس رابطة بشرية وهي الأبوة، فإن اسم الأب يشير أولاً إلى الله، وقد شرّف الله البشر باستعمال نفس اللقب. يختار الإنسان أصدقاءه، أما الأبوان فهما عطية الله، وقد اختارهما الله وسيلة لمجيء الإنسان إلى العالم وهي خدمة فائقة متقطعة النظير.

وإكرام الوالدين يأتي في المرتبة الثانية بعد إكرام الله صاحب السلطان الأسمى.

وبخ السيِّد المسيح اليهود إذ أقاموا تقليدًا بشريًا يضاد هذه الوصية الإلهية (مت 15: 3-6؛ مر 7: 8-11)، بكسر الابن وصية إكرام الوالدين العملي، وعدم اهتمامه باحتياجاتهم المادية بأن يدعى أنه سيقدم ما كان يجب أن يعولهما به إلى الهيكل قربانًا.

وكما يقول العلامة أوريجانوس: [إذ يسمع الآباء أن ما ينبغي تقديمه لهم صار من القربان المخصص لله يحجمون عن أخذه من أبنائهم، حتى وإن كانوا في عوزٍ شديدٍ لضرورات الحياة]. كما يقول: [بأن الفريسيين كانوا محبين للمال (لو 6: 14)، فكان يتظاهرون بجمعه للعطاء للفقراء، حارمين الوالدين من عطايا أولادهم[47]].

+ ناقش الرب نفسه هذه الوصية التي للشريعة، القائلة: "أكرم أباك وأمك". لقد أظهر بوضوح ألاَّ تفسر بكلمات مجردة. وذلك بأنه بينما يظهر الشخص مظهرًا فارغًا من الكرامة للوالدين، يتركهما فقيرين، لا يستطيعان أن ينالا الضرورات، وذلك عوض الالتزام بتكريم الوالدين بتقديم ضروريات الحياة الفعلية. أمر الرب بأن الوالدين الفقيرين يجب أن يعولهما أولادهما. فيردوا لهما في شيخوختهما البركات التي نالوها منهما في طفولتهم.

على العكس كان الكتبة والفريسيون يعلمون الأبناء أن يكرموا والديهم بالقول: "أنه قربان، بمعنى أنها عطية قد وعدت أن أقدمها للمذبح، وسأحضرها إلى الهيكل فتريحكما تمامًا كما لو قدمناها لكما مباشرة لتشتريا طعامًا".

غالبًا ما يحدث أنه بينما يكون الأب والأم في عوز شديد، يقدم أبناؤهما ذبائح للكهنة والكتبة ليأكلوها[48].

القدِّيس جيروم
"لا تقتل.
ولا تزن.
ولا تسرق" [17-19].

"لا تقتل" تعلن هذه الوصية السادسة قداسة الحياة الإنسانية. فإن الحياة بجملتها إنما هي صادرة عن الله، يجب أن ننظر إليها بإجلال واحترام باعتبارها عطيته.

"ولا تشهد على قريبك شهادة زور" [20].

لا تشهد شهادة زور (خر 20: 16). قد تبدو هذه الوصية التاسعة سلبية في بنيتها، لكنها إيجابية في معناها، فهي تضع الحق مقابل الباطل، بالنهي عن الباطل لإرساء الحق. فكل كلامنا وشهادتنا يجب أن يكون صادقًا، وقضاؤنا عادلاً.

"ولا تشته امرأة قريبك،
ولا تشته بيت قريبك ولا حقله ولا عبده ولا أمته ولا ثوره ولا حماره ولا كل ما لقريبك" [21].

لا تشته [21]، (خر 20: 17). تختلف هذه الوصية العاشرة عن سابقاتها في أنها تتحدث عن قلب الإنسان لا عمًا يظهر من تصرفاته الخارجية، والله وحده يرى كسرها أو حفظها. وهي في صيغتها السلبية تنهي عن اشتهاء ما للغير، كما أنها في صيغتها الإيجابية تُعلّم القناعة والإيمان (عب 13: 5-6).

إن الفرق البسيط بين رواية هذه الوصية هنا وبين روايتها في خروج (20: 17) حيث أن الشعب هنا كان على وشك دخول كنعان أيام تجربة ويتعرض لاشتهاء حقل جاره، فيحدثه موسى عن حقل جاره الذي يجب ألاَّ يشتهيه.

في الرسالة الثانية المنسوبة للقدِّيس أكليمندس الروماني يربط الكاتب بين معرفة الله الحقة وحب القريب فيكتب: [ليتنا أيها الإخوة نعرفه في أعمالنا بمحبتنا الواحد للآخر (يو 13: 35؛ 15: 12، 1 يو 3: 11).. يليق بنا أن نترفق ببعضنا البعض ولا نكون طامعين. لنتعرف عليه بهذه الأعمال، لا بما يضادها[49]].

في عظات الأب قيصريوس أسقف آرل وردت عظتان عن الوصايا العشر وارتباطها بالعشرة ضربات[50]، جاء فيهما الآتي:

جاء رقم الوصايا معادلاً لرقم الضربات التي أصيب بها المصريون بسبب الكبرياء، إذ قدم الرب وصاياه علاجًا لجراحاتنا الخطيرة. [يمكنكم أن تتحققوا أن تلك الوصايا العشر تضاد العشرة ضربات وبذات الترتيب. فالضربة الأولي تضربها الوصية الأولي، وهكذا الضربة الثانية تضربها الوصية الثانية، والثالثة بالثالثة، وهكذا حتى العاشرة[51]].

جاءت الوصية الأولي بخصوص الله الواحد وعدم الخلط بينه وبين الآلهة الوثنية (خر 20: 3) لتعالج الضربة الأولي للمصريين حيث تحولت المياه إلي دم. فإن كان الدم يشير إلي الشهوات الجسدية، فإن هذه الشهوات جاءت ثمرة عدم الإيمان بالله الواحد. هكذا بالوصية الأولي تتقدس الحواس التي أظلمت فتصير حكيمة ومقدسة.

لقد أراد المصريون أن يقتلوا أطفال العبرانيين ويسفكوا دمائهم لهذا حول الله مياه النهر إلي دم ليشربوا منه[52]. يمكننا القول بأن الوصية الأولي تهبنا الالتصاق بالله الحيّ فنتقيه. عندئذ تتحول طبيعتنا الدموية (العنيفة والشهوانية) إلي طبيعة لطيفة مرتوية بمياه الروح القدس.

أما الوصية الثانية فهي عدم النطق باسم الله باطلاً. فإن من يفعل ذلك لن يكون طاهرًا (خر 20: 7)، أما من يقتني اسم يسوع الحق فيحمل شركة البرّ الإلهي. يمكننا القول بأن هذه الوصية هي دواء لمقاومة الضربة الثانية الخاصة بامتلاء البقاع بالضفادع التي تشير إلي الهراطقة والفلاسفة الملحدين، حيث يقدمون فلسفات مخادعة أشبه بأصوات الضفادع التي لا تتوقف، وهي في وسط الوحل. هؤلاء لهم أصوات مستمرة لكن بلا حكمة روحية إلهية. يقدمون أصواتًا للآذان لكنهم لن يقدروا أن يقدموا طعامًا للنفس أو العقل[53].

الوصية الثالثة خاصة بحفظ السبت (خر 20: 8)، وهي وصية خاصة بالحرية، مع راحة القلب وهدوء الفكر خلال الضمير الصالح. هذه الوصية في واقعها تشير إلي عمل الروح القدس واهب الحرية والراحة الحقة. يستقر الروح القدس علي الإنسان لكي السبت الروحي، حيث يسحبه إلي عبادة الروح السماوية عوض الارتباك بالزمنيات[54].

الوصية الرابعة خاصة بتكريم الوالدين (خر 20: 12)، وهي ضد الضربة الرابعة الخاصة بالذبان، فإن من لا يكرم والديه يعاني من شر الشيطان وعذاباته[55].

الوصية الخامسة خاصة بعدم الزنا (خر 20: 14)، تعالج ضربة الوباء الذي حل بالبهائم. فالإنسان الذي لا يقتنع بزوجته بل يشتهي زوجة أخيه أو ابنته يفقد رجولته؛ مثل هذا الشخص يتحول كما إلي بهيمة في شكل إنسان، إذ لا يريد أن يسمع قول الرب: "لا تكونوا كفرسٍ أو بغلٍ بلا فهم" (مز 32: 9). إن كنتم لا تخافوا أن تكونوا مثل البهائم فخافوا أن تموتوا مثلهم.

الوصية السادسة هي "لا تقتل"، تقابل الضربة السادسة وهي حلول البثور في الناس والبهائم صادرة عن رماد الأتون. فإن القتلة هم أناس احترقت نفوسهم بنيران الغضب وصاروا كرماد الأتون. فالقاتل يقتل نفسه قبل قتله أجساد الآخرين. تطالبنا الوصية هنا ألاَّ يحترق قلبنا بالغضب بل بمحبة الآخرين. الأولى تسبب بثورًا مهلكة، والثانية تقدم شفاءً للنفس.

الوصية السابعة هي "لا تسرق"، تقابل سقوط البرد العظيم جدًا كالمطر فتبيد الحيوانات والمحاصيل في الحقول. فمن يسرق أي ينهب بظلمٍ ما ليس له إنما تحل به الخسارة من السماء كمطرٍ شديد من البرد.

بالسرقة يظن الإنسان أنه ربح كثيرًا من أمورٍ منظورة، ولا يدرك أنه بالحقيقة حلت به خسائر غير منظورة. من يسرق خلال شهواته الشريرة أشياءً ظاهرة يحل في داخله البرد ممن قبل أحكام الله السماوية فيفقد الأمور الخفية.

إن أمكن للصوص أن يتطلعوا إلي حقول قلوبهم لأدركوا جسامة الخسارة التي حلت بهم، فتموت نفوسهم جوعًا حيث هلكت مواردهم بالبرد، بينما في الظاهر يظنون أنهم اقتنوا الكثير بظلمهم للغير. لهذا يوجهنا بطرس الرسول إلي الغني الداخلي: "إنسان القلب الخفي في العديمة الفساد زينة الروح الوديع الهادئ الذي هو قدام الله كثير الثمن" (1 بط 3: 4)، فيكون الإنسان غنيًا لا أمام الناس بل أمام الله.

الوصية الثامنة هي "لا تشهد بالزور" تقابلها ضربة الجراد، وهي حشرات تدمر الحقول بفمها. هكذا من يشهد بالزور يحطم نفسه وإخوته بكلمات فمه الكاذبة. لهذا يحذرنا الرسول بولس: "فإذا كنتم تنهشون وتأكلون بعضكم بعضًا فانظروا لئلا تفنوا بعضكم بعضًا" (غلا 5: 15).

الوصية التاسعة هي: "لا تشته امرأة قريبك"، والضربة التاسعة هي حلول الظلام الدامس. حقًا من يشتهي امرأة أخيه يكون يحل به ظلام دامس، فإنه ليس شيء أكثر من هذا يسبب عمي للنفس ويثير غضبًا عظيمًا. فمن يدنس زوجة الغير إنما يمارس جنونًا بلا ضابط.

الوصية العاشرة هي "لا تشته ما لقريبك: غنمه أو ثوره أو أي شيء يخصه". يقابل هذا ضربة قتل الأبكار. فإن كل ما يقتنيه الإنسان إنما ليقدمه لورثته، وليس بين الورثة من هو أكثر معزة من البكر. بينما يُحرم الإنسان من ممتلكاته التي يود أن يقدمها لورثته يُحرم الناهب لممتلكات أخيه من بكره ذاته وليس مما يتركه ميراثًا له. من هو هذا البكر المقتول إلاَّ الإيمان الذي هو بكر القلب، والنابع عنه، لأنه لا يقدر أحد أن يمارس عملاً صالحًا ما لم يولد الإيمان في قلبه كبكرٍ له.

يختم الأب قيصريوس عظته رقم 100 بالقول بأنه بالوصايا العشر يتحرر الإنسان من اضطهاد المصريين الظالم، أي من الظلم الروحي الذي في أعماقه، لكي يتحرر قلبه وينطلق إلي أرض الموعد وذلك خلال العون الإلهي.

يمكننا تقسيم الوصايا العشر إلى 3 أقسام متكاملة:

line

أولاً: وصايا خاصة بعلاقتنا بالله:

1. الارتباط بالله وحده دون آخر سواه (وصية 1)، هذا الإله تعرفنا على أسراره خلال تجسد الكلمة (مت 11-27).

يقول القدِّيس أغسطينوس[56]: [إنه عندما تحدث السيِّد المسيح مع اليهود عن تحررهم من العبودية قالوا له إنهم لم يُستعبدوا قط لإنسان (يو 8: 31-36)، مع أن يوسف بيع عبدًا (تك 37: 28)، ووجد أنبياء قديسون في الأسر (2 مل 24، حز 1)، كما سقط الشعب تحت عبودية فرعون (خر 1: 14)، حتى في أيام السيِّد المسيح كانوا خاضعين للجزية للدولة الرومانية (مت 22: 15-21). ما أراده السيِّد المسيح هو أن يحررهم من عبودية الأنا، الكبرياء الفارغ، لكنهم فهموا الحرية بمفهوم جسداني].

2. الامتناع عن عبادة التماثيل (وصية 2) حتى لا ننحرف إلى عبادة الأوثان [إقامة تماثيل في القلب مثل حب الذات وحب الاقتناء الخ].

إن كان موسى النبي يشهد بأن الله يفتقد ذنوب الآباء في الأبناء، إلاَّ أنه في نفس السفر يؤكد أن الآب لا يموت بخطية ابنه أو العكس (تث 24: 16)، كيف؟ يجيب القدِّيس يوحنا الذهبي الفم: [بأن النص الأول يخص الأبناء الذين يكملون مكيال آبائهم ويصيرون أشر منهم[57]].

3. عدم النطق باسم الله باطلا (وصية 3). في القديم كان القسم باسم الله علامة تكريم الله ومخافته لذلك سُمح به، أما في العهد الجديد فإذ ارتفع الإنسان إلى مستوى النضوج الروحي يليق به إلاَّ يحلف البتة (مت 5). تهتم الوصية بتقديس الفم؛ وعندما تحدث الرسول بولس عن فساد البشرية وأن الجميع زاغوا وفسدوا معًا، اهتم بالفم، إذ يقول: "حنجرتهم قبر مفتوح، بألسنتهم قد مكروا سم الأصلال تحت شفاههم، وفمهم مملوء لعنة ومرارة" (غلا 3: 13-14).

4. حفظ السبت (وصية 4، راجع خر 20). سبق لنا الحديث عن السبت وحفظه وطقوسه في شيء من التفصيل[58]، وقد لاحظنا أنه في جوهره ليس وصية ثقيلة يلتزم بها المؤمن لكنه عيد مفرح يعكس روح البهجة علي الجماعة كلها، وعلي كل مؤمن مع أهل بيته والغرباء النازلين عنده، وعلي الأجراء والعبيد، بل ويعكس راحة حتى علي الحيوانات.

أعطت أسفار العهد القديم تركيزًا خاصًا علي وصية حفظ السبت بقصد تركيز الأذهان علي ترقب مجيء المخلص، محررنا من عبودية إبليس، واهب الراحة الحقة. وكما يقول القدِّيس أكليمندس الإسكندري: [إننا نتمسك بالسبت الروحي حتى مجيء المخلص، إذ استرحنا من الخطية[59]]. ويقول القدِّيس أغسطينوس: [(فيه) نستريح ونرى، نرى ونحب، نحب ونسبح، هذا ما سيكون في النهاية التي بلا نهاية[60]].

يظهر الاختلاف بوضوح في الوصية الرابعة الخاصة بتقديس يوم السبت. في سفر الخروج (31: 13) طالبنا الله بتقديس يوم السبت لأنه خلق العالم في ستة أيام، لذا يليق بنا أن نقدسه، أي نكرس اليوم السابع لتقديم العبادة والشكر للخالق. أما هنا فيقدم تعليلاً جديدًا، وهو تقديس يوم السبت من أجل أعماله الخلاصية وتجديد حياتنا، فهو الذي أطلقنا من عبودية إبليس (فرعون) ودخل بنا إلى كنعان السماوية. الآن صار الرب سبتنا، فيه يجد الآب راحته نحونا ونحن نجد راحتنا.

يذكرهم الرب بمرارة العبودية التي عاشوها في مصر، حاسبًا خروجهم هو السبت أو الراحة التي خلالها تمتعوا بالحرية. فالسبت الحقيقي هو أن نقدم للغير روح الحرية حتى لا تتمرر نفوسهم في مذلة. فالسبت هو انطلاق النفس بالحب نحو كل الإخوة وحتى نحو الحيوانات والطيور، مشتاقًا أن يتمتع الكل بالراحة الحقّة.

إن كان السبت هو "خروج" الإنسان من عبودية إبليس، لذا صار سبتنا هو يوم الأحد بكونه خروجنا تحت قيادة السيِّد المسيح، مختفين فيه، لنخرج من عبودية إبليس إلى حرية مجد أولاد الله.

line

ثانيًا: وصايا خاصة بعلاقتنا بأقربائنا في الرب:

5. إكرام الوالدين (وصية 5): بعد تقديم وصايا خاصة بعلاقة المؤمن بالله، يقدم الوصايا الخاصة بعلاقته بالإنسان، فيبدأ بعلاقته بالوالدين. من لا يعرف كيف يكرم والديه اللذين يراهما ويتلامس معهما حسيًا، كيف يمكنه أن يكرم الله أباه السماوي؟‍ في هذه الوصية أضاف ما اقتبسه الرسول بولس في رسالته إلى أهل أفسس (6: 3): "لكي تطول أيامك ولكي يكو لك خير على الأرض التي يُعطيك الرب إلهك" [16].

طول الحياة لا يعني المعنى الحرفي بل تمتع الإنسان بالخير، فاللحظات التي عاشها الجنين يوحنا المعمدان في بطن أمه أليصابات كانت مملوءة ثمارًا أكثر من القادة شيوخ إسرائيل الذين جحدوا الإيمان وقاوموا الحق. لذلك قيل إن يومًا عند الرب كألف سنة، وألف سنة عنده كيومٍ واحدٍ. حسابات الله غير حساباتنا البشرية. يقول سليمان الحكيم: "الخاطئ وإن عمل شرًا مائة مرة وطالت أيامه إلاَّ إني أعلم أنه يكون خير للمتقين الله الذين يخافون قدامه، ولا يكون خير للشرير، وكالظل لا يطيل أيامه، لأنه لا يخشى قدام الله" (جا 8: 12-13).

line

ثالثًا: وصايا خاصة بعلاقتنا بالمجتمع في الرب:

جاءت الوصايا الخمس الأخيرة معًا كأنها وصية واحدة.

"لا تقتل، ولا تزن، ولا تسرق، ولا تشهد على قريبك شهادة زور، ولا تشته امرأة قريبك، ولا تشته بيت قريبك، ولا حقله، ولا عبده، ولا أمته، ولا ثوره ولا حماره، ولا كل ما لقريبك" [17-20]. بهذا أوضح موسى النبي وحدة الوصايا. وكما يقول يعقوب الرسول: "لأن من حفظ كل الناموس وإنما عثر في واحدة فقد صار مجرمًا في الكل" (يع 2: 10).

6. لا تقتل (وصية 6) وقد أوضح السيِّد المسيح أن الإنسان قد يقتل بلسانه (مت 5).
7. لا تزنِ (وصية 7) طالبنا رب المجد بطهارة القلب الداخلية (مت 5).
8. لا تسرق (وصية 8).
9. لا تشهد على قريبك بالزور (وصية 9).
10. لا تشته امرأة قريبك ولا بيته ولا حقله (وصية 10). ذلك متى انشغل القلب بالله نفسه فيشبع ويفيض بالحب عوض طلب ما هو للآخرين.

+ حقًا إن شرائع الله تئن بصوتٍ عالٍ حين ترى فسادًا عظيمًا على الأرض[61].

القدِّيس باسيليوس الكبير
"هذه الكلمات كلم بها الرب كل جماعتكم في الجبل من وسط النار والسحاب والضباب
وصوت عظيم ولم يزد.
وكتبها على لوحين من حجر وأعطاني إيَّاها" [22].

أوضح موسى النبي أيضًا أن هذه الوصايا قدمت في جو من الرهبة العجيبة. إن كانت النار مرهبة، فإن رهبتها تزداد أكثر في وسط الظلمة. أكد النبي: "ولم يزد"، بمعنى أن وصايا الله كاملة، لا تحتاج إلى زيادة.

النار والسحاب والضباب [22]. سمع الشعب الرعد ولكن موسى سمع الكلام (يو 12: 29، أع 9: 7). فكان موسى وسيطًا بين الله والناس (غلا 3: 19) كرمز للسيِّد المسيح (شرح 34: 10).

كتبت الوصايا على لوحين من حجر: "وكتبها على لوحين من حجر وأعطاني إيَّاها" [22]. نحتها على حجرين حتى لا يستطيع إنسان أن يُغير شيئًا فيها.

يشير الحجران إلى القلب، إذ صار قلب الإنسان حجريًا، ويحتاج إلى الوصية الإلهية لكي تنقش بإصبع الله عليه. وضع موسى النبي اللوحين في تابوت العهد الذي يشير إلى الحضرة الإلهية. يقول القدِّيس يوحنا الحبيب: "وانفتح هيكل الله في السماء، وظهر تابوت عهده في هيكله، وحدثت بروق وأصوات ورعود وزلزلة وبرد عظيم" (رؤ 11: 19).

line

3. تسلمه الشريعة:
"فلما سمعتم الصوت من وسط الظلام والجبل يشتعل بالنار تقدمتم إليَّ جميع رؤساء
أسباطكم وشيوخكم.
وقلتم هوذا الرب إلهنا قد أرانا مجده وعظمته وسمعنا صوته من وسط النار هذا اليوم.
قد رأينا أن الله يكلم الإنسان ويحيا.
وأما الآن فلماذا نموت؟ لأن هذه النار العظيمة تأكلنا إن عدنا نسمع صوت الرب إلهنا أيضًا نموت.
لأنه من هو من جميع البشر الذي سمع صوت الله الحيّ يتكلم من وسط النار مثلنا وعاش.
تقدم أنت واسمع كل ما يقول لك الرب إلهنا وكلمنا بكل ما يكلمك به الرب إلهنا فنسمع ونعمل.
فسمع الرب صوت كلامكم حين كلمتموني وقال لي الرب سمعت صوت كلام هؤلاء الشعب
الذي كلموك به قد أحسنوا في كل ما تكلموا.
يا ليت قلبهم كان هكذا فيهم حتى يتقوني ويحفظوا جميع وصاياي كل الأيام لكي يكون
لهم ولأولادهم خير إلى الأبد.
اذهب قل لهم ارجعوا إلى خيامكم.
وأما أنت فقف هنا معي فأكلمك بجميع الوصايا والفرائض والأحكام التي تعلمهم فيعملونها
في الأرض التي أنا أعطيهم ليمتلكوها.
فاحترزوا لتعملوا كما أمركم الرب إلهكم لا تزيغوا يمينًا ولا يسارًا.
في جميع الطريق التي أوصاكم بها الرب إلهكم تسلكون لكي تحيوا ويكون لكم خير وتطيلوا
الأيام في الأرض التي تمتلكونها" [23-33].

لم يعد يحتمل الشعب أكثر مما رأى من نار تتقد في الجبل، وكان الصوت الإلهي الرهيب خارجًا من وسط الظلمة. لهذا طلب من موسى أن يتقدم لاستلام الشريعة نيابة عن الشعب كله. أدرك الشعب أنه لا يقدر أن يرى أكثر أو يسمع أكثر وإلاَّ ماتوا، مع شوق حقيقي للاستماع أكثر فأكثر، لذا طلبوا من موسى النبي أن يكمل المسيرة. العجيب أن هذا الطلب حدث بعد فترة قليلة من رغبتهم في قتله ورجمه (خر 17: 4).

أراهم أيضًا مدى اهتمام الله بهم، فإنهم إذ كانوا يتحدثون معه اهتم الله بهذا الحديث كمن هو مشغول بهم ولكلماتهم. "فسمع الرب صوت كلامكم حين كلمتموني، وقال لي الرب: سمعت صوت كلام هؤلاء الشعب الذي كلموك به وقد أحسنوا في كل ما تكلموا" [28].

الله المهتم بهم يطلب أن تكون قلوبهم مملوءة تقوى تطابق ما تنطق به ألسنتهم: "يا ليت قلبهم كان هكذا فيهم حتى يتقوني، ويحفظوا جميع وصاياي كل الأيام لكي يكون لهم ولأولادهم خير إلى الأبد" [29]. لقد أظهروا بشفاههم أنهم يطلبون مزيدًا من الأحاديث الإلهية أو الشرائع التي يقدمها عن طريق موسى كنائبٍ عنهم، لكن الله يطلب قلوبهم وليس مجرد شفاههم.

يُعلن القلب هنا عن الشوق الحقيقي والرغبة الصادقة والحب العميق، كما يمثل الإرادة الإنسانية الحرة. ليطلبوا بكامل حريتهم، فإنه وإن كانت قلوبهم قد صارت باردة يحولّها إلى نار إلهية ملتهبة، وإن كانت قد تحجرت تمامًا ينقش وصاياه عليها بإصبعه، فيجعل من القلب لوحين للشهادة، مقدسين للرب، وشاهدين للكلمة الإلهية.

+ إذ أود أن أُظهر شوق الله العظيم نحو خلاصنا اسمعوا ماذا وعد الشعب بعد معاصيهم الكثيرة لكي يسيروا في الطريق المستقيم، قائلاً: "من يهبهم قلبًا هكذا يكون فيهم حتى يتقوني ويحفظوا وصاياي كل أيامهم، لكي يكون لهم ولأولادهم خير إلى الأبد؟" [29]. وإذ كان موسى يحاورهم قال: "فالآن يا إسرائيل ماذا يطلب منك الرب إلهك إلاَّ أن تتقي الرب إلهك لتسلك في كل طرقه وتحبه؟" (تث 10: 12).

ذاك الذي هو مهتم أن نحبه، ويصنع كل شيء بهذا الهدف لم يشفق على ابنه الوحيد من أجل حبه لنا، حاسبًا أنه أمر محبوب لديه إن تصالحنا معه في أي وقت، فكيف لا يرحب بنا ويحبنا إن تُبنا؟[62].
القدِّيس يوحنا الذهبي الفم

عيَّن الله موسى النبي رسولاً له يتسلم الشريعة من فمه الإلهي. "وأما أنت فتقف هنا معي، فأكلمك بجميع الوصايا والفرائض والأحطام التي تعلمهم فيعملونها في الأرض التي أنا أعطيهم ليمتلكوها" [31].

v هذا ما قيل لموسى: "لأن الموضع الذي أنت واقف عليه أرض مقدسة" (خر 3: 5)، لا يقف أحد ما لم يقف بالإيمان، ما لم يقف ثابتًا مصممًا بقلبه. في موضع آخر نقرأ: "وأما أنت فقف هنا معي" (تث 5: 31). كل عبارة منهما إنما نطق بها الرب مع موسى، بمعنى قف معي، إن وقفت بثبات في الكنيسة. لأن الموضع ذاته مقدس، نفس الأرض مثمرة بالقداسة ومخصبة بمحاصيل الفضائل.

لتقف إذن في الكنيسة، لتقف حيث أظهر لك، وحيث أكون معك. حيث توجد الكنيسة يوجد أعظم مكان راسخ لراحة فكرك، فيه تجد عونًا لنفسك، فأظهر لك في العليقة.

أنت هو العليقة وأنا النار. النار ملتهبة في العليقة، إنني في الجسد. لذلك فأنا هو النار، أهبك النور، واستهلك أشواكك، أي خطاياك، وأظهر لك نعمتي.

إذ تقف بثبات في قلبك أطرد الذئاب التي تطلب أن تجد فريسة[63]..
القدِّيس أمبروسيوس

"فاحترزوا لتعملوا كما أمركم الرب إلهكم. لا تزيغوا يمينًا ولا يسارًا" [32].

بقوله هذا يريدنا أن نحترز للعمل كأمر الرب، أي نقبل بفرح إرادته الإلهية تحتل إرادتنا، أو نقبل أن يشكل إرادتنا لتصير مطابقة لإرادته، فإن كنا نخسر الإرادة الذاتية الضعيفة لكننا ننعم بما هو أعظم، نحمل بإرادتنا الحرة إرادة الله عاملة فينا.

أما غاية هذه الإرادة فهي السلوك في طريق الحق والبرّ، بكونه طريقًا مستقيمًا، يحملنا إلى حضن الآب، ويدفع بنا إلى أمجاد داخلية مع شركة مجد سماوي. ما هو هذا الطريق إلاَّ ذاك الذي قال: "أنا هو الطريق والحق والحياة".

من وحي تثنية 5
لا أزيغ عنك يمينًا ولا يسارًا

+ وهبتني وصاياك طريقًا للحق.
يحملني روحك ويقودني في الطريق الملوكي.
لا أزيغ يسارًا بالشهوات والرجاسات.
بل أسير في الطريق الملوكي وأبلغ أحضان أبيك.
أنت هو الطريق والحق والحياة.

+ قدمت لي الوصايا العشر من وسط النار.
ليصر قلبي نارًا ملتهبة فتتكلم في داخلي.
تنقش على قلبي الحجري وصاياك الإلهية.
وتجعل من أعماقي تابوت عهدٍ لك.

+ لأحفظ وصاياك بروحك الناري.
فلا أرى إلهًا غيرك.
يتسع قلبي لك فيحمل فيه البشرية المحبوبة لديك.
أصير أيقونة حيّة لك.
ِوأتشبه بك يا من ليس لك شبيه!

line
المراجع:
[47] للمؤلف: الإنجيل بحسب متى، 1983 – ص343.
[48] Letter 123 to Agruchia.
[49] So-called Second Letter of Clement 3:4.
[50] Fr. Caesarius of Arles: Sermons 100,100a.
[51] Sermon 100:1.
[52] Sermon 100:2.
[53] Sermon 100:3.
[54] Sermon 100:4.
[55] Sermon 100:5.
[56] St. Augustine: On the Gospel of St. John, trac. 41:2.
[57] See In John, hom. 56.
[58] راجع تفسير اللاويين، اصحاح 23.
[59] للمؤلف: المسيح في سرّ الافخارستيا، 1973، أرض مصر 125.
[60] City of God, 22:30.
[61] St. Basil the Great: Letters 46:1.
[62] Letters to the Fallen Theodore 1:15.
[63] St. Ambrose, Letter 63:41,42.