Our App on Google Play Twitter Home أبحث

تفسير الاصحاح الثانى عشر من سفر صموئيل الثانى للقمص تادري يعقوب ملطى

اعتراف داود النبي

 عاش داود النبي عامًا كاملاً مع خطيته لم يبكته ضميره عليها بالرغم من خبراته الروحية القديمة ومعرفته للناموس وعمله كقاض للشعب يحكم بالعدل. كان محتاجًا إلى ناثان ليبكته على عمله ويحفزه على الاعتراف بما ارتكبه.

١. ناثان يوبخ داود [١-٩].
٢. تأديب داود [١٠-١٢].
٣. توبة داود [١٣ – ١٤].
٤. موت ابن بثشبع [١٥-٢٣].
٥. ميلاد سليمان [٢٤- ٢٥].
٦. داود يهزم ربّة [٢٦ – ٣١].

line

١. ناثان يوبخ داود :


أرسل الرب ناثان إلى داود ليوقظ ضميره، فروى له قصة الرجل الغني الذي أبى أن يذبح إحدى نعاجه لضيفه، مغتصبًا نعجة الفقير الوحيدة الصغيرة التي اقتناها لنفسه ورباها وكبرت معه مع بنيه جميعًا، أكلت من لقمته وشربت من كأسه، ونامت في حضنه وكانت له كابنة. حمى غضب داود على هذا الغني المغتصب أخاه الفقير وأصدر حكمه: "حيّ هو الرب أن يقتل الرجل الفاعل ذلك، ويرد النعجة أربعة أضعاف، لأنه فعل هذا الأمر ولأنه لم يشفق" [٦]. أجابه ناثان النبي: "أنت هو الرجل" [٧].

الضيف الجائع هي شهوة داود التي ثارت فيه خلال تراخيه وتهاونه مع الخطية، فأراد أن يشبعها باغتصابه بثشبع الصغيرة الوحيدة المحبوبة جدًا لدى رجلها، هذه التي عاشت معه تشاركه حياته وأكله وشربه وسرير نومه، رافقته زمانًا بكل أحاسيسها ومشاعرها، والآن يغتصبها الغني جدًا داود الذي أقامه الله ملكًا والذي تهاون بالناموس بزواجه كثيرات.

 في كل يوم كان داود يتعظم جدًا لأن رب الجنود كان معه (١٥: 10). كان الله يود أن يقدم له أكثر فأكثر لكنه بخطيته أغلق على نفسه دون فيض النعم المجانية.

بحسب الشريعة لا يُقتل السارق إنما يرد أربعة أضعاف (خر ٢٢: ١، لو ١٩: ٨)، لكن ظروف السرقة كما وصفها ناثان (وتنطبق على داود) أغضبت داود جدًا فطلب قتل الرجل دون أن يدرك أنه يحكم على نفسه، خاصة وأنه لم يسرق نعجة وحيدة بل امرأة إنسان مخلص وأمين، اغتصبها في ظروف حرب وقتل رجلها.. فماذا يستحق؟

يليق بنا أن نقف قليلاً أمام تصرف ناثان، فقد جاء تصرفًا حكيمًا، وصريحًا، حازمًا، ومملوءًا حبًا. لم يخف أن يتحدث بصراحة وبحزم مع ملك أخفى جريمته بقتل أوريًا الحثي، وكان يمكن أن يتعرض ناثان لذات المصير، في جرأة لم يخشَ الملك ولا حاباه، وكما جاء في الدسقولية: [لا تحابي الوجوه عندما توبخ على خطايا، إنما اعمل مثل إيليا وميخا مع آخاب (١ مل 18: 21-٢٢)، وعبد ملك الأثيوبي مع صدقيا (إر ٣٨، ٣٩)، وناثان مع داود (٢ صم ١٢)، ويوحنا مع هيرودس (مت ١٤)[1]].

كان صريحًا وحازمًا وأيضًا مملوءًا حبًا.. فتح أباب الرجاء أمام داود الملك.

جاء ناثان ليتحدث مع داود خفية دون أن يقف ليشهر به علانية، وإن كان الله قد سمح بنشر كل ما حدث لأجل خلاصنا. هكذا يليق بنا عند توبيخنا للغير أن نلتقي بهم خلال دائرة الحب والصداقة، لا التشهير العلني أمامهم أو في غيبتهم.

يقول مار اسحق السرياني: [من يصلح أخاه في حجرته الخاصة يشفيه من الشر، أما من يتهم آخر في اجتماع علني فيدمي بالأكثر جراحاته. من يشفي أخاه خفية يعلن قوة حبه، وأما من يجعل أخاه في خزي أمام أصحابه فيبرهن على قوة حسده. الصديق الذي ينتهر آخر في السر هو طبيب حكيم، أما من يرغب في معالجته أمام أعين الكثيرين ففي حقيقته هو شتّام[2]].

line

٢. تأديب داود :


محبة الله لداود دفعته أن يرسل ناثان لإيقاظ ضميره ولتأديبه علانية، فمن الأفضل له أن يُفضح هنا في الزمان الحاضر فيتوب ويرجع إلى الله عن أن يغطي على جراحات النفس فيهلك الإنسان في خطيته أبديًا. لذلك قال ناثان لداود: "والآن لا يفارق السيف بيتك إلى الأبد، لأنك احتقرتني وأخذت امرأة أوريا الحثي لتكون لك امرأة. هكذا قال الرب. هأنذا أُقيم عليك الشر من بيتك وآخذ نساءك أمام عينيك وأعطيهن لقريبك فيضطجع مع نسائك في عين هذه الشمس. لأنك أنت فعلت بالسر وأنا أفعل هذا الأمر قدام جميع إسرائيل وقدام الشمس" [١٠-١٢].

يبدو أن هذا التأديب كان قاسيًا للغاية لكنه كان ضروريًا لخلاص نفسه وخلاص الآخرين:

أ. أوضح أن هذا التأديب هو الثمر الطبيعي للخطية، فما يجتنيه داود إنما القليل من ثمار فعله. لقد قتل سرًا فأفاض القتلُ قتالاً. وزنى خفية وأفاض ذلك فسادًا. أما كون التأديب يتحقق داخل بيت داود، فمن جهة مات ابنه الذي من بثشبع، واغتصب أمنون بن داود ثامار أخته (١٣: ١-٢٢) فقتله أخوه أبشالوم (١٣: ٢٣-٣٨)، وقام أبشالوم على أبيه داود ليغتصب منه الملك واضطجع مع سراريه أمام جميع إسرائيل (١٦: ٢٢) وطلب قتل والده (17: 2) فقُتل هو (١٨: ١٤-١٥)، وقتل أدونيا بأمر أخيه سليمان (١ مل ٢: ٢٥)..

هذه جميعها تمت داخل بيت داود لكن يؤكد الله أن ما تم إنما هو ثمر طبيعي داخلي للفساد الذي قبله داود بإرادته.

ب. خلال تأديبات داود التي حلت ببيته أوضح الكتاب المقدس خطوره دور الأسرة وقدسيتها. فما ارتكبه داود أثمر في حياة أولاده، وإن كانوا لا يعاقبون على خطئه، إنما يذوقون هنا مرارة ما ورثوه عن أبيهم. الآباء الفاسدون يقدمون لأبنائهم فسادًا، والمباركون يقدمون لهم البركة.

ج. كانت العقوبة قاسية بالنسبة لداود لأنه قائد، كان يليق به أن يكون مثالاً حيًا لشعبه، لذا صارت عقوبته مضاعفة. فالعقوبة ليست ثمنًا معادلاً للخطية، لكنها تأديب لإصلاح المخطئ ومن هم حوله، تختلف حسب ظروف كل إنسان. يقول القديس يوحنا الذهبي الفم: [ليست العقوبة واحدة لكل الخطايا، بل توجد عقوبات كثيرة ومتنوعة حسب الأوقات والأشخاص ورتبهم وفهمهم وأمور أخرى[3]].

د. لتأكيد أنه ليس عند الله محاباة، فإنه وإن كان قد أقامه نبيًا وملكًا وقاضيًا، وله تاريخ مجيد في حياة مقدسة لكنه متى أخطأ يستوجب التأديب. يقول القديس إيريناؤس: [الله غير محاب للوجوه، لذا يوقع عقوبة مناسبة على التصرفات التي لا تسره.

وذلك كما في حالة داود الذي عانى الإضطهاد من شاول (١ صم ١٨) من أجل البر، وهرب من الملك شاول ولم يرد أن ينتقم من عدوه، وأنشد بمجيء المسيح، وعلَّم الأمم الحكمة، وفعل كل شيء بإرشاد الروح وسُرّ به الله. لكنه عندما دفعته شهوته ليأخذ بثشبع زوجة أوريا يقول الكتاب: "وأما الأمر الذي فعله داود فقبح في عيني الرب" (١١: ٢٧). وأرسل إليه ناثان النبي يشير له إلى جريمته حتى يحكم على نفسه ويدين ذاته فينال رحمة ومغفرة من المسيح[4]].

line

٣. توبة داود :


دخل داود النبي إلى أعماقه ليكتشف ضعفاته دون تقديم أي مبررات خارجية لنفسه. شعر أنه أخطأ بلا عذر، وحسب خطيته موجهة ليس ضد أوريا الحثي ولا بثشبع وإنما أولاً وقبل كل شيء ضد الله نفسه. لم يخجل كملك عظيم ونبي وقاض ومنظم لأمور العبادة أن يعترف لله في حضرة ناثان النبي قائلاً: "قد أخطأت إلى الرب" [١٣].

شعر أن الخطية في داخله مُرّة للغاية لذا وجب عليه أن يتقيأها، وكما يقول مار اسحق السرياني: [تذكر أن كل لذة يتبعها غثيان ومرارة كصديقين متلازمين[5]]. لقد تقيأ المُرّ الذي في داخله في خجل من نفسه ومن خطيته لا من الاعتراف أمام ناثان.

جاءت إجابة ناثان تعلن حب الله الفائق: "الرب قد نقل عنك خطيتك لا تموت". بحسب الشريعة كان يجب أن يُقتل لكن الله في رحمته عفا عنه فلا يقتل، كما بالتوبة ينعم بالخلاص – خلال الذبيحة المقدسة – فلا يموت بل يتمتع بالحياة الغالبة للموت.

خلال هذه التوبة الصادقة سجل لنا داود النبي الكثير من "مزامير التوبة" مثل (مز ٦، ٣٢، ٣٨، ٥١، ١٠٢، ١٣٠، ١٤٣) يتوّجها المزمور الخمسون (مز ٥١) الذي ننشده في كل صلاة طالبين مراحم الله بالتوبة الصادقة.

+ أيا كنت أنت يامن تخطئ وتتردد في ممارسة التوبة عن خطاياك، يائسًا من خلاصك، اسمع داود يتنهد. لم يُرسَل إليك ناثان، إنما داود نفسه مُرسل لك.

اسمعه يصرخ، واصرخ معه!
اسمعه يتنهد، وتنهد معه!
اسمعه يبكي، واخلط دموعك بدموعه!
اسمعه وهو يصلح نفسه، وافرح معه!
إن كانت الخطية لم تُنْزَع عنك، فلا تنزع الرجاء في المغفرة!

أُرسل ناثان النبي لذلك الرجل، فلاحظ اتضاع الملك، إذ لم يحتقر كلمات النصح المقدمة له، ولم يقل له: كيف تتجاسر وتتحدث معي أنا الملك؟ الملك العظيم أصغي لنبي، ليت شعب (المسيح) المتضع ينصت للمسيح.

+ "لأني أنا عارف بإثمي وخطيتي أمامي في كل حين" (مز ٥٠ (٥١): ٣)..
لم تكن خطيته قبلاً أمامه بل خلف ظهره، لم يكن يعرف إثمه.. لكن جاء النبي بهذا الهدف أن يأخذ خطيته من وراء ظهره ويضعها أمام عينيه، لكي يرى الحكم المعلن ضده، لكي يفتح جرح قلبه ويداويه. استخدم مبضع (مشرط) لسانه..
القديس أغسطينوس[6]

+ داود أيضًا أخطأ [١٧]، لننظر كيف تاب.. لقد غسل الخطية بالإتضاع وندامة القلب وتوبة النفس وعدم السقوط مرة أخرى، وبتذكره الدائم لخطيته، وقبوله كل ما حلَّ به بشكر، وتركه الذين يحزنونه، واحتماله المتآمرين عليه دون مقابلة الشر بالشر بل ومنع الذين يرغبون ذلك..
كان له قلب منسحق به تمتع بغسل خطاياه خلال التوبة والاعتراف.
القديس يوحنا الذهبي الفم [7]

+ أزال كل ثقل الخطايا خلال اعتراف كامل بكلمة واحدة.
القديس يوحنا كاسيان[8]

أما عن محبة الله لمؤمنيه فتدفعه للتأديب من أجل بنيانهم:
+ لا تنظر إلى الله كمجرد ديَّان بل تطلع أيضًا إلى أمثلة من تصرفاته هذه، إنه كُلِّيُّ الصلاح.. تأمله عندما يظهر الرحمة. في مقابل حزمه (قسوته) ضع في الميزان لطفه.
العلامة ترتليان[9]

+ تأديب المحبة للإصلاح وليس للنقمة. الإنسان الحكيم البار يتشبه بالله، فإنه لن يؤدب إنسانًا ليرد له الشر وللإنتقام، بل ليصلحه أو ليخيف الآخرين.
مار إسحق السرياني[10]

الله محب لأولاده، في محبته يسمح بتأديبهم حتى يدركوا بغضه للخطيه. لقد سمح الله بموت الابن الذي جاء ثمرة الخطية [١٤]، لا لذنب ارتكبه الطفل وإنما حتى لا يظن من حوله – خاصة الوثنيين – أن عند الله محاباة.

line

٤. موت ابن بثشبع :


مرض الطفل جدًا فتذلل داود من أجل محبته للطفل، وأيضًا لأنه شعر أن موت الطفل علامة غضب الله على والديه. كان يترجى أن الله يشفق على الطفل وعلى والديه، فكان يُصلي صائمًا واضطجع على الأرض [١٦]. "قام شيوخ بيته عليه ليقيموه عن الأرض فلم يشأ ولم يأكل معهم خبزًا" [١٧].

في اليوم السابع مات الطفل، وخاف عبيد داود أن يخبروه لِما رأوا فيه من تذلل. رآهم يتناجون فأدرك ما حدث، ولما سألهم أجابوه إن الطفل مات. قام داود عن الأرض اغتسل وتدهَّن وبدَّل ثيابه ودخل بيت الرب وسجد ثم جاء إلى بيته يطلب أن يأكل.

ما أعجب داود النبي الذي أعلن تسليمه الكامل لإرادة الله. لقد تذلل قبلاً طالبًا الرحمة، أما وقد مات الولد فيخضع لإرادة الله قائلاً: "الآن قد مات فلماذا أصوم؟ هل أقدر أن أرده بعد؟ أنا ذاهب إليه وأما هو فلا يرجع إليَّ" [٢٣].

لقد مسح نفسه بالدهن علامة الفرح، إذ يقول القديس يوحنا الذهبي الفم: [كانت عادة القدماء أن يمسحوا بدهن باستمرار عندها يكونون في سرور وفرح. هذا ما يراه الإنسان بوضوح في داود ودانيال (دا ١٠: ٣)[11]]. بقدر ما تذلل داود أثناء مرض طفله فرح وتهلل عندما أراد الله له أن يأخذه إليه. وكما يقول القديس يوحنا الذهبي الفم: [إنها حكمة حقيقية! هذا هو الحب! مهما أحببت ابنك لن تحبه كما يحبه الله[12]].

القلب المنفتح على السماء لا يخاف الموت بل يقبله بفرح كانطلاق نحو المسيح.

+ لا تخف الموت، فقد دبر الله إعدادات لتقوم غالبًا الموت[13].

+ ثبت رحيلك في قلبك يا إنسان؛ قل لنفسك على الدوام:

"انظر، الرسول على الأبواب، لقد جاء إليّ.

لماذا أنا متراخٍ؟! إن رحيلي أبدي، هناك لا توجد عودة!".

اعبر الليلة متأملاً في ذلك. تأمل في هذا الفكر خلال النهار. وعندما يأتي وقت الرحيل حيِّهِ ببهجة قائلاً: "تعال في سلام. لقد عرفت أنك قادم، فلم أهمل في أمر ينفعني في الطريق"[14].
مار إسحق السرياني

line

٥. ميلاد سليمان :


عزى داود بثشبع، فإنه لم يطردها بكونها علة أحزانه ومتاعبه؛ وأنجب منها سليمان (معناه "سالم" أو "صانع سلام"[15])، إذ في أيامه استراحت المملكة من الحروب (١ أي ٢٢: ٩).

اختار داود النبي هذا الاسم ربما لكي يعلن أنه وإن كانت الخطية قد أثارت زوابع كثيرة في حياته، لكنه بالتوبة الصادقة والإتكال على مراحم الله استعاد سلامه الداخلي بنواله المغفرة وإن حلَّت به التأديبات من كل جانب.

أحب الله هذا الطفل، وأرسل ناثان حيث دعاه "يديديا" أي "محبوب الله" ليؤكد الله لوالديه أنه وإن مات الطفل الأول للتأديب فالثاني يعلن محبة الله لهما وغفرانه خطيتهما.

line

٦. داود يهزم ربّة :


عاد الكاتب إلى خبر الحرب مع بني عمون الذي بدأه في (١١: ١)، حيث هزم يوآب ربّة عاصمة بني عمون. أرسل إلى داود الملك ليأتي ويدخل المدينة حتى تُحسب النصرة لداود وتنسب إليه المدينة كغالب ومنتصر. بالفعل خرج داود وحاربها وأخذ تاج ملكها الذي يزن وزنة ذهب (حوالي ٢٨ رطلاً) مع حجر كريم. لبسه داود، وذلك بأن أمسكه اثنان من العظماء ورفعاه على رأسه بعض الوقت علامة تسلطه على مملكة بني عمون.

تمتع داود بغنائم كثيرة بعد أن قتل شعب المدينة.

line
المراجع:
[1] Constit. Of The Holy Apostles 7: 1.
[2] The Ascetical homilies, hom. 48.
[3] On Matt. hom. 75.
[4] Iren. Ad Haer. 4: 27: 1.
[5] hom. 32.
[6] On Ps. 51 (50)
[7] In 2 Cor. hom. 4.
[8] Institute 12: 11.
[9] Ad Marcion 2: 17.
[10] hom. 48.
[11] On Matt.
[12] On Colos. hom. 8.
[13] hom. 48.
[14] hom. 64.
[15] St. Augustine: On Ps. 127.