في قلب صحراء سيناء، حيث الصمت ليس فراغًا بل صلاة، وحيث الجبل شاهد على تاريخٍ لا يشيخ، التقيتُ رجلًا بدا وكأنه خرج من روح المكان ذاته.
الأرشمندريت سيميون (ديميتريوس بابادوبولوس)، رئيس أساقفة سيناء وفاران ورائثو، ورئيس دير القديسة كاترين بجبل سيناء، لا يلفت الانتباه بالهيبة وحدها، بل بالسكينة التي تسبق حضوره، وبالطمأنينة التي تظل بعد انتهاء الحديث.
وجهه بشوش، ملامحه هادئة، ونظرته تحمل ودًّا صادقًا لا تصنعه المناصب. استقبالك عنده ليس إجراءً بروتوكوليًا، بل ضيافة راهب اعتاد أن يفتح القلب قبل الأبواب. كلماته متزنة، صوته منخفض، لكن معانيه واسعة، تشبه خبرة رجل اختار الطريق الصعب منذ زمن بعيد، وسار فيه بثبات.
وُلد في اليونان، وتكوّن علميًا ولاهوتيًا في جامعة أثينا، حيث درس اللاهوت والفلسفة، وعمل بالتدريس والخدمة الرعوية، منخرطًا في حياة الناس وآلامهم وأسئلتهم. لم يكن العلم عنده ترفًا فكريًا، بل أداة لفهم الإنسان وخدمته. ومع ذلك، ظل قلبه مشدودًا إلى حياة الرهبنة، إلى الدعوة الأعمق التي لا تُقاس بالنجاح الظاهري، بل بالاختيار الداخلي.
في عام 1988، ترك كل شيء وجاء إلى دير القديسة كاترين، أحد أقدم أديرة العالم وأقدسها. لم يأتِ باحثًا عن منصب، بل عن معنى. عاش سنوات طويلة في صمت الجبل، تعلّم من قسوته الرحمة، ومن وحدته الشركة، ومن صلاته الدائمة الاتزان. وفي عام 1999، نال الإسكيم الكبير، علامة اكتمال المسيرة الرهبانية، لا كتشريف، بل كمسؤولية روحية أثقل.
داخل الدير، تنوّعت خدمته وتكاثرت مسؤولياته؛ فكان قيّمًا على الآثار، وأمينًا للمكتبة، وحارسًا للذاكرة النادرة التي يحملها الدير بين جدرانه من مخطوطات وتراث إنساني فريد. شغل موقع سكرتير الأخوية، ورأس فروع الدير في اليونان، ثم صار الـDikaios، أي المسؤول الروحي عن الأخوية، جامعًا بين الحكمة الروحية والإدارة الهادئة التي لا تُحدث ضجيجًا.
ولم تنفصل حياته الرهبانية عن همّ الإنسان؛ فقد امتدت خدمته الاجتماعية خارج أسوار الدير، فأسّس وشارك في أعمال خيرية ملموسة في اليونان، شملت دارًا للمسنين وميتمًا للأطفال، إيمانًا منه بأن الصلاة التي لا تتحول إلى رحمة، تظل ناقصة.
في سبتمبر 2025، انتخبته الكنيسة رئيسًا لأساقفة سيناء وفاران ورائثو، ورئيسًا لدير سانت كاترين، وفي أكتوبر من العام نفسه سيم أسقفًا في القدس، في احتفال كنسي كبير ترأسه بطريرك القدس ثيوفيلوس الثالث. اختيار لم يأتِ مصادفة، بل تتويجًا لمسيرة طويلة من الصمت والخدمة والأمانة.
الأرشمندريت سيميون ليس رجل مرحلة عابرة، بل امتداد طبيعي لرسالة الدير العريقة؛ رسالة الحفظ لا الجمود، والتجديد بلا تفريط، والخدمة التي تبدأ من الداخل وتمتد إلى العالم. في حضوره تشعر أن القيادة يمكن أن تكون هادئة، وأن القوة قد تكون في الاتزان، وأن الروحانية الحقة لا تحتاج إلى استعراض.
هذا الحوار هو اقتراب من رجل جميل في إنسانيته، عميق في إيمانه، مضيء في هدوئه… رجل يشبه جبل سيناء: صامت، ثابت، ومليء بالأسرار فألي نص الحوار
تبدو هادئًا… ماذا صنعت فيك الرهبنة؟
أشكرك على ذلك، وأتمنى أن أكون هادئًا ظاهرًا وباطنًا، وأن أكون كما رأيتِني. كان الآباء القديسون يقولون قديمًا إن الإنسان يشبه البحر؛ تارةً هادئًا وتارةً هائجًا. نحن نشبه البحر كثيرًا، فالإنسان يهدأ ويثور، وهذا أمر طبيعي.
لماذا تخليت عن العالم واخترت حياة الرهبنة؟
أرى أن هذا سؤال عام، ولا توجد ترجمة مبسطة لحياة كحياة الرهبنة. فالرهبنة في بدايتها فكر، ثم يبدأ الإنسان في التحرك واتخاذ خطوات نحوها. ولكي يتخذ الإنسان قرارًا كهذا، لا بد أن يبدأ من
البداية، ورغم صعوبتها فإنها تكون ممتعة. يختار الإنسان الاتجاهات التي تمنحه راحة داخلية، وكنت في حاجة إلى روحانيات أعمق. أحيانًا تأتي الأحداث نفسها دافعةً نحو الرهبنة، فتؤكد شعور الإنسان
واختياره. نشأت في بيئة مسيحية مؤمنة جدًا، وكان شرفًا عظيمًا للعائلة أن يكون فيها راهب مسيحي، وهو أنا. وبعد الجامعة زرت دير سانت كاترين، فكان ذلك أول سهم يصيب قلبي من عظمة الجبل الذي كلم
الله عليه موسى. ومن هنا عشقت سيناء، وعشقت مصر، ومال قلبي وعقلي إلى سيناء. ثم وجدت أناسًا أقرب إليّ كانوا رهبانًا في الدير. وأنا الآن في الثامنة والثلاثين من عمري، داخل دير سانت كاترين، وهو عمر كبير
كنتُ أتوقع أن تكون مطرانًا، فكيف أصبحتَ رئيسًا للدير؟
كنتُ في مقرّ الدير باليونان، وكنتُ محلَّ توجيه من آباء الدير وجهاتٍ عليا في دولٍ عديدة لأن أكون رئيسًا للدير. أتمنى أن أتمكن من عبور جميع الأزمات. ولا أعلم كيف جرت الأمور حتى أصبحتُ رئيسًا للدير، لكنه شرفٌ عظيم. أفتخر بأن
أكون سينائيًّا، فهذا مكان فريد تُقام فيه القداس الإلهية دون انقطاع منذ ثمانية عشر قرنًا، منها خمسة عشر قرنًا منذ أن بُني الدير. لقد عاش الرهبان في هذا الدير منذ أواخر القرن الثاني الميلادي، ولم تنقطع الحياة الرهبانية فيه قط.
ورغم ما تعرضنا له من هجمات، وما شهدناه من مذابح وانهيارات في سنواتٍ عديدة، فإن جزءًا كبيرًا من الرهبان ظلّ ثابتًا في هذا المكان. وفي السنوات الحالية قد تجعلنا الأحداث
نشعر بالحزن، لكننا في سيناء نجد شعاع الأمل ونجد القدرة على استكمال الحياة. أتمنى دائمًا الخير لمصر، فبرغم جنسيتي اليونانية، تظل مصر وطننا الثاني، ونتمنى أن تبقى
دائمًا مضيافة لنا. أشكر مصر على احتضانها لمكانٍ كهذا يحترم الديانات السماوية الثلاث، وهو أمر نادر. وهناك شخصيات كبيرة من الدولة المصرية تطلب مني الصلاة هنا في الوادي المقدس
كيف ترون تحديات العصر، مثل الحروب ووسائل التواصل الاجتماعي وما يشهده العالم من أحداث؟
أرى أن لكل عصر تحدياته وصعوباته الخاصة، وفي الوقت الحاضر نستقبل عددًا كبيرًا من الزوار بغرض السياحة، وهو أمر عظيم لمصر وله أسباب عديدة، وهذا لا يمنع أننا نتعب كرهبان داخل الدير، لكننا لن نغلق أبوابنا أبدًا، ونستقبل الزوار دائمًا بكل أريحية ومحبة.
أما الأمور السلبية فلا تتوقف عن محاربة كل ما هو جميل وخيّر، لكنها في الوقت نفسه تمنحنا وعيًا أعمق بقيمة الحياة، نحن نواجه الشر دائمًا بالخير، وبالطبع توجد صعوبات في الحياة، لكننا نستعين بالصلاة ونتقوى بها.
سُمعتك كراهب كانت طيبة، وعلاقاتك جيدة بالآباء الرهبان داخل الدير، حدّثنا عن ذلك.
أتمنى أن يكون هذا الكلام صحيحًا، وأتمنى أن أكون منظورًا على حقيقتي. فليس المهم أن يبدو الإنسان صالحًا، بل أن يكون صالحًا من داخله. وكما يقول المثل: الظاهر غير الباطن. وأتمنى أن تكون صورتي صحيحة في نظر الآخرين.
الجميع أشاد بسمعتك، كيف ترى ذلك؟
هم الذين يحكمون ويعرفون.
ماذا ستفعل في الفترة المقبلة بعد انتهاء المراسم والتجليس؟
هذا السؤال عادة ما يُوجَّه إلى السياسيين، أما أنا فإنسان كنسي، سأعيش راهبًا كما كنت، ولكن بصفتي رئيسًا للدير سأحتوي الرهبان، وأكون على صلة طيبة بالمحيطين، وأدافع عنهم وعن قيمة دير سانت كاترين، وأطلب من الله أن يزرع فينا عطاءً أكثر، وأن نظل فاتحين بيتنا للجميع، ونكون أبًا وأبناء للرهبان، وأن نكون جميعًا في أحضان الله.
من المفترض أن يتم منحك الجنسية المصرية؟
في أول العام الجديد سأحصل على الجنسية المصرية.
هل ترى فرقًا بين حمل الجنسية المصرية وتجديد الإقامة؟
فرحة كبيرة وشرف عظيم، لأن مصر أمي الثانية. وكان شعوري صعبًا كأجنبي بعد إقامتي أربعين عامًا في مصر، وهناك رهبان أقدم مني في سيناء لم يحصلوا على الجنسية المصرية. ومن
هنا لي مطلب: أن تُمنح لنا إقامة ثلاث سنوات بدل سنة، ولا نطمع في الجنسية المصرية، بل فقط تسهيل العيش علينا. ومطلب كبير لنا، نحن إخوة سيناء، أن نحصل على الجنسية
المصرية، والراهب إذا أخطأ تُسحب منه أو يُجرَّد منها. لكن حصولنا على الجنسية شرف عظيم نستحقه ونتمناه. وأنا أُعلن ذلك كمطلب ورجاء وليس شكوى، فنحن نأمل في مصر العطاء دائمًا.
هل ستظل أبواب الدير مفتوحة للجميع؟
بالطبع، هناك جدول مُعلن يتم نشره، والدير مفتوح بالفعل. نحن نعيش حياة مستقرة داخل الدير، ولكن وفق ساعات محددة. هناك زيارات يومية، وفي أوقات الاحتفالات الكُبرى والصلوات نكون فاتحين الأبواب للجميع.
كيف تسير حياتك اليومية داخل الدير؟
كما ذكرت، حياتي تنقسم إلى ثلاثة أقسام: ثماني ساعات صلاة، وثماني ساعات عمل، وثماني ساعات راحة، إلى جانب شق إداري كبير. وكل راهب داخل الدير لديه مهام قاسية يؤديها بمحبة من أجل الكنيسة؛
فهناك راهب مسؤول عن النظافة وشؤون الكنيسة، وراهب لإضاءة الشموع، وفي الاحتفالات الكبرى نُضيء مئةً وعشرين قنديلًا. وهناك راهب يقوم بخدمة القداس، وهي خدمة تتطلب وقتًا وجهدًا كبيرين،
وراهب مسؤول عن توزيع الأطعمة والمعاشات واحتياجات الآباء وتنظيم مطعم الدير، وراهب مسؤول عن المكتبة، وهي ثاني أكبر مكتبة في العالم، وراهب لشرح الدير للوافدين. لذلك، فإن أعمالنا كثيرة وثقيلة.
كم يبلغ عدد الرهبان داخل الدير؟
عدد الرهبان الذين لهم حق الانتخاب عشرون راهبًا، ومعهم أربعة آخرون، ليكون العدد الإجمالي نحو خمسةٍ وعشرين راهبًا.
ولماذا لم تنتخب؟
هذا هو قانون الدير؛ فالراهب المُنتخَب لا يَنتخب، وبالتالي لا يكون له صوت.
ما طبيعة علاقتك بالطوائف المسيحية المختلفة، وأنت تنتمي إلى الروم الأرثوذكس؟
نحن نفتح أذرعنا للجميع. وعلى المستوى الإنساني نقبل الجميع، رغم وجود اختلافات بين كل طائفة وأخرى في الطقوس. لكننا نحيا جميعًا بالإنسانية. وقد حضر المطران القبطي المطران أبولو، وهنّأنا بالترسيم، وكل طائفة تؤدي صلواتها بطريقتها الخاصة، وهذا اختلاف وليس خلافًا. والجميع يطلب بركة الصلوات من قلب كاترين.
ما الذي تراه مميزًا في مصر؟
كاترين وسيناء عمومًا محظوظ من ينتمي إليهما. ومصر تشبه اليونان كثيرًا حضاريًا وثقافيًا وفي محبة الشعوب. وحب مصر مرتبط بحبنا لسيناء، فنحن نراها عظيمة، حرة، جميلة، ولها بهاء خاص. وكانت أول مرة أزور فيها سيناء بسبب تاريخها؛ فمنذ طفولتنا في اليونان كنا ندرس الحضارة المصرية لأنها حضارة قديمة وعريقة، ولأن اليونانيين كانت لهم صلة بالفراعنة، ونشترك جميعًا في تاريخ الإسكندر الأكبر.
لماذا لم تتعلم اللغة العربية حتى الآن؟
أعرف القليل، لكنني أتحدث باللهجة البدوية أكثر من العربية، لأننا نعيش مع البدو. وأشعر بالحرج أن أتحدث باليونانية مع البدوي، أو بالعربية الفصحى، فأغلب حديثي يكون باللهجة البدوية مع البدو.
ما طبيعة علاقتك بالمجتمع البدوي خارج أسوار دير سانت كاترين؟
تاريخنا معروف دائمًا، وعلاقتنا بالبدو من أفضل العلاقات. هم حماية وسند وعون لنا، والدير مكان سياحي وتاريخي في آن واحد. وهناك شقان: شق سياحي وشق تاريخي. والبدو دائمًا موجودون في حمايتنا وحماية الدير، وإذا وُجد عدو أو عداء، تكون علاقتنا قائمة على الاحترام والأُسس الثابت
شعرنا بقربهم الحقيقي عندما تغيّرت الحكومة ورحل الرئيس مبارك، وحدث انفلات أمني. في تلك الفترة الصعبة وقف البدو بجانبنا، وساندونا، وحموا ممتلكات الدير. لم يكتفوا بذلك، بل أقاموا نقاط تأمين وفرضوا إجراءات أمنية مشددة لحماية الدير والرهبان. وهذا يُعد أعظم ما قدّموه لنا، إذ أثبتوا بالفعل أننا إخوة.. وخاصة قبيلة الجبالية، التي تقوم بدور أساسي وتاريخي في حمايتنا كرهبان وحماية الدير
دير القديسة كاترين هو بيت سلام ومحبة، وموقفنا دائمًا قائم على ردّ الجميل والوفاء لمن ساندونا. ففي زمن الحرب العالمية الثانية، لجأ يونانيون إلى مصر، فتم استقبالهم وحمايتهم، وبالفعل بعدما انتهت الحروب عادوا إلى وطنهم سالمين. هذا الموقف التاريخي يُعبّر عن جزء أصيل من محبتنا للإنسان، وامتناننا لكل من وقف معنا وساندنا في أوقات الشدة
أحب أن أشكركِ كثيرًا، لأنكِ مثّلتِ مهنة الصحافة بتقدير واحترام كبيرين. لقد رأيتُ فيكِ عملًا صحفيًا نابعًا من القلب والمحبة، وشعرتُ بصدق الحوار أمامي. ومع كونكِ
مسلمة، فقد قدّمتِ صورة راقية للمسلمين بلا أي تعصّب، مليئة بالمحبة والوعي، وهو ما أكّد لديّ ما أعرفه عنهم. كنتِ صحفية مستنيرة وواعدة بحق، وأنا ممتنّ جدًا، فهذه هي
المرة الأولى في مسيرتي الصحفية التي أشعر فيها بأن الحوار يُجرى بالقلب قبل الكلمة، وهذا أكثر ما أسعدني في هذا اللقاء.. ويشرّفني أن أكون بين أحضان سيناء الطاهرة، داخل أرض مصر



