هناك لحظاتٌ فى عمر الأمم تشتعلُ فيها الذاكرة فجأةً، كما لو أن شعبًا بأكمله يتأمل مرآته الأولى بعد قرون من الغبار. موكب المومياوات الملكية؛ كان واحدة من تلك اللحظات
الفارقة؛ الليلة التى وقف فيها العالم إجلالاً لتاريخنا العظيم، ليشهد مصرَ وهى تستعيد شأنها الرمزى، بلدًا لا يشير إلى التاريخ بإصبعه، بل هو التاريخ ذاته. واكتملت اللحظةُ
مع افتتاح المتحف المصرى الكبير، وكأن وعيًا جديدًا أخذ يتشكّل: احترامُ الأثر، اعتزازٌ بالهوية، وإدراك أن ما تحت أقدامنا ليس ترابًا، بل طبقات من الزمن وحكايا خلّدها أجدادٌ عظام.
المتحف الكبير ليس صرحًا يضمُّ شطرًا من تاريخ هذا الجد، بل كتابًا ضخمًا يحكى أقدم روايات الإنسان. ومع توافد عشرات الآلاف من الزوار خلال أيام، تأكد لنا أن الوعى بتاريخنا يتزايد فى متوالية هندسية متسارعة ومُبهرة. هذا الوعى كنزٌ آخر تضيفه مصرُ إلى كنوزها. لكن لوحة الوعى، على جمالها، لم تخلُ من صدوع صغيرة كشفت أن الطريق نحو استعادة كامل الوعى الحضارى، ما زال طويلاً.
رجل يدخل المتحف ليتلو القرآن الكريم ويلعن الفراعنة. وآخر يقول إن زيارة المتحف حرامٌ، بينما يوثّق فتواه فى فيديو على هاتفه الذى يلعن صنّاعه بوصفهم كفّارًا؛ وكأنه يعادى التاريخ والحداثة فى آن، فى فقرة تناقُض كوميدى
بائس. وفتاة تمد يدها لتضع أحمر الشفاة على شفاة تمثال، كما لو أن الحجر الخالد، مثلها، يحتاج لمسة تجميل ليصبح صالحًا للكاميرا! تلك التصرفات الهزلية ليست طرائفَ للتندّر؛ بل علاماتُ نقص خطير فى الوعى: الثقافى والدينى
والجمالى. علامات تشى بأن جزءًا من المجتمع لم يستوعب بعد معنى أن تكون ابنًا لحضارة بهذا العمق والعراقة والخلود والثراء. فالوعى ليس فورة فخر بصور المومياوات، بل فهمٌ حقيقى لطبيعة الأثر، ومكانته فى مدونة الرحلة الإنسانية.
ولم تكن هذه أول مواجهة بين الجهل والحضارة. فمنذ قرون غابرة ظهر رجل متطرف اسمه محمد صائم الدهر، مشى يجرّ معوله نحو تمثال أبو الهول، يروم هدمه، فلم يفلح إلا فى كسر جزء من الأنف. فغدا
الأنفُ المشطورُ رمزًا لحماقة بشر يواجهون التاريخ بمعول لا بفخر. وفى زمن الإخوان البائس، خرج دعيٌّ سلفى اسمه عبد المنعم الشحات مطالبًا بهدم الآثار المصرية، أو تغطيتها بالشمع،
انتظارًا لزمن التمكين الذى يسمح لهم بهدم إرثنا الحضارى كله! بكل مرارة يشهد التاريخُ أن الحضارة المصرية لم تُهاجم من خارجها، بقدر ما نُخرت من داخلها، على يد بعض أبنائها الذين لم يدركوا قيمتها.



