أثار مقطع فيديو متداول قيام نيافة الأنبا بولس أسقف إيبارشية أوتاوا ومونتريال وشرق كندا، برسامة مجموعة من الشماسات، مما أحدث موجة واسعة من الجدل بين المؤيدين والرافضين. وبالرغم من أن الرسامة التي تمت تندرج ضمن الدرجات الكنسية غير
الكهنوتية، فقد وجد نيافته نفسه تحت ضغط قوي من وسائل التواصل وبعض الأصوات الكنسية، الأمر الذي دفعه إلى تقديم اعتذار. ورغم ذلك، فإن الحدث يستدعي نقاشًا هادئًا يستند إلى الكتاب المقدس وتراث الكنيسة القبطية الأرثوذكسية وتاريخها الطويل.
في تقديري لا يوجد مانع كتابي أو تقليدي يمنع رسامة المرأة شماسة في الرتب الصغرى (الإبصالتس – المرنّمة، والأناغنسطس – القارئة)، هي ممارسة كنسية خدمية لا علاقة لها بدرجات الكهنوت. والكنيسة القبطية ملتزمة التزامًا راسخًا بعدم منح المرأة أي درجة كهنوتية. ولذلك فإن الجدل المثار حول هذه الرسامة يبدو غير مبرّر، ولا يعكس حقيقة التعليم الكنسي.
1. فيبي شماسة كنيسة كنخريا
يقدم الكتاب المقدس نموذجًا صريحًا لامرأة تحمل لقب “شماسة”:
“أُوصِي إِلَيْكُمْ بِأُخْتِنَا فِيبِي، الَّتِي هِيَ خَادِمَةٌ (Diakonos) لِكَنِيسَةِ كَنْخَرِيَا.”
(رومية 16: 1)
استخدم بولس الرسول لفظ ديّاكونوس ذاته المستخدم لوصف الخدمة الرسمية في الكنيسة، بما يدل على وجود شماسات منذ العصر الرسولي.
2. النساء ضمن منظومة الخدمة
يتحدث الرسول بولس عن صفات الخدام، ويضيف:
“كَذلِكَ النِّسَاءُ فَلْيَكُنَّ ذَوَاتِ وَقَارٍ…”
(1 تيموثاوس 3: 11)
ويفهم من السياق أن النساء كنّ جزءًا من خدمة الكنيسة المنظمة.
3. النساء خَدَمن المسيح والرسل
“وَكَانَ نِسَاءٌ كَثِيرَاتٌ يَخْدِمْنَهُ مِنْ أَمْوَالِهِنَّ.” (لوقا 8: 3)
وهذا هو الأصل الأول لخدمة المرأة في الكنيسة.
ثانيًا: شهادات آبائية تؤكد وجود خدمة الشماسات 1. القديس يوحنا ذهبي الفم يعلّق على رومية 16 قائلاً:
**“إن وجود فيبي دليل واضح على أن الكنيسة اعترفت بدور شماسة لخدمة النساء.”**¹
2. القديس أبيفانيوس أسقف سلاميس يقول:
**“الشماسات كنّ موجودات في الكنيسة لخدمة النساء، دون أن يمارسن أي عمل كهنوتي.”**²
3. القديس إكليمندس الروماني
يشير إلى نساء كنّ يقمن بخدمات منظمة في الكنيسة الأولى³.
4. القديس كيرلس الكبير يذكر في إحدى تعاليمه:
**“إن الخدمة المنظَّمة في الكنيسة لا تُقصر على الرجال وحدهم، بل تشمل النساء اللواتي قدمن عونًا كبيرًا في خدمة القديسات والضعفاء.”**⁴
وهو تأكيد على دور المرأة الخدمي.
5. القديس أثناسيوس الرسولي في رسائله الرعوية يشير إلى:
**“نساء مكرسات للخدمة، يساعدن في شؤون النساء وتعليمهن وحفظ انتظامهن في الكنيسة.”**⁵
6. القديس باسيليوس الكبير في رسائله القانونية يذكر:
**“الشماسات يقمن بخدمة ضرورية في شؤون النساء، ولا علاقة لهن بوظائف الكهنوت.”**⁶
وهو نص واضح يقرر وجودهن ويحدد نطاق خدمتهن.
ثالثًا: شهادات المجامع الكنسية والتقليد القبطي
1. القوانين الرسولية
تشير بوضوح إلى وجود شماسات لخدمة المعمودية والعناية بالنساء⁷.
2. مجمع نيقية (325م)
يذكر القانون 19 الشماسات كفئة قائمة بذاتها، ويؤكد أنهن خادمات غير كهنوتيات⁸.
3. المخطوطات القبطية القديمة
يحتفظ التراث القبطي بطقس رسامة الشماسات في درجات الخدمة، كما ورد في مخطوطات دير السريان وغيرها⁹.
4. المصادر التاريخية القبطية
ذكر ساويرس بن المقفع وجود الشماسات في القرون الأولى لخدمة النساء وتعليمهن¹⁰.
رابعًا: الفرق بين الخدمة النسائية والدرجات الكهنوتية تفرّق الكنيسة بوضوح بين:
أ – درجات الخدمة (Minor Orders)
كالمرتل والقارئ والشماسة الخدمية.
ب – درجات الكهنوت (Major Orders) شماس كامل – قس – قمص. وهي درجات لا تمنح للمرأة وفق العقيدة القبطية، وهو أمر غير قابل للنقاش.
خامسًا: يتساءل الكثيرين ما تفسير الجدل المثار مؤخرًا في هذا الشأن.
1. غياب الوعي بتاريخ الكنيسة.
عدم معرفة الكثيرين بتاريخ وجود الشماسات أدى إلى رفض مبني على انطباعات لا على معرفة.
2. الخلط بين “شماسة” و”شموسية كهنوتية” ، وهذا خلط خاطئ أدى إلى سوء فهم كبير.
3. تأثير السوشيال ميديا.
أصبحت وسائل التواصل الاجتماعي عامل ضغط حقيقي وجدل مفتعل، بعيد عن الواقع الكنسي، وسببًا في اتخاذ مواقف لم تفرضها العقيدة. ويجبر بعض القيادات على تقديم اعتذارات لإسكات الجدل، لا لأن الفعل خطأ.
4. استغلال الملف لأغراض شخصية
هناك من يصوّر نفسه “حارسًا للعقيدة” ليكتسب نفوذًا أو دعمًا، رغم أن الموضوع غير عقيدي أصلًا.
سادسًا: رؤية متزنة لمكانة المرأة في الخدمة الكنسية. تأكيدًا للحقيقة.
• وجود الشماسات في الكنيسة حقيقة تاريخية ليست بدعة.
• الخدمة النسائية ليست كهنوتًا ولا مقدمة لكهنوت المرأة. بل هي ممارسة أصيلة في الكنيسة الأولى مدعومة بالكتاب المقدس والآباء والطقس القبطي.
• الكنيسة القبطية لم تتخلّ عن تراثها ولم تضف جديدًا إليه، بل مارست ما مارسَته عبر القرون.
• الجدل الأخير لا يعكس طبيعة المسألة، بل يُعبّر عن ضغط من البعض أكثر منه نقاشًا لاهوتيًا.
والكنيسة القبطية ليست في حاجة لمن يزايد على عقيدتها أو يقدّم نفسه حاميًا للإيمان.
وختاماً : نري إن رسامة الشماسات في الدرجات الصغرى ممارسة صحيحة ومتوافقة مع الكتاب المقدس والتقليد الآبائي والتراث القبطي.
والجدل الذي أثير حولها لا يستند إلى أساس لاهوتي أو تاريخي، بل إلى سوء فهم وضغط مجتمعي.
إن الكنيسة القبطية، بثبات عقيدتها وعمق تقليدها، الممتد عبر العصور قادرة على ممارسة طقوسها دون تأثر بالمزايدات أو الضغوط. من يدّعون الدفاع عن الإيمان بغير علم.



