من يتابع النقاش الحاد لقضايانا يجد أنها كلها غارقة فى الماضى، كالساقية تأخذ من مياه الماضى لتصب فى الحاضر، وتستعيد دورة الماضى ثانية، وهكذا، اجترار تلو اجترار، ومضغ فى الماضى

يلوك فى قضايا مرت عليها سنوات وأحياناً قرون، نناقشها بنفس درجة السخونة التى كنا نناقشها وقت ميلادها. على سبيل المثال توفى الرئيس عبدالناصر منذ أكثر من نصف قرن، والآن يخرج
السيد عمرو موسى للحديث عنه، فتحدث معركة بينه وبين الناصريين، وتهرول المواقع وتزدحم الأعمدة الصحفية وبرامج التوك شو.. إلخ متحفزة لمناقشة هذه المعركة المفتعلة التى مرت عليها
عشرات السنوات حدثت فيها أحداث جسام نكتوى بنارها حتى الآن، ناصريون ضد ساداتيين، تراشق هنا ومعارك هناك، أين الثمار؟ لا توجد ثمار ناضجة لمثل هذه المعارك العقيمة، نحن نضع عصا
الماضى فى تروس عجلة المستقبل، نحن نعيش حالة اجترار مزمن للماضى الذى يحكم حياتنا، لا مكان لمناقشة المستقبل فى ملفات مثقفينا، جفاف وأنيميا ثقافية فى النقاش والعرض وتأمل مشكلاتنا الحقيقية.
ما زلنا نعيش معارك من قبيل أم كلثوم أفضل أم عبدالوهاب، عبدالحليم أم فريد الأطرش، السنباطى أم بليغ؟ الأجيال تختلف، والفن يفرز مدارس جديدة، وما زلنا واقفين على عتبة هذا الماضى، تذوقهم نعم،
استمتع بهم نعم، لكن لا تضع العصا فى تروس العجلة لتتوقف وترفض التحديث والتجديد، حالة الاجترار المستمر لمشكلات ومناقشات عفا عليها الزمن، وتحنطت، ودفنها صار فريضة لكى نناقش المستقبل
ومشكلاته الحقيقية، قضية الذكاء الاصطناعى وفلترة إجاباته وحلوله، الروبوت الذى سيقتحم سوق العمل ويخلق بطالة جديدة تحتاج إلى تغيير منهج تفكير، الهندسة الوراثية وكيف ستغير مستقبل الطب
والصيدلة، رفوف الأجزاخانات ستختفى ويصبح القص واللصق بتقنية كريسبر هو الحل، ترمى الجين المعطوب، وتلصق الجين السليم، كيف سنواجه زيادة متوسط العمر؟، هل هناك مواكبة لأمراض الشيخوخة واهتمام ببيوت المسنين؟
السياسيون فى العالم صاروا هم خبراء الاقتصاد، سيختفى زمن الساسة أصحاب الياقات البيضاء من تخصصات الأدب والهندسة والعلوم.. إلخ، الاقتصاد هو المهيمن والمسيطر والمقدس الجديد، ليس
من الطبيعى أن تظل شعوبنا حتى تلك اللحظة تتحدث وتتصارع وتتقاتل بفريقى السنة والشيعة، وتستدعى من الماضى موقعة صفين والجمل لكن بأسماء وألقاب وأزياء جديدة!! ما زلنا نعيش فى منطقتنا
العربية رفض الآخر الأيزيدى والبهائى والدرزى.. إلخ، كأننا تجمَّدنا تماثيل ثلج فى جليد الماضى، العالم يناقش التغير فى المناخ ومشكلات ما بعد الحداثة وإمكانية السكن فى كواكب أخرى
وزرع شرائح فى الدماغ، ونحن ما زلنا نناقش شكل الأزياء وتحريم البنطلون والسماح بنحت التماثيل وشكل زى السباحة وطول شورت لاعب كرة القدم وإمكانية زرع الكبد الحلال والقرنية
المتوضئة والكلى الورعة، ما زلنا نلوك ونثرثر فى قضايا تجاوزها الزمن وصارت من الفولكلور، اختفى المحراث ولم تختف عقلية المحراث، ما زال لدينا من يتبرك بمياه الصرف التى بجانب
المقام!، زيت القنديل ما زال يعشش فى الأدمغة برغم وجود الليزك، والأعمال السفلية ما زالت تُستخدم لتخطيط العالم من حولنا فى زمن الهبوط على المريخ، أرجوكم انزعوا عصا الماضى من تروس عجلة المستقبل.