قال البابا تواضروس الثانى، بابا الإسكندرية، بطريرك الكرازة المرقسية، إن التطرف لم يعد مقتصرًا على سوء فهم الدين، فنحن نعيش فى زمن معقد، العلمانية تتسع، وتغريها الأيديولوجيات المتصلبة أو الانعزال،، ونشهد أشكالا جديدة من التطرف العلمانى الذى يرفض الإيمان، ويخنق الحوار.

وخلال زيارته لكلية أوروبا فى ناتولين بالعاصمة البولندية وارسو، التى تعد من أعرق المؤسسات الأكاديمية المتخصصة فى العلاقات الدولية والدراسات الأوروبية، دون كلمة فى سجل كبار الزوار ثم عقد لقاءً مع نائب رئيس الكلية وأعضاء هيئة التدريس، قبل أن يلقى محاضرته أمام الطلاب والأساتذة والتى جاءت بعنوان فى العالم ولكن ليس من العالم: رسالة الكنيسة والخير العام فى العصر الحديث.
وألقى البابا محاضرته، ودعا فى بدايتها، الحضور، إلى لحظات صمت تقديرًا لروح البابا الراحل فرنسيس، بابا الفاتيكان، مقابل ما قدمه من دور متميز فى خدمة الإنسانية.
وقدم البابا الشكر لإدارة الكلية على دعوتها، مشيرًا إلى أن الكنيسة القبطية الأرثوذكسية، المتجذرة فى أرض مصر، تحمل تحياتها الحارة لكل الشعوب ذات النية الحسنة، وقال إن مصر هى الأرض التى احتضنت العائلة المقدسة حين لجأت إليها من العنف، ما جعل منها أرضًا للراحة، والسكينة، والحضور الإلهى الصامت، وهو إرث متجذر فى الهوية الروحية للكنيسة القبطية.
وعن موضوع المحاضرة فى العالم، لا من العالم، أوضح أنها دعوة حقيقية، مفادها: كيف يمكن للكنيسة وللمؤمن أن يعيش فى قلب الواقع الاجتماعى، مندمجًا فيه، مدللاً على ذلك بالكنيسة القبطية الأرثوذكسية التى تعيش متجذرة فى أرض مصر، وفى
نفس الوقت فهى ممتدة إلى عوالم كثيرة؛ مندمجة فى المجتمعّ وهذه ليست مجرد مسألة روحية بل لها تبعات اجتماعية وسياسية لافتًا إلى أن الكنيسة تساهم فى بناء المجتمع، وتقديم العدالة والشفاء، دون أن تصبح أداة لأيديولوجية أو طرفًا سياسيًا.
واستشهد البابا بكلمات السيد المسيح لَيْسُوا مِنَ الْعَالَمِ كَمَا أَنِّى أَنَا لَسْتُ مِنَ الْعَالَمِ. قَدِّسْهُمْ فِى حَقِّكَ. كَلاَمُكَ هُوَ حَقُّ. مؤكدًا أن الكنيسة القبطية منذ القرون الأولى فهمت رسالتها كشاهد لا كحاكم، وأن رسالتها عميقة فى المحبة والحق والرجاء.
وأضاف: نحن لا ننافس، بل نُكمل. لا نفرض، بل نقترح. لا ننعزل، بل ندمج. الكنيسة لا تسعى لتكون دولة داخل الدولة، بل تتحمل مسؤوليتها نحو مجتمعها كبوصلة أخلاقية، ملاذٍ آمنٍ، ووعاءٍ للنور.
ولفت البابا إلى فكرة الرهبنة التى انطلقت من الكنيسة القبطية: الرهبنة وُلدت فى مصر، فى صحارى وادى النيل، على يد القديس أنطونيوس الكبير، أبونا الروحى وهو شخصية لها ثقلها فى جميع التقاليد، فكل راهب وراهبة فى الشرق والغرب، كاثوليكى أو أرثوذكسى، مدين لهذا الناسك المصري.
واستعرض البابا مفهوم الخير العام فى الفكر المسيحى، مشيرًا إلى ما قدمته الكنيسة عبر العصور من مدارس ومستشفيات ودور أيتام، وخدمة المسجونين واللاجئين، والتحدث بالحق فى أزمنة الخطر،
وتابع: نحن نعيش فى زمن معقد، العلمانية تتسع، وتغريها الأيديولوجيات المتصلبة أو الانعزال، ولم يعد التطرف مقتصرًا على سوء فهم الدين، بل نشهد أيضًا أشكالاً جديدة من التطرف العلمانى الذى
يرفض الإيمان، ويخنق الحوار، ويضيق على الروح الإنسانية، مشددًا على أن الكنيسة يجب أن ترفض كليهما قائلاً: لا يمكننا أن نتخلى عن المجتمع، ولا أن نسمح بأن نُستعمل كأداة فى الأجندات السياسية.
وقال البابا: عندما تتحدث الكنيسة عن قضايا مثل الهجرة أو البيئة أو حقوق الإنسان، فهى تفعل ذلك من منطلق إيمانها بأن الإنسان مخلوق على صورة الله، وله الحق فى السلام والكرامة والعدالة، وربما لا توجد
كنيسة تفهم هذا التوازن الدقيق مثل كنيسة مصر، على مدى 2000 عام، كنا جزءًا لا يتجزأ من الوطن، وفى الوقت ذاته، ظل الأقباط على إيمانهم رغم تعاقب الإمبراطوريات، وكان هدفهم دومًا أن يخدموا ويحبوا ويصمدوا.
وروى البابا لحظة شخصية مؤثرة بعد سقوط نظام حكم متشدد عام 2013، حين تم الاعتداء على الكنائس والمؤسسات المسيحية، فقال: شعرت آنذاك بمسؤولية أخلاقية لأتكلم، لأدعو للهدوء، ولأعيد
التأكيد على الحياة المشتركة، وقلت كلمات أكررها لكم اليوم، لا كبيان يأس، بل إعلان رجاء: (وطن بلا كنائس أفضل من كنائس بلا وطن)، مضيفا: دور الكنيسة ليس حماية الحجر، بل حفظ الروح
الجماعية،ويمكننا دائمًا إعادة البناء، لكننا لا نترك من دُعينا للعيش معهم وخدمتهم ولا تخافوا هذا الطريق. شاركوا فى مجتمعاتكم. أحبوا أوطانكم. دافعوا عن الحق. لكن احملوا معكم
تواضع الخدمة، لا كبرياء السلطة، ولنسِر جميعًا معًا، كنيسة ومجتمع، مؤمنين وباحثين، رجاءً ومجروحين، نحو عالم تُصان فيه الكرامة، ويُسعى فيه إلى السلام، ويُكرم فيه البعد الإلهى فى كل إنسان.
وفى كلمتها التى ألقتها ترحيبًا بالبابا عبرت نائب رئيس الكلية إيفا أوشنيتسكا تاميتسكا، عن سعادتها الكبيرة باستضافة البابا تواضروس الثانى والوفد المرافق له، واعتبرت أن هذه الزيارة تمثل لحظة تاريخية مميزة فى سجل الكلية.
وأوضحت أن كلية أوروبا فى ناتولين، التى تأسست فى بولندا عام 1992، ليست مجرد مؤسسة أكاديمية، بل منبر حى للحوار البناء بين الثقافات والأديان والحضارات، مشيرة إلى أنها تسعى إلى إعداد جيل من القادة المؤمنين بقيم السلام، والانفتاح، والتعددية، والتفاهم المشترك التى تعد أساس بناء مستقبل مشترك يسوده السلام والتعاون.
وأكدت أن الكلية كرست جهودها منذ نشأتها لتعزيز الوحدة الأوروبية من خلال التعليم والانفتاح على تجارب الشعوب الأخرى، مؤكدة أنها تستقبل سنويًا طلابًا من أكثر من 50 دولة، ما يجعلها منصة عالمية للحوار الثقافى والإنسانى، ويثرى التجربة الأكاديمية ويعزز فهم الآخر وقبوله.
وتحدثت عن مكانة مصر المميزة فى وجدان البولنديين، لافتة إلى أن التاريخ المصرى القديم يُدرس فى المناهج التعليمية البولندية منذ سنوات طويلة، مما يعبر عن احترام خاص للحضارة المصرية العريقة، ويجسد عمق الروابط الثقافية بين البلدين، معربة عن تقديرها لدعوة البابا تواضروس الثانى لها لزيارة مصر.
يذكر أن كلية أوروبا بناتولين، استضافت على مدار تاريخها نخبة من القادة وصناع القرار العالميين، من بينهم: مادلين أولبرايت وزيرة الخارجية الأمريكية السابقة، وفرانسوا هولاند رئيس فرنسا السابق، وأندجيه دودا رئيس
بولندا الحالى، إلى جانب عدد من رؤساء الدول والحكومات والبرلمانات الأوروبية، مثل: شارل ميشيل، كاترين آشتون، هيرمان فان رومبوى، وميشيل بارنييه، بالإضافة إلى الكاردينال بييرباتيستا بيتسابالا بطريرك القدس للاتين.
وعقب المحاضرة نظمت إدارة الكلية جولة للبابا داخل قصر ناتولين، حيث اصطحبه والوفد المرافق الدكتور أنيس عيسى، مدير برنامج الحوار الدينى بالكلية، فى جولة داخل القصر التاريخى الذى يحتضن مقر الكلية، للتعرف على تاريخه العريق ومكانته المعمارية والثقافية.
فى سياق متصل، أقام أحمد الأنصارى، سفير مصر فى بولندا، مساء أمس الأول، حفل عشاء رسميًا على شرف البابا تواضروس الثانى، بمناسبة زيارته الرعوية التاريخية لبولندا، التى تعد المحطة الأولى فى جولته إلى دول وسط أوروبا، ضمن أجندة الزيارات الرعوية له لعام 2025.
حضر الحفل القاصد الرسولى أنطونيو غويدو فيليبازى سفير الڤاتيكان فى بولندا، وعدد من السفراء من مختلف دول العالم، وأعضاء السلك الدبلوماسى، بالإضافة إلى ممثلين عن السلطات البولندية، وبعض الضيوف الرسميين.
واستهل السفير الأنصارى كلمته بتقديم خالص التعازى إلى المجتمع الكاثوليكى فى بولندا والعالم، لوفاة البابا فرنسيس، واصفًا إياه بأنه كان صوتًا للسلام والمحبة والرحمة، متمنيًا أن يرقد فى سلام.
ورحب السفير بالبابا تواضروس الثانى، معتبرًا أن زيارته تتجاوز كونها مجرد زيارة رعوية، بل تمثل انعكاسًا للعلاقات الوثيقة والتاريخية بين مصر وبولندا؛ وتوجه بالشكر العميق للسلطات البولندية على دعمها الكبير وحسن استقبالها وتنظيمها لزيارة البابا، معبرًا عن بالغ الامتنان لهذه الروح الطيبة.
وأشار السفير إلى مكانة مصر الفريدة بوصفها مهد الحضارات وأرض الرسل، مذكّرًا بأن أرضها كانت ملجأ للعائلة المقدسة، ومؤكدًا أن مصر لطالما كانت نموذجًا للتعايش السلمى بين الأديان على مدار قرون، بينما تظل الكنيسة القبطية الأرثوذكسية، إحدى أقدم الكنائس فى العالم، شاهدة حية على صلابة الإيمان المصرى وتجذره.
وأوضح أن بولندا، بدورها، تبرز كبلد يحترم حرية الأديان والمعتقدات، مما يعزز القواسم المشتركة التى تجمع بين الشعبين المصرى والبولندى فى الإيمان بقوة الإنسان وقدرته على البناء والسلام.
ولفت السفير إلى أن زيارة البابا تأتى فى وقت بالغ الأهمية، وسط عالم يعانى من تحديات غير مسبوقة تتمثل فى الصراعات المسلحة، ونزاعات الحدود، وأزمات ندرة المياه ونقص الغذاء، إلى جانب تصاعد خطاب الكراهية والتفرقة، مشددا على أن الحاجة أصبحت ملحة لوجود أصوات قادرة على الإلهام، وملء الهوة بين الشعوب، ونشر ثقافة التسامح والتعايش.
وقال السفير: فى عالم تتزايد فيه نداءات التفرقة والكراهية، من واجبنا أن نتمسك بالسلام، وأن نؤمن بأن العالم يتسع للجميع، ليس فقط بما يجمعنا بل وأيضًا بما نختلف فيه ويجب أن يكون
احترام الكرامة الإنسانية هو حجر الزاوية فى تعاملاتنا، وأن نظل ساعين وراء السلام كغاية مقدسة لجميع الشعوب، ونحن نحتفى ليس فقط بزيارة رعوية، بل بمهمة روحية سامية، تحمل رسالة
إيمان ومحبة، ودعوة صادقة إلى حوار يوحد ولا يفرق، ويرسخ احترام الكرامة الإنسانية، نرحب بقداستكم فى بولندا كرسول للسلام، وراعٍ للحوار، وقائد للتسامح، وبطريرك للقبول والاحتواء.
ومن جانبه، عبر البابا عن خالص شكره وتقديره، على حفاوة الاستقبال، مشيدًا بالجهود الكبيرة التى بذلت لتنظيم هذه الزيارة، وقدم الشكر لكل السفراء والدبلوماسيين الحاضرين، وممثلى السلطات البولندية، وكل الحضور معبرًا عن
سعادته بلقاء هذا الجمع الذى يجسد قيم الاحترام المتبادل والصداقة بين الشعوب، مؤكدًا أن هذه اللحظات الودية تعكس روح المحبة التى ينبغى أن تسود العالم، مشيرًا إلى أن حضور هذا اللقاء هو تعبير صادق عن قيم التلاقى والتعاون الإنسانى.
وسلط البابا الضوء على المكانة الفريدة لمصر جغرافيًّا وتاريخيًّا، مشيرًا إلى أن مصر وطن تباركه العصور، وتُخلده الحضارات، متحدثًا عن عظمة الحضارة الفرعونية، بوصفها واحدة من أقدم وأعرق الحضارات التى عرفها التاريخ الإنسانى.
وأشار إلى أن الموقع الاستراتيجى لمصر فى قلب العالم جعلها ملتقى للحضارات عبر التاريخ وجسرًا حيويًا يصل بين الشرق والغرب والشمال والجنوب، مما منحها دورًا محوريًا فى صياغة مسيرة الإنسانية، موضحًا أن مصر كانت من أوائل الدول التى عرفت الزراعة وابتكرت نظم الرى منذ آلاف السنين، مما جعل أرضها منبعًا للخير والبركة وعلامة فارقة فى نشأة الحضارات.
وأشار البابا إلى البعد الروحى لمصر، مؤكدًا أن ذكرها جاء مباركًا فى نصوص الكتاب المقدس، حيث احتضنت العائلة المقدسة، فصارت أرضها رمزًا للحماية والرجاء، ومهبطًا للبركة الإلهية.
وشدد على أن عظمة مصر لا تُختزل فى ماضيها المجيد فحسب، بل تتجلى فى قدرتها الدائمة على تجاوز الأزمات، وفى حفاظها على وحدة نسيجها الوطنى، وفى دورها كشاهد حى على التنوع الثقافى والدينى.
وقال البابا: مصر دولة كبيرة وستبقى دائمًا بقوة شعبها، وعراقة تاريخها، وعظمة نهرها، وإيمانها العميق، منارة للعالم، وأرضًا تنبع منها رسائل السلام، والمحبة، والحياة.
ووجه البابا دعوة مفتوحة إلى جميع الحاضرين لزيارة مصر، مشيرًا إلى أن من يزور مصر سيشاهد عن قرب عظمة هذا البلد الكبير وتاريخه الحى وحضارته الممتدة، وأكد أن مصر اليوم دولة حية متجددة، تواصل دورها الريادى إقليميًا ودوليًا، محافظة على
رسالتها التاريخية كأرض للسلام والمحبة ووزع هدايا تذكارية على جميع السفراء والدبلوماسيين الحاضرين من مختلف الدول، وحملت هذه الهدايا رمزية دخول العائلة المقدسة إلى أرض مصر، فى إشارة إلى قدسية المكان ودوره التاريخى كمأوى ونبع للبركة عبر العصور.