تحدثت مقالات سابقة عن الرهبنة التي نشأت على أرض مِصر أواخر القرن الثالث الميلادى، معتمدة على ثلاثة نُذور أساسية: حياة التبتل، والفقر الاختياري، والطاعة الكاملة؛ ثم من مِصر انطلقت ممتدة إلى العالم، وازدهرت في القرن الرابع، بعد عصور من الاستشهاد الدامي، فأمست هي بسموها وازدرائها بمغريات العالم استشهادًا أبيض (دون سفك دم).

ثم تتابع حديث الرهبنة عن حياة مؤسسها القديس أنبا أنطونيوس الكبير أب الرهبان، ولقائه القديس أنبا بولا أول السواح، الزاهد الذى ترك العالم ليحيا فى وَحدة كاملة قرابة 80 عامًا. ثم ساقتنا الرهبنة بحديثها المشوِّق إلى واضع نظام حياة الشركة الديرية فيها: القديس أنبا باخوميوس، الذى يُعد أول من شيد ديرًا يضم جماعة رهبانية تعيش حياة عبادة مشتركة، حتى استحق أن يلقَّب بـأب الشركة.
واليوم، تجذبنا دفة الحديث إلى رئيس المتوحدين فى الرهبنة: القديس أنبا شنودة (333-451م)، الذى أسس دير الأبيض بسوهاج، على قوانين ونظم ربطت بين نظامى الرهبنة الوَحدة والشركة، حتى بلغ عدد رهبانه 2200
راهب! كذلك اهتم بالفتيات فأنشأ لهن ديرًا ضم 1800 راهبة!!. وُلد شنودة من أبوين تقيين اهتما بتربيته على المبادئ المسيحية المثلى. وإذ كان والده يملك حقلاً يفلِّحه بمساعدة بعض الفلاحين، وقطيعًا من
الغنم؛ أراد تدريب ابنه شنودة على العمل منذ حداثته، فأرسله ليرعى الغنم وهو فى العاشرة من عمره. وكان الصبى شنودة يلازم الرعاة طوال النهار صائمًا، مقدمًا طعامه إليهم!. كما كان يكثر من الصلوات أوقاتًا طويلة.
وعلِم والده بأمره فاستصحبه إلى خاله الراهب أنبا بيجول. وكان عند وصولهما إلى الدير، أن طلب والد شنودة إلى أنبا بيجول أن يبارك ابنه، لٰكنه فوجئ به يمسك بيد شنودة ويضعها على رأسه، قائلاً: أنا من يجب أن ينال البركة
من هذا الصبى، لأنه إناء مختار للسيد المسيح، وسيخدمه بأمانة كل أيام حياته؛ فلما سمِع الوالد كلمات أنبا بيجول اكتنفته دهشة ممزوجة بفرح غامر، فاستودعه ابنه، ليعيش منذ تلك اللحظة بين يديه بديره، فى تلمذة كاملة عليه.
وأخذ شنودة يعيش تلك الحياة الملائكية حتى نما فى حياة الفضيلة جدًّا. وامتازت حياة شنودة بالصوم والصلاة والصبر والتواضع، إلى جانب الواجبات الرهبانية، وكان خاله يتابع أموره ونموه باهتمام شديد، حتى سمع فى رؤيا ملاك الرب
يقول له: ألبِس الراهب الشاب شنودة الإسكيم المقدس (الملابس الرهبانية)؛ فبكر فى الصباح وصلى صلاة الإسكيم المقدس وألبسه إياه. وهٰكذا عاش شنودة مجاهدًا فى الصلوات والأصوام وقراءة الكتاب المقدس فى الدير الأحمر، حتى سمِع
الرهبان الشيوخ صوتًا يقول: لقد أصبح شنودة الأرشيمَنِدريت (رئيس المتوحدين)؛ وسرعان ما جذبت حياته المقدسة الممتلئة بالفضائل عددًا كبيرًا من شباب راغبين فى ترك العالم والتلمذة على يديه. ولما تنيح أنبا بيجول أقيم شنودة خلفًا له.
وفى تلك الأثناء، اتبع أنبا شنودة نظام الرهبنة السائد آنذاك مع بعض الاختلافات فى نظام طالبى الرهبنة، ونظام الإدارة، وقانون العبادة، والاهتمام بالتعليم والعمل اليدوى، ونظام العزلة، جامعًا
أنبا بين سمات الرهبنة الأنطونية (الوَحدة) والرهبنة الباخومية (الشركة). أما نظام الشركة الذى أقامه القديس أنبا شنودة، وقد أنشأ أنبا شنودة مدرستين فى الدير الأبيض، وحث الرهبان على التعلم،
واهتم بتأسيس مدارس فى القرى المجاورة. وقد انعقدت ثلاثة مجامع فى أثناء حياة القديس أنبا شنودة: مجمع أفسس المسكونى الثالث الذى فيه صحب البابا كيرلس عمود الدين، ومجمع أفسس الثانى، ومجمع خلقيدونية.
كذلك اهتم بالشعب وقت عبودية الحكام البيزنطيين الذين كانوا يسلبون حقوق الشعب الكادح، وعمِل على أن يكرَّس لتحريرهم؛ فكان يعلِّم الشعب، ويُطعم الجائع، ويكسو العريان، ويداوى المريض، ويُؤوى الغريب. كذلك كان يذهب بنفسه مع المظلوم من المِصريين إلى ساحة القضاء ليترافع عنه شخصيًّا، وإن لم ينجح فى تحقيق العدل لأحد المظلومين كان يرفع دعواه إلى الإمبراطور حتى ينال المظلوم حقه.
ومع كل هذا، لم ينعزل أنبا شنودة وأبناؤه من الرهبان عن المجتمع المِصرى، فعندما أغار الغزاة على صَعيد مِصر وسبَوا آلافًا من الشعب، سعى هو إلى الغزاة والتقاهم وأقنعهم أن
يأخذوا الغنائم ويتركوا النفوس، ثم فتح ديره لهم مدة ثلاثة شهور، وعمِل الرهبان على خدمتهم وتضميد جراحاتهم، فى محبة فائقة. أيضًا اهتم أنبا شنودة بالراهبات فبعث إليهن برسائل
روحية لتعليمهن وإرشادهن وتثبيتهن على الإيمان القويم. وظل أنبا شنودة يمارس حياة العزلة حتى استحق أن يطلق عليه رئيس المتوحدين، بعد أن عاش حتى سن الثامنة عشرة بعد المئة، ثم تنيح بسلام.
و... وما زال الحديث فى مصر الحلوة لا ينتهى!.
* الأسقف العام رئيس المركز الثقافى القبطى الأرثوذكسى