تحدثت المقالة السابقة عن أب الرهبان، كوكب البرية، القديس أنبا أنطونيوس الكبير، بما سجله فى سيرته القديس البابا أثناسيوس الرسولى (العشرون فى بطاركة الإسكندرية)، هذا الذى ترك العالم بحثًا عن الحياة الحقيقية فى خُلوة وعشرة مع الله، فجذب عطرها آلافًا إلى حياة البتولية والرهبنة فى مصر ومنها إلى العالم.

ويُعد القديس أنبا أنطونيوس أبا الرهبنة ومؤسسها، حتى إن المؤرخ المقريزى، أثناء حديثه عن أديرة مصر، قال فيه: أنطونيوس، ويقال أنطونة، وكان من أهل قمن، فلما انقضت أيام
الملك دقلديانوس، وفاتته الشَّهادة، أحب أن يتعوض عنها بعبادة تُوصل ثوابها (تُوصله إلى ثواب الشَّهادة) أو قريبًا من ذلك (الثواب)، فترهب. وكان أول من أحدث الرهبانية
للنصارى عوضًا عن الشَّهادة، وواصل أربعين يومًا ليلاً ونهارًا، طاويًا (الأيام) لا يتناول (فيها) طعامًا ولا شرابًا مع قيام (صلاة) الليل، وكان هكذا يفعل فى الصيام الكبير كل سنة.
ثم نبهت السماء قلب أنبا أنطونيوس إلى قديس قد سبقه فى حياة التوحد والخلوة التامة بالله، هو القديس أنبا بولا الملقب بأول السواح، فتوجه إلى زيارته فى مغارته بالبرية الجوانية، وعرَف منه
دافعه إلى حياة الوحدة والانفراد بالله، هذا الذى كتب عنه المقريزى: وأنبا بولا، هذا كان من أهل الإسكندرية، فلما مات أبوه ترك له ولأخيه مالاً جمًّا، فخاصمه أخوه فى ذلك وخرج مغاضبًا له، فرأى
ميتًا (ثريًّا) يُقبر (محمولاً إلى قبره)، فاعتبر به (اتخذ من موته عِبرةً له)؛ ومرّ على وجهه سائحًا حتى نزل على هذه العين (عين ماء)، فأقام هناك، والله- تعالى- يرزقه، فمرّ به أنطونيوس وصحِبه حتى مات....
أما عن حياة أنبا بولا، الذى يُحتفل بعيد نياحته فى الثانى من شهر أمشير (الموافق 9/2)، وبحسب مخطوطة دير البرموس، فإنه وُلد من عائلة ثرية بـالإسكندرية (وفى بعض المصادر طيبة) سنة 228م،
وله أخ أكبر اسمه بطرس؛ وبعد وفاة والديهما، ترك لهما ثروة طائلة، لكن بطرس أراد النصيب الأكبر، فشب جدال شديد بين الأخوين، حتى إن بولا أراد التوجه إلى القضاء!! وفى أثناء سير الشقيقين
إلى القضاء، رأى بولا جنازة أحد أثرياء المدينة، فتوقف أمامها مأخوذًا بإجابة السؤال: هل رافق هذا الميت أىٌّ من ممتلكاته؟! وسرعان ما تنبه قلبه، وتصاغرت فى عينيه كل أمور الحياة،
متفكرًا فى الميراث الأبديّ، مخاطبًا نفسه: ما لى- إذًا- وما لهذا العالم الفانى الذى سأتركه وأنا عُريان؟!؛ ثم تحول إلى أخيه، وقال: ارجِع بنا، يا أخى، فلست مطالبًا لك بشىء!!؛ وفى أثناء
عودتهما، غافل بولا أخاه وخرج مسرعًا من المدينة!!، وهكذا، بدل التوجه إلى القضاء، ترك المدينة ودخل فى قبر مهجور حيث أمضى ثلاثة أيام مصليًا إلى الله أن يرشده فى الطريق التى يسلك وكيف يُرضيه.
واستجاب الله صلاة الشاب بولا، فقصد البرية الشرقية الداخلية حيث مكث قرابة 80 عامًا لا يرى إنسانًا. وكانت ثياب أنبا بولا فى وحدته ثوبًا من الليف، وكان الله يعوله إذ يُرسل إليه غرابًا بنصف خبزة يوميًّا، ويشرب هو من عين ماء جواره. وهكذا عاش أنبا بولا حياة صلاة كاملة ووحدة دائمة عشرات من السنوات، لا يهتم بشيء إلا بالصلاة وبتسبيح الله.
وأراد الله أن يظهر بر أنبا بولا وقداسته، فحرك إليه قلب القديس أنبا أنطونيوس، بعد أن أرسل إليه ملاكًا ينبهه: فى البرية الداخلية إنسان لا يستحق العالم وطأة قدميه، وبصلواته يُنزل الرب المطر والندى على الأرض ويأتى بالنيل فى حينه!!.
وأسرع أنبا أنطونيوس، غير عابئ بمشقة سير فى البرية، وأشواقه تأخذه لرؤية ذلك النورانى، حتى أرشده الله إلى مغارته، ودخلها، وكان اللقاء. ثم تشارك القديسان العظيمان الصلاة والتسبيح، وأخذا يتحادثان بعظائم
الله، متأملين فى أعماله العجيبة. وبعد أن نال الحديث الروحى منهما مبلغًا، إذا غراب يأتيهما فى المساء وبمنقاره خبزة كاملة!!، فقال أنبا بولا لزائره: الآن علمتُ أنك من عبيد الله؛ إن لى إلى اليوم ثمانين سنة،
والرب يرسل إليَّ نصف خبزة كل يوم، أما اليوم فقد أرسل إليك الرب طعامك!. ثم طلب أنبا بولا من أنبا أنطونيوس أن يسرع بالذهاب لإحضار الحُلة الكهنوتية التى للبابا أثناسيوس الرسوليّ، من أجل تكفين جسده فيها لأنه
سيترك العالم قريبًا، فسارع أنبا أنطونيوس بإحضارها. وفيما كان أنبا أنطونيوس عائدًا إلى أنبا بولا، علم بانتقاله؛ ثم وصل مغارته ووجده قد تنيح بالفعل، وجسده ما زال جاثيًا على ركبتيه فى وضع الصلاة، فكفنه بالحُلة التى أحضرها.
وبينما كان أنبا أنطونيوس يفكر فى كيفية دفن أنبا بولا، إذا أسدان يتجهان إليه، ويشيران برأسيهما، فعلم أنهما مرسلان من الله، فحدد لهما مكان القبر، فحفراه له، ودفنه. وعاد القديس أنبا أنطونيوس بثوب الليف الذى للقديس أنبا بولا إلى البابا أثناسيوس الرسولى، ففرِح به واعتاد على التبرك بارتدائه تحت ملابسه الكهنوتية فى أعياد الميلاد والغطاس والقيامة.
وللحديث بقية وما زال فى مصر الحلوة لا ينتهى!.
* الأسقف العام رئيس المركز الثقافى القبطى الأرثوذكسى