القائمة الأقباط اليوم أبحث
أهم الأخبار

وأخيرًا... «الملحدُ» يواجه الجمهور .. بقلم فاطمة ناعوت

وقف رجلٌ ورفع إصبعه نحو السماء، وأشار إلى القمر، ثم سأل الناسَ المتحلّقين حوله: ماذا ترون؟، نظر الجميعُ إلى إصبع الرجل وقالوا: نرى إصبعك!.

وأخيرًا... «الملحدُ» يواجه الجمهور .. بقلم فاطمة ناعوت

الطُرفة من الأدبيات الصينية. وهكذا نحن، كثيرًا ما نقعُ فى هذا الفخّ الصغير. ننظرُ إلى أداة الإشارة، ونغفلُ المُشارَ إليه. وهذا بالضبط ما حدث مع فيلم الملحد، تأليف المفكر الإصلاحى إبراهيم عيسى. حاول البعضُ

قتل الفيلم، استباقًا، قبل أن يشاهده أحدٌ، وقبل أن تُفكِّك رموزَه وتُستخلص رسالتُه؛ لأنهم نظروا إلى: الإصبع/ أداة الإشارة/ عنوان الفيلم، وغفلوا، أو تغافلوا عمدًا، عن: القمر/ المُشار إليه/ مضمون الفيلم ورسالته.

لو كان الاسم وحده معيار الإدانة، لما نجا نصف التراث الإنسانى، ولما ظهر للنور عشرات الأفلام تحمل كلمة الشيطان فى عناوينها. ونجح المُخرصون، المُخرسون، المُختصرون حينًا من الدهر، ومُنع الفيلم سنواتٍ،

بُحَّتْ خلالها أصواتُنا نقول ونكتب بديهة البداهات: الفنُّ، يا جماعة الخير، لا يُحاكَم إلا فى محكمة الفن! والكتابُ يا سادة لا يقرأ من عنوانه، بل بعد الانتهاء من آخر كلمة فى آخر صفحاته. لكن أحدًا لا يسمع.

إلى أن حسم القضاءُ المصرى المثقف الجدل، وأطلق سراح الفيلم أخيرًا بحُكمٍ واعٍ باتٍّ، رفض دعاوى المطالبة بسحب ترخيص الفيلم، مؤكدًا فى حيثياته أن العمل لا يتضمن أىّ تحريض على الإلحاد أو مساس بالقيم الدينية، وأن حرية الإبداع المصونة دستوريًّا تعلو على الدعاوى التى لم تُقدّم دليلا واحدًا على مزاعمها.

شاهدتُ الفيلمَ الجميلَ أمس الأول فى العرض الخاص مع صُنّاعه ونُخبة من مثقفى مصر. وبالطبع لن أحرق أحداثَه ولن أُلخّصه. لأن تلخيص العمل الفنى فى نظرى جريمة قتل عمدى للإبداع. الفنون والإبداع خُلقت لتُشاهَد وتُقرأ، لا لتُختزل.

وعلى كل حال الفيلم سوف يُعرض فى جميع دور العرض بعد أيام قليلة بدءًا من ليلة رأس السنة 31 ديسمبر، ليكون بمثابة هدية العام الجديد 2026.

لكن بوسعى أن أقول إن الفيلم يناقش ظاهرة موجودة بالفعل فى مجتمعاتنا، مهما دفنا الرؤوسَ فى الرمال، ومهما تغافلنا وتعامينا عن تأملها وتحليلها. ظاهرة الإلحاد. الفيلم يدفعك لتأمل: السبب قبل أن تُدين النتيجة.

قبل أن نحمل رماحَنا وسيوفَنا لنُثخن صدور الملحدين بالجراح والتنكيل، علينا أن نفتش عن المتسبب فى إلحادهم، وخروجهم من منظومة الإيمان، نحو فضاء المجهول.

الفيلم لا يُروِّج للإلحاد كما زعم بسطاءُ الفكر، بل يناقش منطلقاته، مساراته، سياقاته الأسرية، أسبابه النفسية والفكرية، وعلاقته بالتطرف الدينى. الفيلم يحاول تفكيك تلك الظاهرة، لكى نضعها على طاولة التشريح تحت مجهر التأمل والتفكيك، بدلا من دفنها فى مقبرة الصمت.

فتصوروا مدى السذاجة فى مهاجمة فيلم إصلاحى يودُّ حلَّ معضلة لم يحلّها العنفُ والترويعُ، بل ربما تسبّب فيها؟! هاجمنا فيلمًا أراد أن يفهم، ونفهم معه، لماذا يصل بعض الشباب إلى حافة الرفض، واليأس، والقطيعة مع العالم، بدل أن نسأل أنفسنا: كيف وصلوا إلى هناك؟! لماذا؟ لأننا نخاف من تشخيص المرض أكثر مما نخاف المرض نفسه. نُفضِّلُ أن نعيش حالة الإنكار، لأنها أسهل من الاعتراف بالمشكلة وتأملها.

الفن لا يخلق الظواهرَ، بل يكشفُها. لا يزرعُ الأزمات، بل يسلّط الضوء عليها.

والضوءُ مزعجٌ لأنه يكشفُ الغبار، ويفضحُ التشققاتِ فى جدران كنا نظنُّها صلبة. ولهذا يُخاف منه، يُحارَب ويُطعن، بدلا من أن يُرحّب به. لصالح مَن نبنى مجتمعًا يحاكم الأفكار،

ويدفنها قبل أن تولد، بدلا من الترحيب بها ومناقشتها حتى تثرى العقول؟ السؤال الذى علينا مواجهته بعد مشاهدة الفيلم هو: هل نريد ثقافة تقرأ، أم ثقافة تصرخ؟ هل نريد وعيًا يتشكّل

بالحوار، أم يقينًا يتصلّب بالذعر والقمع والنفاق؟ بعدما نشاهد الفيلم سنعرف أن الإصبع الذى يُشيرُ ليس خطرًا، والقمرَ المُشارَ إليه لن يسقط فوق رؤوسنا إذا أحسنّا النظرَ إليه وتأمله.

تحية احترام للمفكر الكبير: إبراهيم عيسى على هذا الفيلم الجميل الذى سيكون بمثابة الضلع الثالث فى مثلث: الضيف- صاحب المقام- الملحد. وتحية احترام للنجوم الكبار صنّاع الفيلم وضيوف الشرف: أحمد حاتم- صابرين- محمود حميدة- حسين فهمى- شيرين رضا- أحمد السلكاوى- نجلاء بدر- تارا عماد- دُرّة، والمخرج (محمد العدل)، والمنتج (أحمد السبكى).

أجملُ رسالة قدّمها الفيلم أشرقتْ فى نهايته. اختُتم الفيلمُ بعبارة: اللهُ أكبر. الله أكبرُ وأجملُ من جميع تصوراتنا عنه. اللهُ أكبرُ وأجملُ من محاولات المتطرفين تشويه كلمته بغلاظة قلوبهم وتجهم ملامحهم وبلادة فكرهم. اللهُ أكبرُ وأجملُ من أن يُحاصَر فى خطاب، أو يُستعمَل عصا لإفزاع البشر. اللهُ أكبرُ من خوفنا منه، وأقربُ إلينا من كل من ادّعى أنه وكيله على الأرض. اللهُ أكبرُ، وكفى.

فاطمة ناعوت
29 ديسمبر 2025 |