القائمة الأقباط اليوم أبحث
أهم الأخبار

صلاح جاهين كمان وكمان .. بقلم خالد منتصر

الفنان صلاح جاهين لا يحتاج إلى ذكرى ميلاد أو وفاة لكي نحتفل أونحتفي به ، فهو يسكن الوجدان والروح والعقل في كل وقت ،وبصماته الفنية والابداعية حية باقية كنقوش أجداده المصريين القدماء

صلاح جاهين كمان وكمان .. بقلم خالد منتصر

، لذلك سعدت أيما سعادة باختياره شخصية معرض الكتاب لعام 2023 ،واختيار واحدة من أهم قصائده شعاراً للمعرض وهي قصيدة "على اسم مصر"، وكما أجاب يوسف شاهين في فيلمه عن سؤال " اسكندريه

ليه؟" وصنع "اسكندرية كمان وكمان" تأكيداً على إجابته، سنحاول أن نجيب في تلك المساحة التي نحتاج أضعاف أضعافها لنغطي جوانب تلك العبقرية ،عن سؤال " صلاح جاهين ..ليه؟"

بالتأكيد على أننا نحتاجه "كمان وكمان" ، لماذا جاهين الآن ، لأن جاهين لو لم يكن مصرياً لم يكن ليحمل أي جنسية أخرى ،فهو عصارة العصارة المصرية ،وبرغم إنه ابن المدينة إلا أنه استطاع

أن يلتقط كل ما هو مصري ،سواء في الريف أو في الحضر ،في الصحاري أو في الغيطان ، يلتقط بعين العاشق الأريب المغرم تفاصيل وملامح مصر المحروسة حتى بتجاعيدها و تقطيبتها وقت الأحزان ، مصر التي لخصها فقال:

على اسم مصر التاريخ يقدر يقول ما شاء

أنا مصر عندي أحب وأجمل الأشياء

باحبها وهي مالكه الأرض شرق وغرب

وباحبها وهي مرميه جريحة حرب

باحبها بعنف وبرقة وعلى استحياء

واكرهها وألعن أبوها بعشق زي الداء

واسيبها واطفش في درب وتبقى هي ف درب

وتلتفت تلقيني جنبها في الكرب

والنبض ينفض عروقي بألف نغمة وضرب

على اسم مصر

مصر النسيم في الليالي وبياعين الفل

ومرايه بهتانة ع القهوة.. أزورها.. واطل

ألقى النديم طل من مطرح ما انا طليت

والقاها برواز معلق عندنا في البيت

فيه القمر مصطفى كامل حبيب الكل

المصري باشا بشواربه اللي ما عرفوا الذل

ومصر فوق في الفراندة واسمها جولييت

ولما جيت بعد روميو بربع قرن بكيت

ومسحت دموعي في كمي ومن ساعتها وعيت

على اسم مصر

صلاح جاهين حالة فنية لم تتكرر وأخشى أن أقول أنها لن تتكرر ، فهو كتيبة فنية تمشي على قدمين ،شاعر وسيناريست وفنان تشكيلي ورسام كاريكاتير وممثل وصحفي ورئيس تحرير ومنتج سينمائي وكاتب فوازير وراقص

أحياناً ! لذلك الاحتفال به هو احتفاء بالفن عموماً ،واثبات أن الفن نواة واحدة وخيط وراثي واحد وجينات مشتركة تتشكل منها كل صور الفن ، قطعة ماس لها عدة زوايا ، أن يكون جاهين هو شخصية معرض هذا العام

فهي رسالة لنا بأن قوة مصر الناعمة في تلك الفنون ،ولن يحدث تقدم إلا اذا تمسكنا بها واستعدناها وتخلصنا من كل الأحمال الثقيلة والمكبلة لمسيرتها ، قدرة صلاح جاهين الفنية البارعة جعلت منه زرقاء

اليمامة في الفيلم النبوءة " خلي بالك من زوزو" والذي تعامل معه النقاد وقتها بمنتهى القسوة ،واتهموا جاهين وقتها بأبشع الاتهامات ، كان يستشعر الخطر ويقرأ كف المستقبل القادم، المتطرف الديني

الذي رسمه صلاح جاهين وأدى دوره الممثل محيى إسماعيل كان قد بدأ في التشكل والتسلل الى الجامعة ،ونحن لا نشعر بكم الخطر القادم من هذا التيار الذي أذاق الجامعة ومصر السم الزعاف بعدها ، كان جاهين يعلن

في هذا الفيلم أن هؤلاء قادمون ،سيسممون بئر الأحلام ،ويجهضون كل أجنة المستقبل ، فتخرج من أرحامهم مسوخ الغلظة والجلافة وجفاف المشاعر ، انتصر في هذا الفيلم للبنت المصرية ،الفتاة المثالية ، انتصر

للبهجة والرقص والغناء والحب ، كان شبه متأكد أن كل تلك المشاعر الراقية الجميلة والنبيلة سيدهسها قوم رضعوا حليب العنف والاقصاء من أثداء تراث قتل فيهم كل ماهو فن وخير وجمال ، صلاح جاهين يمثل قيماً

نريد التأكيد عليها الآن ، قيمة الحرية فهو الذي حلق بعيداً ضد الطرق المعبدة سلفاً حتى في حياته الشخصية حين ترك دراسة الحقوق من أجل الفن ، حين دخل معركة مع القوى الرجعية بسبب رسم كاريكاتير كان

يدافع فيه عن حرية المرأة ووصلت المشكلة الى مجلس الأمة وقتها ولكنه تمسك برأيه ودافع عنه ، قيمة العدل الاجتماعي الذي كان مؤمناً به وكتب عنه بصدق وهو ما أخذه عليه البعض حين كتب "تماثيل رخام ع

الترعه وأوبرا " ، هو كان مصدقاً ومؤمناً بجد وليس لحصد مكاسب أو التقرب من سلطة ، قيمة التجديد، حين كتب الفوازير كان جديداً ،حين كتب مسرحية انقلاب وأشعار علي جناح التبريزي كان متجدداً ، وحين كتب

أغاني فيلم عودة الابن الضال وأغنية صورة المليئة دراما ، حين كتب الرباعيات التي خصص لها يحيى حقي دراسة باعتبارها ثورة شعرية حقيقية ،حين كتب كل تلك الدرر الفنية وغيرها كان متجدداً ومتمرداً بدون

تعمد أكاديمي أو إعلان ثورة أو الإفصاح عن مدرسة فنية جديدة ..الخ ،كان يكتب ويرسم ويبدع وهو يغمس سن قلمه في قلب وروح صلاح جاهين ويستمد منها المدد والمداد ولا يستنسخ أحداً ، إستحضار مناخ وزمن صلاح

جاهين عمل صعب بل ومستحيل ،فعقارب الزمن لا ترجع للخلف ، ولكن استحضار روح وتمرد وفن صلاح جاهين ممكن ، فلسفته وقدرته على الاختزال ، موهبته في الإمساك بلحظة البهجة من ركام الحزن ، تحويل شجن الاكتئاب الى طاقة ابداع ،إنها رسائل

الاهرام
01 فبراير 2023 |