القائمة الأقباط اليوم أبحث
أهم الأخبار

«توم الخزين.. يا توم» .. بقلم فاطمة ناعوت

بقلم فاطمة ناعوت

إنه الإلهام. الإلهامُ الذى بسببه كان كل ما فى العالم من إبداع موسيقىّ وأدبىّ وتشكيلىّ، وكذلك علمىّ. جميعُ ما ابتكر الإنسانُ وما اخترع كان وراءه إلهامٌ ما. الإلهامُ فى اللغة هو ما يُلقى فى الروح كما قال ابن منظور. ومنذُ الأزل يحاول

«توم الخزين.. يا توم»  .. بقلم فاطمة ناعوت

الإنسانُ تفسيرَ ظاهرة الإلهام الملغزة ليعرف كيف يقوم مؤثرٌ خارجى بإلهام مبدعٍ ما فيكتب قصيدة أو قطعة موسيقية أو ينحت تمثالًا أو يرسم لوحة أو يخترع جهازًا عبقريًا، وقد يكون المؤثرُ ذاته طفيفًا مرّ على العاديين من البشر مرور الكرام.

آمن الإغريقُ بأنه تأثيرُ ربّات الإلهام Muses ومنها اشتقت كلمتا: Music الموسيقى، Museum متحف الفنون. ومازال علماءُ العالم يحاولون فكّ ذلك الطلسم لفهم كيف يتعامل المخُّ البشرى مع المعلومات الواردة إليه، فيُبدع المبدعون ولا يفعل غيرهم.

من أطرف قصص الإلهام حكايةُ التوم. جلس شاعرٌ مُطرقًا يفكر فى مطلع آسر لأغنية جديدة يكتبها لأحد الأفلام. ولكنْ، هيهات أن يُلبّى شيطانُ الشِّعر نداءنا وقتَ ننادى. حين نلاحقُ الشِّعرَ؛ يروغُ ويراوغُ ويزوغ ويتأبّى

ويتدلّل ويفرّ، ثم يتبخّر ويختفى.. وحين ننساه ونُعرضُ عنه، يلاحقُنا ويطاردُ أفكارنا، ويرسلُ إلينا مراسيلَ إلهام تُلهمنا، حتى نتمكنَ منه ونقنصَه، فتصير القصيدةُ. وبينما الشاعرُ مستغرقٌ فى غمرة إطراقه ويأسه، ترفّق به

شيطانُ الشعر فأرسل مُلهمَه فى ثوب أحد السابلة، مرّ تحت شُرفة الشاعر بائعٌ جائلٌ كان يهتف: توم الخزين يا تووووم. فوثب الشاعرُ الغنائى الكبير مرسى جميل عزيز من مقعد مكتبه وهتف، كما هتف أرخميدس قبل ثلاثة وعشرين قرنًا: وجدتُها!!!.

قنصَ الشاعرُ عصفورةَ الشِّعر الحرونَ من مناجاة البائع المتجوّل لبضاعته. عصفورةُ الشعر العصيّة لا تسقط فى شِباكنا بيُسر، شأنُها شأنَ النفائس العزيزة. وكانت مناجاةُ

بائع الثوم على بضاعته: (توم الخزين يا تووووم) إلهامًا لمفتتح، ولازمة إحدى أجمل أغنيات المطربة المصرية أحلام ذات الصوت الدافئ على نغم الموسيقار محمود الشريف، وبزغت

للوجود أغنية الأفراح الأشهر: (توب الفرح يا توب). وأصبحت كلُّ عروس تُزفُّ على نغمات تلك الأغنية مدينةً لبائع الثوم الذى تصادف ومرّ جوار شرفة الشاعر فى لحظة الانصهار والكتابة.

أخبرنى بتلك القصة الطريفة خالى محمد أبوبكر، الرجل المحاسبىّ فى معرض حديثه عن فكرة الدائن والمدين، لا فى البنوك والمؤسسات المالية وحسب، بل بوصفها القاعدة التى يقوم عليها العالم بأسره. وبالقطع، أتفقُ مع هذا

الطرح، فالجميعُ طوال الوقت فى حال من الأخذ والعطاء. وحركات الدائن والمدين لا تتوقف فوق الأرض على مدار الثانية.. ليس بين البشر وحسب، بل حتى بين البشر والكائنات الأخرى. فأبونا قابيل مَدينٌ للغراب بفكرة مواراة

الموتى التراب. والعصفورُ دائنٌ لـ الأخوين رايت بفكرة الجناحين والطيران. والفراهيدى مَدين لطارقى النُّحاس والخيل فى استخلاص منظومة العَروض والوزن فى الشعر العربى. وتدينُ البشريةُ لجرس الكنيسة فى ابتكار السُّلّم الموسيقى.

جميعُنا دائنٌ وجميعُنا مَدينٌ. جميعنا خادمٌ ومخدومٌ. فأنا حين أجلسُ إلى طاولة الرسم الهندسى وأصممُ أحد المبانى، بوصفى مهندسةً بالدراسة، أكون خادمةً لمن سيقطنون البناية بعد تشييدها. وظيفتى معرفة احتياجاتهم

اليومية وتلبيتها على لوحة التصميم من أجل صالح حياتهم ورفاهيتها. وبعدما تقطن البنايةَ مجموعةٌ من البشر، سيكون الطبيبُ منهم خادمًا لى حين أمرض وأرتاد عيادته. والقبطانُ منهم سيكون خادمًا لى حين أركب سفينته لأسافر.. وهكذا.

وبعد، فإنك حين تذهبُ إلى المسرح فى المساء من أجل بعض المتعة والترفيه، بعد انتهاء عملك كـخادم لمهنتك، عليك أن تنتبه إلى أنك تزور الممثلين فى ذروة وقت عملهم وخدمتهم.. الممثلُ فوق خشبة المسرح خادمٌ للجمهور طوال فترة العرض، مثلما كلّ واحد من الجمهور سيغدو خادمًا له ولغيره حين يذهب إلى عمله فى الصباح.

إنها فكرةُ الدولة والتكامل المجتمعى بين الوظائف والأعمال. كلٌّ منّا يكون فى لحظة ما إما خادمًا أو مخدومًا. وسبقت هذه الفكرةُ مفهومَ الدولة. بدأ الإنسانُ فى تطبيقها منذ وطأت قدماه الأرض، خاصةً فى المجتمعات النهرية الزراعية

على طول ضفاف النهر، أنا أزرعُ أرضى فى الجنوب، وتأتى أنت لتساعدنى من الشمال، وحين تهبطُ المياه لأرضك فى الشمال مع حركة المياه، آتى إليك وأساعدك فى زراعة أرضك وجنى المحصول.. وهكذا. أنت خادمٌ عندى فى لحظة، وأنا خادمٌ عندك فى أخرى.

وأنا أكتبٌ هذا المقال الآن، أقوم بعملى كـخادمة للقارئ، وإلى جوارى العظيم محمد عبدالوهاب يقوم بدوره فى خدمة روحى وهو يشدو: عندما يأتى المساء. كلُّنا خادمٌ، وكلُّنا مسؤولٌ عن مخدوميه.

الدينُ لله.. والوطنُ لخُدّام الوطن

twitter:@fatimaNaoot

فاطمة ناعوت - المصرى اليوم
28 اكتوبر 2021 |