Our App on Google Play Twitter Home أبحث

تفسير الاصحاح الرابع من سفر القضاة للقمص تادري يعقوب ملطى

دبورة النبية وباراق

في كل عصر يبرز الرب دور النساء الإيجابي حتى لا يعشن في حياة سلبية بل يقمن بدورهن وسط الجماعة، وقد فاقت دبورة النبية والقاضية الكثير من القضاة أنفسهم.

١. سقوط إسرائيل في الشر [١-٣].
٢. دبورة تحث باراق [٤-٩].
٣. دبورة تقتل سيسرا [١٠-٢٤].

line

١. سقوط إسرائيل في الشر:


عاد إسرائيل يعمل الشر في عيني الرب فباعهم بيد يابين ملك كنعان الذي ملك في عاصمة الكنعانيين "حاصور" وكان رئيس جيشه سيسرا ساكنًا في حروشة الأمم، وبقي إسرائيل في ضيق شديد لمدة عشرين عامًا.

كلمة "حاصور" تعني (حظيرة) كما تعني (محاط بسور) إذ كانت بمثابة حصن، تقع قرب بحيرة ميروم، المعروفة الآن ببحيرة الحولة (يش ١١: ١-٥). مدينة حاصور تعرف اليوم بتل القدح وربما حضيرة أو خربة صرة. أما "يابين" فغالبًا ما كان لقبًا لملوك كنعان كفرعون لملوك مصر؛ أما سيسرا رئيس جيشه فيرى القديس أغسطينوس أنه يعني (الخروج من الفرح)[47].

إذ تكرر شر إسرائيل باعهم للتأديب بواسطة "سيسرا" أي بفقدان الفرح، وهذا من أقسى درجات التأديب، إذ يفقد الإنسان معية الرب واهب الفرح فيصير في قلق داخلي وكآبة قلب لا ينزعها إلاّ عودة القلب إلى الله ليتقدم كمقدس له أو سماء تحمله في داخله بروح الفرح والتهليل.

كان ملك كنعان أو رئيس "الضجيج" وعدم السلام ساكنًا في "حاصور" عاصمته أي كمن في حصن، يرسل سيسرا إلى القلب ليحطم كل فرح فيه.

كان سيسرا ساكنًا في "حروشة الأمم" [٢]، إي خليط الأمم أو لفيف من الأمم، وهو موضع في شمال فلسطين دعي هكذا نظرًا لإختلاف أجناس سكانه، أو لأن مجموعة مختلفة من الجنسيات قد اختلطت معًا في هذه المنطقة وأنشأت دولة مستقلة دعيت بحروش الأمم. كان سيسرا أي (الخروج عن الفرح) يقطن وسط الخليط من الأمم، بمعنى أن الإنسان يفقد فرحه الروحي حينما يتحول قلبه إلى حروشة الأمم الوثنية أي خليط من الخطايا والرجاسات.

line

٢. دبورة تحث باراق:


لقد عمل الله بأهود الرجل الأشول، كما استخدم شمجر الذي لا يملك إلاّ منساس بقر يحارب به، والآن يعمل بإمرأة أو كما يقول القديس أمبروسيوس بأرملة، حتى يسند الكل رجالاً ونساءً، المتزوجين والأرامل والعذارى، فيكون لكل دوره الروحي في حياة الجماعة المقدسة.

في هذا يقول القديس أمبروسيوس: [أظهرت (دبورة) أن الأرملة ليست غير محتاجة إلى معونة الرجل ما دامت غير معوقة بجنسها واضعة على عاتقها أن تحقق التزامات الرجل، فقد عملت أكثر مما تعهدت. فعندما كان القضاة يحكمون اليهود، إذ لم يستطيعوا أن يجدوا من يحكمونهم ببر رجولي أو يدافعون عنهم بقوة رجولية والتهبت الحروب من كل جانب إختاروا دبورة لتحكم عليهم.

هكذا حكمت أرملة الآلاف من الرجال في وقت السلام ودافعت عنهم ضد العدو (وقت الحرب). لقد وُجد في إسرائيل قضاة كثيرون من قبلها لك لم توجد قبلها قاضية.. وإنني أعتقد أن عملها كقاضية قد سُجل، وأفعالها قد وُصفت حتى لا تتوقف النساء عن العمل الشجاع بسبب ضعف جنسهن.


 أرملة حكمت الشعب، أرملة قادت الجيوش، أرملة اختارت القواد، أرملة صممت على الحرب ونالت نصرات.. ليس الجنس هو الذي يصنع القوة بل الشجاعة[48]]. ويختم حديثه عن دبورة القاضية بقوله: [أيتها النساء ليس لكن عذر بسبب طبيعتكن؛ أيتها الأرامل ليس لكن حجة بضعف جنسكن. لا تنسبن تغيركن إلى فقدانكن عون الزوج، فلكل إنسان حماية كافية إن كانت نفسه لا تعوزها الشجاعة[49]].

إن كنا نرى في القضاة صورًا متباينة لشخص السيد المسيح وعمله الخلاصي، فإن دبورة تحمل صورة حية لكنيسة المسيح في جوانب كثيرة منها:

أولاً: من جهة الإسم " دبورة" أي (نحلة)، وقد قيل عن الكنيسة كنحلة: "شفتاك ياعروس تقطران شهدًا، تحت لسانك عسل ولبن" (نش ٤: ١٢)، كما قيل عنها: "النحلة ضئيلة بين الطير وشهدها أعذب ما يستساغ من الطعام" (إبن سيراخ ١١: ٣). ويقول القديس غريغوريوس النيصي: [النحلة محبوبة من كل أحد، ويقدرها الجميع، فبالرغم من ضعف قوتها لكنها تحمل حكمة علوية وتسعى دومًا لبلوغ حياة الكمال.. هكذا يليق بنا (كالنحلة) أن نطير على مروج التعاليم الموحى بها، ونجمع من كل منها مخازننا التي للحكمة.

هكذا يتكون العسل في داخلنا وكأنه ذلك المحصول الحلو الذي يخزن في قلوبنا كما في خلية نحل، وبواسطة التعاليم المتنوعة تتشكل في ذاكرتنا مخازن على مثال الخلايا الشمعية التي لا تهلك. يلزمنا أن نكون كالنحلة فإن عسلها حلو ولدغتها لا تؤذي، ننشغل في عمل الفضيلة الهام.

 إنها تنهمك بالحق في تحويل أتعاب هذه الحياة إلى بركات أبدية، وتقديم جهادها لصحة ملوك وشعوب. هكذا أيضًا النفس تجتذب العريس، ويعجب بها الملائكة، الذين يكملون قوتها في الضعف خلال الحكمة المكرمة[50]].

ثانيًا: إسم رجلها "لفيدوث" وهو جمع مؤنث للكمة "لفيد" أو "لبيد" وتعني (مشرق أو مصباح أو مشعل)[51]. أما عريس الكنيسة فهو ذاك الذي قال: "أنا نور العالم" (يو ٨: ١٢؛ ٩: ٥). إنه يشرق في كنيسته لكي تستنير به (مت ٥: 14)، وكما يقول القديس يوحنا الذهبي الفم على لسان السيد المسيح: [حقًا أنا الذي أوقد النور، أما استمرار أيقاده فيتحقق خلال جهادكم أنتم.. بالتأكيد لا تقدر المصائب أن تعطل بهاءكم إن كنتم لا تزالون تسلكون الحياة الدقيقة، فتكونون سببًا في تغيير العالم كله. إذن، فلتُظهروا حياة تليق بنعمته حتى إذ تكرزون في أي موضع يصاحبكم هذا النور[52]].

ثالثًا: كانت دبورة "جالسة تحت نخلة دبورة بين الرامة وبيت إبل في جبل أفرايم" [٥]. ما هذه النخلة التي دعيت بإسمها، وكانت تجلس تحتها ليصعد إليها رجال للقضاء، إلاّ خشبة الصليب التي تحدثت عنها الكنيسة العروس، قائلة: "تحت ظله اشتهيت أن أجلس وثمرته حلوة في حلقي" (نش ٢: ٣). كانت دبورة تجلس تحت شجرة الصليب بين "الرامة" التي تعني (مرتفعات)، وبيت إيل التي هي (بيت الله)، في جبل أفرايم أي جبل الثمر المتكاثر.

 وكأن جلوسها تحت الصليب قد وهبها ثمرًا متكاثرًا، إذ كانت تجلس على المرتفعات (الرامة) فوق هموم العالم وإغراءاته، عند بيت إيل إي في بيت الرب لتنعم بمعيته على الدوام. ما أحوجنا أن نكون كدبورة نعمل بغير إنقطاع في دائرة الصليب، مرتفعة قلوبنا إلى السمويات ومنطلقة إلى بيت الله الأبدي فننعم بثمر الروح المتكاثر.

يصف القديس أمبروسيوس حال دبورة كقاضية قبل إنطلاقها للحرب، قائلاً: [في وقت السلم لا نجد شكوى ولا خطأ في هذه الامرأة، بينما كان غالبية القضاة علة لخطايا ارتكبها الشعب ليس بصغيرة[53]].

رابعًا: تُشير دبورة إلى الكنيسة في حث أولادها على الجهاد الروحي ضد إبليس وأعماله الشريرة، أي الرجاسات والخطايا، فقد أرسلت دبورة إلى باراق بن أبينوعم من قادش نفتالي تطالبه بالزحف على جبل تابور ومعه عشرة آلاف رجل من بني نفتالي ومن بني زبولون لمحاربة سيسرا رئيس جيش يابين.

يرى القديس أمبروسيوس أن باراق هو إبنها، بينما يرى بعض الحاخامات اليهود أن باراق نفسه هو لفيدوت زوجها، إذ أن لفيدوت كما قلنا يعني برق أو مشعل. والمعنى يقترب من كلمة باراق التي تعني برق أو بارق. وقد دُعي هكذا بسبب نشاطه وسرعة حركته خاصة في الحروب، يتحرك كالبرق الخاطف.

يرى القديس أمبروسيوس أن دبورة نجحت في عملها كقاضية خلال نجاحها في حياتها العائلية، إذ قدمت إبنها باراق رجلاً ناجحًا، وسلمته لقيادة الجيش بالرغم من المخاطر التي قد تلاحقه.

 يقول القدي: [هذه المرأة، قبل كل شيء هيأت كل التدابير الخاصة بالحرب، مظهرة أن احتياجات العائلة لا تعتمد على المصادر العامة وإنما الإلتزامات العامة تقوم خلال تدبير الحياة العائلية، فقدمت إبنها قائدًا للجيش لنعرف أن أرملة إستطاعت أن تدرب مصارعًا، علمته كأم، وأمرته كقاضية؛ بشجاعتها دربته وكنبية قدمته للنصرة[54]]، كما يقول: [يا لعظمة عزيمة أرملة لم تحتجز إبنها عن المخاطر خلال عاطفة الأمومة بل بالحري في غيرة الأم حثت إبنها أن يذهب ليغلب، وكانت نقطة قرار النصرة في يد إمرأة[55]].

لقد حثت دبورة باراق –أيًا كانت قرابته لها– لا لينطلق وحده وإنما ليأخذ معه عشرة آلاف رجل من بني نفتالي ومن بني زبولون لمحاربة سيسرا المنجذب إلى نهر قيشون، فيدفعه الرب ليديه.

 فإن كان باراق يشير إلى الحياة المستنيرة في الرب كالبرق، سريعة الحركة، فإنه يليق بالمؤمن في جهاد الروحي أن يكون كباراق، أما العشرة آلاف رجل فيشيرون إلى الإنسان الحافظ للناموس (رقم ١٠) بطريقة روحية سماوية (× ١٠٠٠) أو بطريقة إلهية، لأن يومًا عند الرب كألف سنة، أما كونهم رجالاً فإنه يليق بالمؤمن ألاَّ يحمل في داخله تدليل النساء ولا عجز الأطفال، بل نضوج الرجال وجديتهم. هؤلاء الرجال يقدمون من بني نفتالي تعني (متسع) وبني زبولون تعني (مسكن) أي يكون لهم القلب المتسع كمسكن الله نفسه.

إن انطلق المؤمن كباراق برجاله أي يقدم كالبرق الخاطف ومعه الفكر الروحي للوصية كفكر يعيشه ويختبره، فيه نضوج الروح، وله القلب المتسع كمسكن الله وكل البشرية عندئذ يجتذب الله سيسرا من قيشون التي تعني (منحنى) ليسلمه في يده، أي يخضع حركات العدو الشرير الملتوية المنحنية تحت قدميه.

نهر قيشون يسقي مرج إبن عامر، تجري إليه المياه من جبل تابور وتلال الناصرة وجبل حرمون الصغير وجلبوع، وهو يجري في وسط سهل إبن عامر بمجرى ملتوٍ ومعوج متجهًا نحو الشمال الغربي فيدخل سهل عكا ويصب بالقرب من حيفا من جهة الشمال، ويسميه العرب "نهر المقطع". أغلب مجراه يجف في الصيف. على شاطئه قتل إيليا النبي كهنة البعل (١ مل ١٨: ٤٠).

line

٣. دبورة تقتل سيسرا:


طلب باراق من دبورة أن تذهب معه، فقالت له "إني أذهب معك غير أنه لا يكون لك فخر في الطريق التي أنت سائر فيها، لأن الرب يبيع سيسرا بيد امرأة" [٩]. أرادت دبورة أن تحث باراق للخروج للحرب لكنه إذ أصر على خروجها معه قبلت، وبروح النبوة قالت: "لأن الرب يبيع سيسرا بيد امرأة"، فقد ظن باراق أن دبورة تتحدث عن نفسها، غير أنها في الواقع غالبًا ما كانت تقصد ياعيل امرأة حابر القيني التي قتلت سيسرا في خيمتها بالوتد.

يرى القديس أمبروسيوس في باراق الذي قاد المعركة رمزًا لليهود الذين خرجوا يحاربون بتعاليم الأنبياء عن الخلاص، لكن المنتصر ليس باراق بل امرأة أممية هي ياعيل، بكونها رمزًا لكنيسة التي جاء أعضاؤها من الأمم. يقول القديس أمبروسيوس: [هكذا تنبأت دبورة عما حدث في المعركة. إذ أُمر باراق قاد الجيش لكن ياعيل هي التي حملت النصرة.

 لقد أعلنت نبوة دبورة سرًا عن إقامة الكنيسة من بين الأمم، هذه التي نالت الغلبة على سيسرا، أي على القوات المضادة لها. لأجلنا حاربت تعاليم الأنبياء "باراق".. ولم ينل الشعب اليهودي النصرة على العدو بل كان يجب محاربته خلال فضيلة الإيمان.

 وبخطئهم جاء الخلاص للأمم، بغباوتهم صارت لنا الغلبة[56]]. كما يقول: [حطمت ياعيل سيسرا، هذا الذي كان يجب على اليهود المحنكين أن يحاربوه بقيادة قائدهم (المبرق)، لأن كلمة "باراق" تعني (مبرقا)، إذ غالبًا ما كانت تجلب القراءة في أقوال الأنبياء وأعمالهم عونًا سمائيًا (يبرق) على الآباء.. فالنصرة ابتدأت من الآباء (اليهود) وانتهت بالكنيسة[57]].

يروي لنا الكتاب المقدس قصة نصرة ياعيل (كنيسة الأمم) على سيسرا هكذا:

أولاً: "دعا باراق زبولون ونفتالي إلى قادش وصعد ومعه عشرة آلاف رجل، وصعدت دبورة معه" [١٠]. لم نسمع في بداية الإنطلاق عن دور قامت به ياعيل (الأمم)، إنما قام باراق الذي يمثل آباء اليهود الذين أبرقت فيهم نبوات العهد القديم، وانطلق معه دبورة (روح النبوة).. وكان بدء الانطلاق مع زبولون ونفتالي (أي القلب المتسع كمسكن لله)، من قادش التي تعني (قداسة).

 وكأن هذه البداية تمثل جهاد رجال العهد القديم خلال روح النبوة لينطلقوا للحرب خلال الحياة التقوية المقدسة.

ثانيًا: يأتي الكتاب بعبارة إعتراضية تهيئ الذهن للتعرف على ياعيل زوجة حابر القيني، إذ يقول: "وحابر القيني إنفرد من قايين من بني حوباب حمى موسى وخيم حتى إلى بلوطة في صعنايم التي عند قادش" [١١]. "حابر" يعني (محالفة)، قد إنفرد من العشيرة المنسوبة إلى قايين، أي اعتزل القينيين، لكنه لم يتمتع بالميراث في أرض الموعد رغم إيمانه بإله إسرائيل، لذلك خيّم في منطقة بلوطة صعنايم ليكون على حدود الكنعانيين وإسرائيل، فتحالف مع ملك الكنعانيين بكونه أمميًا وارتبط بصداقة مع بني إسرائيل كدخيل.

لعل حابر هذا يمثل بعضًا من الأمم الذين بحسب الناموس الطبيعي عرفوا الرب، لكنهم لم يتخلصوا من التحالف مع الكنعانيين إذ كانوا يسلكون في الرجاسات، حتى انطلقت منهم "ياعيل" أي كنيسة الأمم تقتل إبليس "سيسرا" وترفض رجاساته وعباداته الوثنية.

ثالثًا: "قالت دبورة لباراق: قم، لأن هذا هو اليوم الذي دفع فيه الرب سيسرا ليدك. ألم يخرج الرب قدامك؟!" [١٤]. كشفت دبورة عن سرّ النصرة لباراق ألاّ وهو التمتع بالقيامة مع الرب القائم من الأموات، محطم إبليس وجنوده، إذ قالت له "قم".

ما أحوجنا أن نسمع صوت الكنيسة "دبورة"، لننعم بالقيامة فلا يكون لسيسرا قوة علينا لأن الرب القائم من الأموات "يخرج قدامنا" كبكر الراقدين، يدفع سيسرا ليدنا.

رابعًا: "فنزل باراق من جبل تابور ووراءه عشرة آلاف رجل" (عد ١٤). كان باراق على جبل تابور كمن هو في حصنه ومأمنه، وكأنه كان مع التلاميذ الذين رأوا الرب متجليًا هناك فقالوا على لسان بطرس: "جيد يارب أن نكون ههنا". وقد أمرهم الرب بالنزول ليحمل الصليب ويحملونه معه، فيعلن بقيامته نصرته على سيسرا، واهبًا الغلبة لتلاميذه فيه.

خامسًا: "فأزعج الرب سيسرا وكل المركبات وكل الجيش بحد السيف أمام باراق، فنزل سيسرا عن المركبة وهرب على رجليه" [١٥]. إن كان باراق قد نزل من جبل تابور ومعه عشرة آلاف رجل، فإنه لم يكن يملك مركبات، فكان بالنسبة لجيش سيسرا أقل بكثير في العدد التي يقدره يوسيفوس بـ ٣٠٠ ألفًا من الرجال، وبعشرة آلاف فارس، وأيضًا أقل في الإمكانيات إذ يقدر عدد مركباته بثلاثة آلاف منها تسعمائة من حديد.

 لكن الله كعادته لا يخلص بالإمكانيات البشرية الجبارة وإنما إذ تقدم صفوف شعبه أزعج العدو. ويُقال أن العدو إذ رأي الجيش ينزل عليه بغتة اضطرب وصار في حيرة فهربوا فكانت المركبات تصطدم معًا فاضطروا إلى تركها والسير على الأقدام، خاصة وأن يوسيفوس يقول بأن مطرًا غزيرًا تساقط وبردًا عظيمًا أفقدهم التدبر في الأمر، فكان الإسرائيليون يلاحقونهم، وكأنهم يترنمون مع المرتل قائلين: "هؤلاء بالمركبات وهؤلاء بالخيل، أما نحن فإسم إلهنا نذكر" (مز ٢٠: ٧).

أدرك سيسرا أن العدو اقترب منه جدًا فنزل من مركبته بكونها موضع تركيز العدو، خاصة وأنها أوشكت على الإنكسار، كما أدرك أنه من السهل أن يجد لنفسه مخبأ عن أن يختفي هو ومركبته معًا.

هكذا غلب باراق ورجاله سيسرا وجيشه لا بكثرة العدد أو الإمكانيات وإنما بإسم رب الجنود. يقول القديس أمبروسيوس: [لا تغلب الكنيسة قوات العدو بأسلحة هذا العالم، بل بأسلحة روحية "قادرة بالله على هدم حصون، هادمين ظنونًا" (٢ كو ١٠: ٤-٥). إن عطش سيسرا قد أطفئ بإناء من اللبن إذ غُلب بالحكمة، فما هو صحي بالنسبة لنا كطعام، فإنه بالنسبة للعدو يُضعف قوته ويقتله. إسلحة الكنيسة هي الإيمان، إسلحتها هي الصلاة التي تغلب العدو[58]].

سادسًا: "خرجت ياعيل لاستقبال سيسرا وقالت له: مل يا سيدي، مل إليَّ، لا تخف، فمال إليها إلى الخيمة وغطته باللحاف" [١٨].

كلمة "ياعيل" تعني (وعل) أي نوع من الماعز الجبلي، فياعيل كما قلنا تمثل كنيسة الأمم، كانت قبلاً جبلية تسكن القفار، هي وزوجها في تحالف مع سيسرا (إبليس). الآن إذ انطلق سيسرا إلى خيمتها دون خيمة زوجها لإدراكه أنه لا يستطيع أحد أن يدخل هذه الخيمة إن أنكرت وجود أحد في ضيافتها لكونها امرأة. والعجيب أنه وجدها خارجة لاستقباله بكلمات تبدو لطيفة للغاية، وإن كانت قد خدعته بالكذب وقتلته الأمر الذي يتنافى مع واجبات الضيافة.

لعل ياعيل فعلت هذا ليس من ذاتها وإنما خلال إعلان بطريقة أو بأخرى لأن سيسرا حليف رجلها، وكانت في هذا تمثل الكنيسة التي خرجت من خيمتها القديمة أو إنسانها القديم لكي تبدو كمن يستقبل سيسرا فتقتل إبليس من حياتها وتصير خيمتها قبرًا للعدو ومقدسًا للرب.

بمعنى آخر إن كانت الخيمة تمثل الجسد الذي إستضاف بشهواته إبليس، فخلال النعمة الإلهية يعلن الإنسان جحده لعدو الخير وكل أعماله فيتقدس الجسد القاتل للشهوات والحامل لروح الرب فيه.

طلب سيسرا قليلاً من الماء حتى يبدو أنه لا يطمع في شيء ويكفي استضافتها له وإنقاذها حياته فأعطته لبنًا من الوطب وهو غالبًا من الجلد يوضع فيه اللبن فيختمر.. وكأنها قد أسكرته حتى يغط مع التعب الشديد والإرهاق في نعاس ثقيل فتحقق خطتها. ما هو هذا اللبن إلاّ تعاليم الإيمان التي تروي نفس المؤمن وتسكرها بحب الله، لكنه يكون قاتلاً لإبليس ومهلكًا له.

في القديم مال إبليس إلى حواء يتسلل إليها خلال الحية ويخدعها بثمر التفاح ليدخل خيمتها فيقتلها مع رجلها ونسلهما إلى الأبد، والآن حواء (ياعيل) تخرج إليه لتبدو كمن تستضيفه وتقدم له طعامًا لتقتله فتنقذ الكل منه، فلا يكون له بعد موضع في خيمتها أو خيمة رجلها أو خيام نسلهما من بعدهما.

ليمت سيسرا بيد امرأة بالميتدة (الوتد) الخشبي الذي في يدها حيث قارت إليه (تمشت نحوه على أطراف إصابعها)، لتضربه بالوتد في صدغه لينفذ في الأرض وهو مثقل نومًا فيموت [١١].

بمعنى آخر لتمت شهوات إبليس فينا بيد الكنيسة عروس المسيح الحاملة للصليب (الوتد)، في خفة وبسرعة تضرب إبليس في رأسه أي في بداية أفكاره وهو بعد مثقل نومًا قبل أن يدخل بأفكاره إلى الأعماق لتصحو وتملك. لنضرب بالصليب في صدغه أي نرفض أفكاره ونصلبها فتتنقى أعماقنا لحساب الرب.

line
المراجع:
[47] On Ps. 83.
[48] Conc. Widows 8 (44).
[49] Ibid. 51.
[50] Comm. on Can’t, Ser. 9
[51] Strong Hebrew & Chadec Dict., articles 3940, 3941.
[52] الإنجيل بحسب متى ص ١١٥.
[53] Conc. Widows 8 (45).
[54] Ibid.
[55] Ibid. 8 (46).
[56] Ibid. 8 (47).
[57] Ibid. 8 (48).
[58] Ibid. 8 (59).