Our App on Google Play Twitter Home أبحث

تفسير الاصحاح التاسع من سفر يشوع للقمص تادري يعقوب ملطى

حيلة بني جبعون


إذ ملك القسم الأوسط (أريحا وعاي) بدأ الزحف تجاه الجنوب (ص 9، 10)، لكن أهل جبعون إذ يقطنون جنوب غرب أريحا اسرعوا بتدبير حيلة لإقامة عهد مع يشوع ورجاله حتى لا يهلكوا، فسقط يشوع ورجاله معه فى شباك الحيله:

1. هياج الأمم عليهم [1-2].
2. حيلة بني جبعون [3-13].
3. انخداع يشوع ورجاله [14-20].
4. إذلال بني جبعون [21-27].

line

1. هياج الأمم عليهم


"ولما سمع جميع الملوك الذين فى عبر الأردن فى الجبل وفى السهل وفى كل ساحل البحر الكبير إلى جهة لبنان الحثيون والأموريون والكنعانيون والفرزيون والحويون اليبوسيون، إجتمعوا معًا لمحاربة يشوع وإسرائيل بصوت واحد" [1-2].

عبور نهر الأردن لم يكون خاتمة الجهاد بل بدايته، فإذ سمع الأمم الساكنون بكنعان هاجوا معًا وإجتمعوا لمحاربه يشوع وإسرائيل بصوت واحد، وكان هذا الهياج يزداد كلما دخل يشوع والشعب فى نصرة جديدة. هكذا أيها الحبيب دخولنا المعمودية إنما هو تمتع بامكانيات الله التى صارت لنا لا لنفخر بها ونتباحث فيها وإنما لنستخدمها فى جهادنا الروحى، ومع كل نصرة روحيه نتوقع حربًا أشد وضيقات أكثر. حينما وجد يسوع رب المجد ليملك خلال أعضاء جسده يهيج عدو الخير وكل ملائكته الأشرار!

لقد سمع الملوك بعبورهم الأردن وإستيلائهم على أريحا وعاى فاجتمع الكل معًا لمحاربة يشوع وإسرائيل.. أى يسوع ومملكته. وقد حدد الوحى مواضع الملوك أنهم فى الجبل وفى السهل وفى كل ساحل البحر الكبير إلى جهة لبنان.

 هذه كلها تكشف عن مقدار هياج الشياطين كملوك وقوات ظلمة ضد رب المجد يسوع ومؤمنيه، بعضها يقطن فى الجبال العاليه والمتشامخة حيث تبث روح العظمه الباطلة والكبرياء الفارغ فى الانسان، والأخرى تقطن فى السهول حيث النفوس التى إنحلت باليأس وتحطمت بصغر النفس، وجماعه ثالثه تقطن عند ساحل البحر الكبير حيث تدفع النفوس إلى بحر هذا العالم لكى تربكه بأمواجه وقلاقله، أما القلطنه فى لبنان فتُشير إلى روح الترف والتدليل حيث تفقد النفس جديتها فى الخلاص.

 على أى الأحوال تجتمع هذه جميعها معًا ضد النفس المجاهدة، لكى تتقدم بالحرب حسب ظروف كل إنسان وإمكانياته، فقد تبدأ الحرب بالكبرياء إن كان الإنسان متدينًا وله تاريخ طويل فى عبادته أو خدمته، وقد تبدأ باليأس إن رأته فى رعب من الخطية إلخ.. الكل ليحارب يشوعنا الداخلى ويحطم كل مواهبنا وقدراتنا بالفساد.

لكن ما يجب علينا ملاحظته في سفر يشوع هو أنه ليس فقط تشتد الهجمات بعد عبور المعمودية ونوال نصرات متوالية، إنما كان يشوع ورجاله هم المتحفزين ضد الشر والمقاومين له. فالمسيحي إذ يدرك أن قلبه أرض الموعد الذي يجب أن يملك يشوع الحقيقي عليه لذا لا يكف عن مقاومة كل شر حتى لا يكون له موضع فيه.

 في هذا يقول الأسقف قيصريوس: [قبل أن يخطئ أدم كان جسدنا ونفسنا كلاهما أرض الموعد، لكن بعد الخطية صارت أرض الكنعانيين. ما كان مسكنًا للفضائل صار مغارة للصوص فإذ طُردت الفضائل إلى الخارج ملكت الرذائل فينا.

على أي الأحوال، بمجيء ربنا يسوع المسيح يلزمنا أن نسرع ونستعين به لطرد الأمم المقاومة. فإن لم ينزع الغضب لا نعطي مكانًا للصبر، وبالمثل ما لم نستبعد الكبرياء والطمع والحسد والخلاعة عنا، أي عن أرض الموعد، لا نقدر أن نعد مكانًا فينا للفضائل المقدسة.

أن لم تنزع بمعونة الله الرذائل من داخلك، أى من أرضك التى تقدست بنعمة المعمودية لا يمكنك قبول كمال الميراث الموعود به. حقًا توجد فى داخلنا عروش الرذائل تهاجم النفس على الدوام بلا توقف، الكنعانيون الروحيون فى داخلنا يشنون حربًا يومية ضدنا. وإذ يعرف الرسول هذا يقول: "الجسد يشتهى ضد الروح، والروح ضد الجسد" (غلا 5: 17). لهذا يلزمنا أيها الأحباء أن نتأمل كيف نعمل ونسهر ونثابر فى الأعمال الصالحة حتى نقتلع كل الأمم الرذ يلة عنا، من ارضنا، فنتحرر من الحرب[151]].

line

2. حيلة بني جبعون


شعر بنو جبعون بالخطر يحدق بهم فقد اقترب يشوع وشعب الله إليهم، وسمعوا بكل ما فعله الله معهم لذلك دبروا حيلة إذ "عملوا بغدر ومضوا وداروا وأخذوا جوالق بالية لحميرهم وزقاق خمر بالية مشققة ومربوطة ونعالاً بالية ومرقعة في أرجلهم وثيابًا رثة عليهم وكل خبز زادهم يابس قد صار فتاتًا، وساروا إلى يشوع إلى المحلة في الجلجال وقالوا له ولرجال إسرائيل: من أرض بعيدة جئنا، والآن اقطعوا لنا عهدًا.. هوذا خبزنا سخنًا تزودناه من بيوتنا يوم خروجنا لكي نسير إليكم وها هو الآن يابس قد صار فتاتًا، وهذه زقاق الخمر التي ملأناها جديدة هوذا قد تشققت، وهذه ثيابنا ونعالنا قد بليت من طول الطريق جدًا" [4-13].

لقد أدركوا بنو جبعون ما أدركته راحاب الزانية، وأراد الكل الخلاص إذ رأوا يدّ الله القوية تعمل لحساب شعبه، أما بنو جبعون لم يبلغوا لما بلغته راحاب، وإن كانوا قد إرتفعوا عن بقية الأمم المحيطة بهم. لقد إستطاعت راحاب بالإيمان ليس فقط أن تخلص هي وأهل بيتها من الموت وإنما أن تدخل إلى العضوية الكنسية، لتمثل كنيسة العهد الجديد القادمة من الأمم كعروس مقدسة وبتول للرب.

 لقد صار لها الشرف العظيم أن يُسجل إسمها في سلسلة نسب السيد الأمر الذي لم ينعم به كثير من المؤمنات العظيمات، وحسبها الرسول بين رجال ونساء الإيمان (عب 11: 31). أما بنو جبعون فبالخوف مع المكر خلصوا من الموت، لكنهم دخلوا وسط الشعب كعبيد يحتطبون حطبًا ويسقون ماءً لكل الجماعة ولبيت الله (يش 9: 21، 23).

حقًا إنهم لم يبادوا كبقية الأمم لكنهم لم يقدروا أن يرتفعوا إلى مجد راحاب. هم سلكوا بروح الخوف والمكر، أما هي فبروح الإيمان والحب. هم التصقوا بكل ما هو قديم وبالٍ من خبز يابس ونقاق خمر بالية مشققة ومربوطة ونعال بالية ومرقعة وثياب رثة، أما هي فالتصقت بالجاسوسين وإرتفع قلبها معهما إلى فوق السطح بين عيدان الكتان (النقاوة) وأوصتهما أن يسيرا على الجبال وليس في الوديان المنحطة. وكأن بني جبعون حتى في التصاقهم بشعب الله كانوا مرتبطين بأمور العالم البالية، أما راحاب فارتفع قلبها إلى السماويات إلى الحياة العلوية النقية.

 بمعنى آخر صار بنو جبعون مثالاً للإنسان الذي يعبد الله خوفًا لئلا يفقد البركات الزمنية ويعيش في ضياع أما راحاب فتمثل الإنسان الذي يلقي شهوات جسده القديمة تحت قدميه، خالعًا إنسانه القديم بكل أعماله طلبًا للمجد الأبدي، وإشتياقًا للتشبه بالله نفسه، لقد استخدم بنو جبعون المكر على أولاد الله لينعموا بالحياة الزمنية الأمر الذي افقدهم الكثير من البركات، أما راحاب فإنها وإن كانت قد سلكت بالكذب مع رسل ملك أريحا وبمكر. الأمر الغير مستحب لكنها كانت صريحة وواضحة في تعاملها مع أولاد الله.

يرى العلامة أوريجانوس أن بني جبعون يمثلون أدنى درجات الإيمان وأقل المتمتعين بالمجد، إذ يعلق على هذا الأصحاح هكذا: ["في بيت أبي منازل كثيرة" (يو 14: 2). ففي قيامة الأموات تكون الأجساد الممجدة مختلفة فيما بينها، فإنه "ليس كل جسد جسدًا واحدًا، بل للناس جسد واحد، وللبهائم جسد آخر، وللسمك آخر، وللطير آخر وأجسام سموية وأجسام أرضية، لكن مجد السمويات شيء ومجد الأرضيات آخر.

مجد الشمس شيء ومجد القمر آخر ومجد النجوم آخر" (1 كو 15: 39-41). كم من تشبيهات أخرى مختلفة قدمت لأظهار وجود إختلاف فيما بين الذين يحصلون على الخلاص! ففي اعتقادي أن هؤلاء الجبعونيين يمثلون الذين ينالون القليل من مجد الخلاص، الأمر الذي لا ينزع اللوم والمذمة عنهم. أنظر كيف حُكم عليهم أن يصيروا محتطبي حطبًا ومستقي ماء للجماعة ولبيت الرب، لأنهم صنعوا خدعة، جاءوا بنعال بالية ومرقعة في أرجلهم وثياب رثة وكان خبز زادهم يابسًا قد صار فتاتًا، جاءوا ليروا يشوع.. ولم يطلبوا منهم سوى الخلاص الجسدي[152]].

 ويكمل العلامة أوريجانوس تعليقه موضحًا أن بني جبعون يشيرون إلى المؤمنين بالله وأعماله الخلاصية لكنهم لا يترجمون هذا الإيمان إلى حياة عملية يعيشونها إذ يقول: [يوجد في الكنيسة مسيحيون مؤمنون حقيقيون، يؤمنون بالله ولا يناقشون وصاياه ويتممون واجباتهم الدينية ويشتهون الخدمة، لكنهم في سلوكهم وحياتهم الخاصة ليسوا أنقياء بل دنسين؛ لم يخلعوا الإنسان العتيق مع أعماله (كو 3: 9). إنهم كالجبعونيين الذي يرتدون ثيابهم القديمة ونعالهم البالية.

إنهم يؤمنون بالله ويظهرون احترامًا نحو خدام الرب والكنيسة، لكنه لا توجد فيهم أي علامة للإصلاح أو التجديد الداخلي في سلوكهم. هؤلاء يريدون من الرب يسوع أن يهبهم الخلاص، لكن هذ الخلاص لا يجنبهم علامات العار الذي يقع عليهم. في الكتاب المسمى بالراعي[153] نجد صورة مشابهة لهذه الفئة من الشعب، فهو يتحدث عن الشجرة التي لا تنتج ثمارًا لكنها تحمل الكرمة التي تأتي بعنب كثير.

 فالشجرة مجدية، لكن يبدوا أن دورها هام ونافع إذ تخدم الكرمة! هكذا في قصة الجبعونيين، نجدهم لا يخلعون الإنسان العتيق بكل أعماله ومع هذا فهم يقومون بخدمة القديسين (احتطاب الحطب واستقائهم ماءً)، مما يجعل لهم أهمية. بهذا يتقبلون الخلاص من يشوع حسب العهد الذي قطعه معهم. أما نحن فلا نريد أن نتقبل الخلاص هكذا على مثال الحبعونيين. ولا نريد أن نكون من محتطبي الحطب أو مستقي الماء، بل نكون إسرائليين بحق. ننعم بالميراث، ويكون لنا نصيبًا في أرض الموعد[154]].

line

3. انخداع رجال يشوع


"فأخذ الرجال من زادهم، ومن فم الرب لم يسألوا. فعمل يشوع لهم صُلحًا، وقطع لهم عهدًا لإستحيائهم، وحلف لهم رؤساء الجماعة. وفي نهاية ثلاثة أيام.. سمعوا أنهم قريبون إليهم وأنهم ساكنون في وسطهم" [14-16].

للمرة الثانية يسقط يشوع ورجاله في ذات الخطأ وهو التصرف دون طلب مشورة الله. حقًا لقد شك الإسرائيليون في أمر بني جبعون، وكان يمكنهم أن يستشيروا الله، لكنهم اكتفوا باستخدام الحكمة البشرية، إذ دخلوا معهم في حوار، قائلين لهم: لعلك ساكن في وسطي وكيف أقطع لك عهدًا؟!" [7].. وجاءتهم الإجابة من أفواه البشر، لكنهم "من فم الرب لم يسألوا" [14]. اعتمدوا على الفكر البشري دون الالتجاء الله فانخدعوا!

في الموقعة الأولى، إذ دخلوا في لقاء مع أريحا إِستطاعوا بالإيمان والطاعة لله أن يحطموا حصونها الضخمة، وفي الموقعة الثانية إذ إِلتقوا بعاي أستهانوا بها كقرية صغيرة غير محصنة وقليلة العدد، وباتكالهم على ذراعهم البشري سقطوا وإِنهاروا حتى تقدسوا وأطاعوا الله فغلبوها.

 أما هنا ففي "موقعة الخداع" حيث يتظاهر العدو كصديق يطلب الدخول في عهد، أمام هذه الحيلة سقط الجبابرة غالبوا أريحا وعاي. لهذا يقول الرسول بولس: "ولكني أخاف أنه كما خدعت الحية حواء بمكرها، هكذا تفسد أذهانكم عن البساطة التي في المسيح" (2 كو 11: 3). ويقول القديس يوحنا: "لا تصدقوا كل روح، بل إِمتحنوا الأرواح هل هي من الله، لأن أنبياء كذبة كثيرون قد خرحوا إلى هذا العالم" (1 يو 4: 1).

كثيرًا ما تحدث آباء الكنيسة عن خداعات العدو ومكره حتى نحذره؛ تارة يظهر عنيفًا وقويًا وصاحب سلطان ومحاط بأسوار ضخمة كأريحا حتى يرهبنا فنيأس، وتارة يتصاغر جدًا في أعيننا لكي نستهين به كعاي ولا نستعد روحيًا لملاقاته، وثالثة يبدو كصديق أو حتى كملاك نور لكي يخدعنا وندخل معه في عهود كما فعل بني جبعون. يقول القديس أُغسطينوس: [لا تظن الشطان قد فقد شراسته، ولهذا فحين يُمالقك يجب أن تزيد خشيتك منه[155]].

 كما يقول: [هوذا المجرب يأتيني في شكل ملاك نور، لكنه باطلاً يحاول أن يخدعني لأنك أنت توبخه، إذ تهبني قدرة على ادراك ضياء نور إلهي[156]]. وأيضًا يقول: [أنه عدو ماكر ومخادع، بدون نورك لا يمكننا ادراك طرقه الملتوية، ولا معرفة أشكال وجهه المتعدده، تارة نراه هنا وتارة هناك تارة يظهر كحمل وأخرى كذئب، تارة يظهر كنور وأخرى كظلام، يعرف كيف يتغير ويغير خططه مع تغير ظروف الإنسان وأوقاته وأماكنه.

 فلكي يخدع المتعبين يحزن معهم، ولكي يجتذب القلوب يلوث أجواء فرحهم، ولكي يقتل الحارين في الروح يظهر لهم في شكل حمل، ولكي يفترس ذوي الحياء يتحول إلى ذئب.. من يقدر أن يميز طرق مكره المختلفة؟! من يقدر أن يكتشف دائمًا ذاك المتنكر خفية؟! من ذا الذي أحصى عدد أنيابه المرعبة؟! سهامه يخفيها في جبعته، وحيله يخبئها إلى اللحظة المناسبة للسقوط. إلهي، يا من أنت هو رجائي، بدون نورك الذي نعاين به كل شيء علينا اكتشاف مناورات الشيطان وحيله! [157]].

لقد أخطأ يشوع أذ صدقهم وحلف لهم، لهذا يحدثنا القديس يوحنا الذهبي الفم من إستخدام القسم، قائلاً: [حقًا كان هذا القسم فخًا من الشيطان!.. ليتنا نفلت من كل شرك ومن كل فخ شيطاني[158]].

ومع أن القديس أمبروسيوس انتقد يشوع لتصديقه الرجال بسرعة دون استشارة الله، لكنه رأى في تصرفه علامة طيبة قلبه، إذ حكم عليه حسب قلبه البسيط. إنه يقول: [من يقدر أن يجد خطأ في القديسين في هذا الأمر؟ إنهم يظنون أن الآخرين يحملون ذات المشاعر التي لهم، ويفترضون أن ليس فيهم من يكذب، ذلك لأن الصديق هو في صحبتهم على الدوام. لا يعرفون ما هو الخداع، وبفرح يصدقون الغير، لأنهم هم أنفسهم صادقون. لا يتسرب الشك إليهم في الآخرين فيما هم ليسوا عليه.. ليتنا لا نلوم فيه سرعة تصديقه بل بالحري نمدح صلاحه[159]].

إِكتشف يشوع ورجاله حيلة بني جبعون بعد ثلاثة أيام، وأدركوا أنهم قريبون منم جدًا وأنه ساكنون في وسطهم. نعود إلى سرّ الأيام الثلاثة التي كثيرًا ما تحدثنا عنه في هذا السفر كما في الأسفار السابقة، فخلال إيماننا بالثالوث القدوس تنفضح حيل إبليس وخداعاته.

عندما نقبل الله كأب لنا ندخل إلى أحضانه الأبوية بثبوتنا في إبنه الوحيد كأعضاء جسده المقدس، خلال عمل روحه القدوس فينا بالمعمودية كما في التوبة إلخ.. لا يقدر العدو أن يخدعنا ولا أن يحسب قلبنا من أبينا السماوي. إيماننا العملي الحّي، وتمتعنا بسرّ الثالوث لا كفكر فلسفي أو عقيدة ذهنية وإنما كسرّ شركتنا معه يحمينا من كل هجمات شيطانية. والأيام الثلاثة أيضًا تُشير إلى سرّ قيامتنا مع المسيح حيث نُدفن معه أيضًا ثلاثة أيام لنقوم معه. فالإنسان الذي له الحياة المقامة في الرب وينعم ببهجتها يحيا دومًا فوق كل حيل العدو وخداعاته!

إذن لنهرب من خداعات بني جبعون بقبولنا الثالوث القدوس كسرّ حياة لنا، وتمتعنا بالحياة المقامة في المسيح يسوع ربنا القائم من الأموات.

line

4. إذلال بني جبعون


إذ قطع إسرائيل عهدًا مع بني جبعون، قال الرؤساء لكل الجماعة: "إننا قد حلفنا لهم بالرب إله إسرائيل، والآن لن نتمكن من مسهم..، يحيون ويكونون محتطبي حطبًا ومستقي ماء لكل الجماعة" لقد استدعى يشوع رجال بني جبعون، وقال: "لماذا خدعتمونا..؟! فالآن ملعونون أنتم، فلا ينقطع منكم العبيد ومحتطبوا الحطب ومستقوا الماء لبيت إلهي" [19-23].

لقد اضطر يشوع أن يستحييهم كما سبق فإستحيا راحاب وأهل بيتها، لكن كلّ أخذ قدر إيمانه، هؤلاء بقوا كعبيد: "ملعونو أنتم فلا ينقطع منكم العبيد" لأنهم جاءوا إليهم عن خوف، أما هي فبقت كعضوة من إسرائيل الجديد إذ قبلت رسالته بالحب، حقًا لقد صار من جبعون من يستقون الماء لبيت الله، فنالوا كرامة عوض الموت، وإنطبق عليهم القول: "عوضًا من الشوك ينبت سروٌ، عوضًا عن القريِس يطلع آسُ، ويكون للرب إسمًا علامة أبدية لا تنقطع" (إش 55: 13).

أخيرًا يحذرنا العلامة أوريجانوس من الدخول إلى الإيمان على مستوى بني جبعون فنحيا كعبيد نحتطب حطبًا ونستقي الماء عوض أن نكون على مستوى الأبناء لله، العاملين إرادته، والسالكين بروحه متشبهين به.

 يقول: [لو كان إيمان واحد من الشعب محدودًا بحضوره الكنيسة والإنحناء أمام الكاهن وتكريم خدّام الرب والاشتراك في تجميل الهيكل والكنيسة دون أن يصنع شيئًا لاصلاح سلوكه، وتصحيح عاداته، فيدفن الشر، ويمارس الحياة الطاهرة، ويضبط غضبه وطمعه واشتهاء ما لغيره ويبتعد عن النميمة والسب والإدانة الهدامة، فإن مثل هذا ينسبه الرب إلى بني جبعون.. إنني أتوسل إليكم كسفراء عن المسيح (2 كو 5: 20) أنه مادام يوجد وقت وإمكانية للتصحيح فلتجاهدوا ولتسرعوا بإلقاء الثياب البالية والنجاسات التي لا تليق بحرية الإسرائيليين (الجدد).

 أتريد أن تعرف عظمة هذه الحرية؟ حسب الشريعة لا يمكن لخادم عبراني أصبح عبدًا أن يبقى هكذا في العبودية أكثر من ست سنوات، ففي السنة السابعة تأمر الشريعة برده إلى الحرية (خر 21: 2)، إذ تهتم الشريعة بالحرية.

فلو أخذنا هذا النص بمعناه الروحي نجد أن الخادم العبراني إنما هو أنت، إذ سقطت في العبودية التي قال عنها الكتاب: "من يفعل الخطية فهو عبد للخطية" (يو 8: 34) هذه العبودية لا تسقط تحتها النفس العذراء الكاملة، إنما يسقط فيها النفس المتراخية الطفلة، فإن كنت أنت هو الخادم العبراني الذي نلت المعمودية في الكنيسة ثم عدت فسقطت كعبد للخطية فإن رقم 7 يشير إلى الوصايا (الإنجيلية)، فيليق بك أن تسترد الحرية سريعًا في سبع سنوات، أي خلال الوصايا، ولا تكن بعد عبدًا. إن كان رقم 7 يشير إلى الوصايا فإن رقم 6 يشير إلى تكوين العالم (تك 1: 31)، فمادمت تشتهي ما على الأرض (كو 3: 2)، وتهتم بما للجسد "العالم" (رو 8: 5)، فإنك حتمًا تعيش عبدًا للخطية.

 أما إذ بلغت رقم 7، فإنك تطلب حريتك وترجع إلى شرف أبيك.. إني أسألك: إن كنت ابنًا لعائلة من طبقة عالية فهل تريد أن تكون عبدًا لهذا العالم؟ بلا شك تقول: لا.. فإن كان لا يوجد في هذه الحياة من يريد أن يبقى عبدًا بل الكل يشتهي الحرية والغنى والشرف، ليس فقط لنفسه بل للآخرين.. لذلك يجب علينا كما قال القديس يوحنا أن نعمل أعمال أبينا الذي أرسلنا مادام نهار (يو 9: 4)، حتى نكون أهلاً لروح التبني (رو 8: 15)، ويكون لنا موضعًا مع أولاد الله، لكي يتمجد الله في كل شيء بيسوع المسيح الذي له المجد والسلطان إلى أبد الأبد آمين (1 بط 4: 11)[160]].

line
المراجع:
[151] Sermon 116 A:1.
[152] In Jos. Hom 1:10.
[153] للأب هرماس (من رجال القرن الثاني).
[154] In Jos. Hom 10:1.
[155] خواطر فيلسوف في الحياة الروحية، ص 234.
[156] مناجاة 16.
[157] مناجاة 17.
[158] In Acts hom. 13.
[159] Duties of Clergy 3:10.
[160] In Jos. Hom. 10: 3.