Our App on Google Play Twitter Home أبحث

تفسير الاصحاح الثامن عشر من سفر ملوك الأول للقمص تادري يعقوب ملطى

نار من السماء!


في الأصحاح السابق التزم إيليَّا بالهروب والعمل الخفي. عند نهر كريث عالته الغربان، وعند صِرْفِة صيْدا عاش في العُلِّيَّة ولم يسمع أحد عن وجوده ولا عن بركة الزيت والدقيق ولا عن إقامة ابن الأرملة. الآن حلَّ الموعد ليشهد لله بنارٍ سماويَّة علانيَّة، فصدر له الأمر الإلهي أن يتراءى لآخاب الملك.

1. دعوة إلهيَّة للظهور أمام آخاب [1-2].
2. لقاء إيليَّا مع عوبديا [ 3-16].
3. لقاء إيليَّا مع آخاب [17-18].
4. لقاء إيليَّا مع الشعب [19-24].
5. لقاء إيليَّا مع كهنة البعل [25-26].
6. لقاء مع الله الناري [30-39].
7. قتل كهنة البعل [40].
8. طلبة إيليَّا الخاصَّة بالمطر [41-46].

line

1. دعوة إلهيَّة للظهور أمام آخاب :

أعطى الله آخاب فرصة للرجوع بحلول الجفاف لمدَّة ثلاث سنوات ونصف، ومع هذا لم يرجع إلى نفسه ولا فكَّر في التوبة، بل ازداد عنفًا واتَّهم إيليَّا أنَّه مُكدِّر إسرائيل. لم يكن أمام هذا القلب الحجري المتصلِّف إلاَّ المواجهة بحكمٍ إلهيٍ صارم،ٍ حيث يعلن الله حضرته أمام كل الشعب بنارٍ تلتهم الذبيحة، فيرجع الشعب إلى الله، ويُقتل كهنة البعل، كظلّ للهلاك الأبدي الذي يحلّ بالنفوس المرتدَّة عن الإيمان والمتصلِّفة. لهذا أمر الرب إيليَّا النبي أن يتراءى أمام آخاب.

"وبعد أيَّام كثيرة كان كلام الرب إلى إيليَّا في السنة الثالثة قائلاً:
اذهب وتراءَ لآخاب،
فأعطي مطرًا على وجه الأرض" [1].

"في السنة الثالثة": لا تعني منذ بدء انقطاع المطر، وإنَّما منذ لقائه مع أرملة صِرْفِة صيْدا. وقد جاء في (لو 4: 25، يع 5: 17) أن المطر قد انقطع في أيَّام إيليَّا لمدَّة ثلاث سنوات ونصف. هذا معناه أن قضى سنتين في بيت الأرملة، وتراءى لآخاب في بدء السنة الثالثة. قضى إيليَّا النبي سنة عند نهر كريث وسنتين ونصف في صِرْفِة صيْدا.

جاءت الدعوى بالظهور لكي يقدِّم الله لآخاب فرصة أخرى للتوبة ليس خلال الكلمات بل خلال التأديب المُرّ، بهياج الشعب ضدّ عبادة البعل وقتل كهنة البعل، مع تقديم لمسة رجاء قويَّة حيث يعطي الرب مطرًا على وجه الأرض.

"فذهب إيليَّا ليتراءى لآخاب،
وكان الجوع شديدًا في السامرة" [2].

إذ صدر لإيليَّا النبي الأمر ترك الموقع في الحال وذهب ليلتقي بآخاب، دون أن يناقش الله ليطمئن على سلامته من هذا الملك المرتدّ وزوجته سافكة دماء الأنبياء. ذهب فشاهد النبي بعينيه مدى المجاعة التي حلَّت بإسرائيل، حيث لم ينزل مطر طوال الثلاث سنوات ونصف التي غاب فيها عن الشعب.

line

2. لقاء إيليَّا مع عوبديا :


"فدعا آخاب عوبديا الذي على البيت،
وكان عوبديا يخشى الرب جدًا" [3].

لاحظ إيليَّا ما حلّ بالشعب من مجاعة ماديَّة بسبب الجفاف [2] وهي تكشف عن مجاعة أخطر لحقت بقلوبهم ونفوسهم حيث تركوا عبادة الله وعبدوا البعل، أمَّا خلال إغراء الخطيَّة والرجاسات أو بخداعهم بأنَّه إله المطر والخصوبة، أو خشية قتلهم مع أنبياء الله.

بينما كان الشعب في جوعٍ شديدٍ، غالبًا ما استورد الملك الغلال من مصر له وللقصر الملكي، فصار ما يشغله لا حياة شعبه بل حياة حيواناته من خيلٍ وبغالٍ. طلب من المسئول عنها عوبديا أن يشترك معه في البحث عن ماء في عيون الماء أو الأوديَّة. كانت حيواناته في عينيه أهم من شعبه، يطلب ما لذَّاته لا ما لاخوته المسئول عنهم.

هذا عن موقف الملك، أمَّا الملكة فكان كل ما يشغلها حتى في فترة المجاعة أن تبيد أنبياء الرب [13].

أما الكهنة واللآويُّون فهربوا (2 أي 11: 13-14) إلى يهوذا ليخدموا الهيكل هناك. وربَّما انحرف البعض فأغوتهم إيزابل أن يخدموا البعل وينالوا أجرة عظيمة.

أما أنبياء الرب فغالبًا ما كانوا يشهدون للحق على المستوى الفردي أو بين العائلات، يطلبون الرجوع إلى الله. لم يكن يوجد لهم موضع لاجتماعات عامة ولا لتقديم ذبائح، وإنَّما كانوا يكتفون بالعمل الخفي. شعرت بهم الملكة فسلَّطت سيفها عليهم لتقتلهم [13].

وسط هذا الجو الكئيب: طبيعة غاضبة، ملك أناني، ملكة شرِّيرة عابدة أوثان وسافكة دماء الأنبياء، وشعب مرتدّ، وكهنة ولآويُّون هاربون، وأنبياء لا حول لهم ولا قوَّة للعمل العلني، وُجدت قلَّة قليلة جدًا حتى في القصر الملكي أمينة للرب. من بين هذه القلَّة وُجد عوبديا الذي اخفي مائة نبي للرب وكان يعولهم بخبز وماء [13]. كان عوبديا وكيلاً للملك على بيته [3] يخاف الرب.

لا نعجب من أن يقيم آخاب الشرِّير هذا التقي وكيلاً له، يثق فيه ويأتمنه على قصره ومملكته. ففي كل جيل يوجد أناس أمناء خائفو الرب يستخدمهم الله حتى في وسط الجو الحالك الظلمة. لم يجد بعض ملوك بابل من يقيمونه وكيلاً على كل الإمبراطوريَّة مثل دانيال المسبي، ولا وجد فرعون من يأتمنه على قصره مثل يوسف، ولا آخاب وجد من هو مثل عوبديا.

بلا شك كانت نفس عوبديا تتمرَّر كل يوم وهو يرى ما تفعله إيزابل بأنبياء الرب، وما تخطِّطه لجذب كل الشعب نحو العبادة الوثنيَّة. لم ينسحب عوبديا من القصر، ولا هرب من مركزه كوكيل على القصر الملكي، لكنَّه بقي فيه مؤمنًا بأن له رسالة إلهيَّة يلتزم بها.

لم يطلب الرب منَّا أن ننسحب من العالم الشرِّير. ففي صلاته الوداعيَّة يتحدَّث السيِّد المسيح مع أبيه قائلاً: "لست أسأل أن تأخذهم من العالم بل أن تحفظهم من الشرِّير" (يو 15: 17).

+ لا تزال توجد ضرورة أن يكونوا في العالم وإن كانوا لم يعودوا بعد منتمين إليه. فإنَّه يكرِّر العبارة قائلاً: "لأنَّهم ليسوا من العالم، كما إنِّي أنا لست من العالم" (يو 17: 14)[1].

القدِّيس أغسطينوس لم يتحدَّث عوبديا مع الملك والملكة عن مخافة الرب، لكنَّه تحدَّث معهم بأمانته وسلوكه الروحي الحيّ. لم يغيِّر قلب الملك ولا فكَّر الملكة، لكنَّه قام برسالة هامة بحفظه وإعالته مائة نبي للرب، وأن يكون وسيطًا للقاء إيليَّا مع الملك.

اسم "عوبديا" معناه "عبد يهوه" أو "عبد الرب" وبالعربيَّة "عبد الله". لم يغيِّر الملك اسمه لكي ينسبه للبعل عوض انتسابه ليهوه، كما غيَّر ملك بابل أسماء دانيال وزملائه الثلاثة فتية. يبدو أن آخاب وهو خاضع لمشورة زوجته ويسلك في طريقها كان يشعر في داخله بالخطأ، فلم يلزم وكيله أن يشاركه في عبادة البعل، ولم يتحدَّث مع إيزابل في هذا الأمر حتى لا يعرِّض وكيله للقتل. ولعلََّ الملك شعر بحاجته إلى مشيرٍ أمينٍ يسنده، إذ لم يكن مستريحًا تمامًا لتصرُّفات زوجته المتسلِّطة عليه وعلى المملكة.

"وكان حينما قطعت إيزابل أنبياء الرب أن عوبديا أخذ مائة نبي،
وخبَّأهم خمسين رجلاً في مغارة، وعالهم بخبز وماء" [4].
لماذا قطعت إيزابل أنبياء الرب وقتلتهم؟

أولاً: لأنَّها أرادت أن تسدّ كل فم ينطق بالحق الإلهي.

ثانيًا: شعرت بعجز آلهتها عن إرسال مطر للأرض، بينما حمل إيليَّا نبيّ الرب سلطانًا على المطر، فأرادت أن تغطِّي هذا الضعف بالسلطان والعنف، تقتل الأنبياء كصاحبة سلطان.

ثالثًا: أرادت التشهير بهم بأنَّهم هم سبب الجفاف، فيلزم قتلهم حتى ترضي الآلهة على الأرض وتنزل المطر.

وأخيرًا فلت إيليَّا من يدها فانتقمت منه في هؤلاء الأنبياء.

غالبًا ما كان هؤلاء الأنبياء يتتلمذون في مدرسة الأنبياء، هؤلاء دُفنوا أحياء في مغارتين، لا يستطيعون الحديث مع أحد عن الله، فاستبقاهم الرب في المغارتين يصلُّون عن الشعب. ربَّما لم يجد كثير من الشعب خبزًا يأكلونه وماءً يشربونه بسبب المجاعة، لكن الله عال خائفيه هؤلاء خلال وكيل الملك نفسه عوبديا. وكما يقول المرتِّل: "ما أعظم جودك الذي ذخَّرته لخائفيك وفعلته للمتَّكلين عليك تجاه بني البشر" (مز 31: 19)؛ "هوذا عين الرب على خائفيه الراجين رحمته" (مز 33: 18)؛ "أعطى خائفيه طعامًا يذكر إلى الأبد عهده (مز 111: 5).

+ بماذا ينتفع الخائفون؟ إلاَّ أن الرب الحنون والرحيم يعطي "خائفيه طعامًا"؟ يعطيهم طعامًا لا يفسد "الخبز النازل من السماء" (يو 6: 27، 51)، الذي أعطاه ليس من أجل استحقاقنا. فإن المسيح مات لأجل الفُجّار (رو 5: 6). أنَّه لا يعطي أحد طعامًا كهذا إلاَّ الرب الحنَّان والرحوم[2].
القدِّيس أغسطينوس

"وقال آخاب لعوبديا:
اذهب في الأرض، إلى جميع عيون الماء والى جميع الأودية،
لعلَّنا نجد عشبًا،
فنحيي الخيل والبغال، ولا نعدم البهائم كلَّها.
فقسَّما بينهما الأرض ليعبرا بها،
فذهب آخاب في طريق واحد وحده،
وذهب عوبديا في طريق آخر وحده.
وفيما كان عوبديا في الطريق إذا بإيليَّا قد لقيه فعرفه وخرَّ على وجهه،
وقال: أأنت هو سيِّدي إيليَّا؟.
فقال له: أنا هو. اذهب وقل لسيِّدك هوذا إيليَّا" [5-8].

لم يحدث هذه اللقاء مصادفة بل بتدبيرٍ إلهيٍ. الله الذي أمر إيليَّا أن يذهب ويتراءى لآخاب، هو الذي بعث بعوبديا إلى إيليَّا ليتلقي معه. وقد كشف عن عينيه فعرفه وخرَّ على وجهه أمامه.

عوبديا الذي أظهر أبوَّة حانية لأنبياء الرب واهتمَّ بهم، الآن بروح البنوَّة الخاضعة يخرّ في تواضع أمام أبيه الروحي إيليَّا النبي.

دعاه عوبديا "سيِّدي إيليَّا" لكن إيليَّا لا يطلب ألقابًا وكرامة. قال له: "قل لسيِّدك هوذا إيليَّا" [8]. وكأنَّه يقول له: "لست اشتهي كرامة العالم فأُحسب سيِّدًا، لكن يوجد من يطلب هذه الكرامة "سيِّدك الملك".

"فقال: ما هي خطيَّتي حتى أنَّك تدفع عبدك ليد آخاب ليميتني؟" [9]

أراد عوبديا إعفاءه من هذه المهمَّة، فإنَّها تكلِّفه حياته كلَّها [12]، خاصة وأنَّه يعلم بأن روح الرب كان يخطف إيليَّا لينقله من موضع إلى آخر. كان عوبديا يدرك أن قلب الملك لم يتغيَّر وأنَّه غير مستعد للعودة لله الحيّ، لهذا حسب أنَّه غير أهلٍ للقاء مع إيليَّا النبي، وأن روح الرب يحمل الأخير لكي لا يلتقي مع هذا الملك الشرِّير، فينقله إلى دولة أخرى بعيدة.

ظنّ عوبديا أن الملك سيقتله لأنَّه لم يلقِ القبض على إيليَّا ويحضره إليه، خاصة وأنَّه يعلم مدى الجهود التي بذلها حتى مع الملوك المجاورين ليلتقي به.

"حيٌّ هو الرب إلهك،
إنَّه لا توجد أمَّة ولا مملكة لم يرسل سيِّدي إليها ليفتِّش عليك،
وكانوا يقولون أنَّه لا يوجد،
وكان يستحلف المملكة والأمة أنَّهم لم يجدوك" [10].

كان آخاب جادًا في البحث عن إيليَّا النبي ليس فقط داخل المملكة بل وفي الممالك المجاورة. كان يسأل الملوك ويستحلفهم أنَّهم لم يجدوه. كان كمن له سلطان على الأمم المجاورة. كان يطلبه لا ليقدِّم توبة ويرجع إلى الرب، وإنَّما ليضغط عليه حتى يسأل عن المطر فينزل وينتهي الجفاف.

"والآن أنت تقول اذهب قل لسيِّدك هوذا إيليَّا.
ويكون إذا انطلقت من عندك أن روح الرب يحملك إلى حيث لا اعلم،
فإذا أتيت وأخبرت آخاب ولم يجدك فإنَّه يقتلني.
وأنا عبدك أخشى الرب منذ صباي.
ألم يخبر سيِّدي بما فعلت حين قتلت إيزابل أنبياء الرب،
إذ خبَّأت من أنبياء الرب مائة رجل خمسين خمسين رجلاً في مغارة،
وعلتهم بخبز وماء؟.
وأنت الآن تقول اذهب قل لسيِّدك هوذا إيليَّا، فيقتلني.
فقال إيليَّا: حيٌّ هو رب الجنود الذي أنا واقف أمامه إنِّي اليوم أتراءى له.
فذهب عوبديا للقاء آخاب وأخبره،
فسار آخاب للقاء إيليَّا" [11-16].

أرسل آخاب عوبديا ليبحث له عن ماء، والآن قد عاد إليه ليخبره بأنَّه قد وجد إيليَّا، الذي بصلاته يحمل مفاتيح السماء فيحجب المطر أو ينزله.

جاهد آخاب كثيرًا ليجد إيليَّا، والآن دون أن يطلبه وجده فذهب إليه وهو في حاجة شديدة إليه.

line

3. لقاء إيليَّا مع آخاب :


"ولما رأى آخاب إيليَّا قال له آخاب:
أأنت هو مكدِّر إسرائيل؟.
فقال: لم أكدِّر إسرائيل بل أنتَ وبيتَ أبيك،
بترككم وصايا الرب، وبسيرك وراء البعليم" [17-18].

لم يمد آخاب يده على النبي ربَّما خشي لئلاَّ يحدث له ما حدث مع يربعام عندما مدَّ يده على النبي فيبست. اتَّهمه بأنَّه مكدِّر إسرائيل. وبقوَّة وشجاعة ردَّ إيليَّا النبي الاتِّهام الموجَّه إليه إلى الملك وبيت أبيه [18]. أنَّه ليس كعاخان مكدِّر إسرائيل (يش 7: 24)، بل آخاب وبيت أبيه هم عاخان الجديد.

حينما أعلن يشوع عن عاخان أنَّه مكدِّر إسرائيل "رجمه جميع إسرائيل بالحجارة واحرقوهم بالنار ورموهم بالحجارة" (يش 7: 25). كان آخاب يودّ أن يعلن ذلك لكي يكون مصيره من الشعب كمصير عاخان.

+ حقًا الصديق جرئ كالأسد (أم 28: 1)، إذ وقف أمام الملك كما يقف الأسد أمام كلب دنس يدمي. مع أن الواحد كان يرتدي الأرجوان، كان الآخر يرتدي ثوبًا من جلد الغنم، أيّ الثوبين كان أكثر كرامة؟ فقد جلب الأرجوان مجاعة خطيرة، أمَّا الثوب الجلدي فوهب عُتقًا من هذه الكارثة. أنَّه شق الأردن! جعل لإليشع روحين من إيليَّا.

يا لعظم فضائل القدِّيسين! ليس فقط كلماتهم، بل وثيابهم تبدو دائمًا مكرَّمة من كل الخليقة.
الثوب الجلدي لهذا الرجل شقَّ الأردن!
أحذية الثلاثة فتية وطأت على النار!
كلمة إليشع غيَّرت المياه، فجعلتها تحمل الحديد على سطحها!
عصا موسى شقَّت البحر الأحمر، وأخرجت نبعًا من الصخرة.
ثياب بولس أبرأت الأمراض!
وظِلّ بطرس طرد الموت!

رفات الشهداء القدِّيسين تطرُد الشيَّاطين. لذلك يمارسون كل شيء بسلطان كما فعل إيليَّا. إذ لم ينظر التاج ولا إلى أبَّهة الملك الخارجيَّة، بل نظر النفس تلتحف بخرق دنسة وقذرة في حالة أبأس من مرتكب الجريمة. رآه أسيرًا لشهواته وعبدًا لها، فاحتقر سلطانه. يبدو أنَّه رأى ملكًا في مسرحيَّة وليس ملكًا حقيقيًا. وما نفع الغِنى الخارجي حين يكون الفقر الداخلي عظيمًا؟ وماذا يمكن للفقر الخارجي أن يضرّ إن كان كنز الغنى في الداخل؟ كان الطوباوي بولس أسدًا حين دخل السجن، وإذ رفع صوته اهتزَّت الأساسات[3].
القدِّيس يوحنا الذهبي الفم
4. لقاء إيليَّا مع الشعب :

"فالآن أرسل واجمع إليَّ كل إسرائيل إلى جبل الكرمل وأنبياء البعل أربع المائة والخمسين،
وأنبياء السواري أربع المائة الذين يأكلون على مائدة إيزابل" [19].

الكرمل: هو سلسلة من القمم المسطَّحة على جبل، بعضها يبلغ ارتفاعها 1800 قدمًا عن سطح البحر. يمتدّ إلى 13 ميلاً وينتهي غربه بالبحر الأبيض المتوسِّط في انحدارٍ شديدٍ، بجوار حيفا Haifa. وكان بالجبل مذبح للرب قديم ومتهدِّم [30]، ربَّما يرجع إلى عصر البطاركة. في أقصى شمال غرب الجبل يوجد دير للكرمليت باسم إيليَّا النبي.

اختار إيليَّا النبي هذا الموضع لأن الكنعانيِّين كانوا يعتقدون بأن جبل الكرمل هو مسكن الآلهة. كأنَّه أراد أن يقيم المعركة بين الله والآلهة الوثنيَّة في معقل دارهم. من جانب آخر يمكن للملكة المتعجرفة أن تشاهد المعركة وهي في قصرها في يزرعيل.

من على جبل الكرمل يمكن لمن لا يقدر على الصعود إليه أن يرى النار النازلة من السماء من بعيد، ويرى الكل السحابة القادمة من البحر، فلا يمكن لأحد أن يضلِّل الشعب بإخفائه حقيقة المعركة.

يوجد على أعلى قممه خرائب "المحرقة" في الجنوب الشرقي من الكرمل وهو موضع حجري يبلغ ارتفاعه 1635 قدمًا عن سطح البحر وبه توجد أشجار، ومسطَّحه متَّسع لا نجد أفضل منه ليجمع الآلاف من الشعب لرؤية ما حدث ومتابعته.

كان الملك يعبد البعل (الإله الذكر) ويخدم معه أربعمائة وخمسون نبي، وكانت الملكة تعبد العشتاروت وتقيم لها سواري ويخدم معهما أربعمائة نبي. كان الأربعمائة وخمسون هم الأنبياء والكهنة الملازمون للقصر الملكي وليس كل أنبياء البعل في إسرائيل.

دعي كهنة البعل أنبياء، لأهم كانوا يدعون القدرة على التنبُّوء ومعرفة المستقبل.

"فأرسل آخاب إلى جميع بني إسرائيل وجمع الأنبياء إلى جبل الكرمل" [20].

يقصد بكل إسرائيل رؤساء الأسباط والعشائر وقادة الشعب.

لماذا وافق الملك على طلب إيليَّا بدون تردُّد؟

أولاً: كانت الضرورة ملحَّة، حيث بلغت المجاعة أشدَّها. ومن جانب آخر لم يتوقَّع الملك ما قد حدث، إنَّما ظنّ أنَّه سيقوم إيليَّا بمباركة الأرض والصلاة مع إصدار الأمر بنزول المطر أمام الشعب وكهنة البعل كنوع من إظهار القوَّة والسلطان.

"فتقدَّم إيليَّا إلى جميع الشعب وقال:
حتى متى تعرِّجون بين الفرقتين؟
إن كان الرب هو الله فاتبعوه، وإن كان البعل فاتبعوه.
فلم يجبه الشعب بكلمة" [21].

كان الشعب يريد أن يعبد الاثنين معًا: الله والبعل. فقد تلامسوا مع الله في قوَّته وحبُّه وسمعوا ما صنعه مع آبائهم، ووجدوا في البعل ملذَّات ورجاسات. ظنُّوا أنَّهم قادرون أن يمزجوا بين العبادتين، وأن يقسِّموا القلب بين الإلهين.

كان الشعب يعتقد بان للبعل سلطان على الأمطار والنار، لذا أراد إيليَّا النبي تقديم علاقة ملموسة عن الحق خلال النار والماء.

جاءت الترجمة الحرفيَّة: "إلى متى تثبون بين غصنين؟ وهو مثل رمزي حيث يشبهون الطائر الذي يثب من فرع شجرة إلى آخر، ولا يعرف أين يستقر.

لا يقبل الله إلاَّ أن يستلم القلب كلُّه: "قد قسَّموا قلوبهم، الآن يعاقبون. هو يحطِّم مذابحهم، يخرِّب أنصابهم" (هو 10: 20)، لذا يقول يشوع بن نون: "فاختاروا لأنفسكم اليوم من تعبدون، إن كان الآلهة الذين عبدهم آباؤكم الذين في عبر النهر وإن كان آلهة الأموريِّين الذين أنتم ساكنون في أرضهم. وأمَّا أنا وبيتي فنعبد الرب" (يش 24: 15).

إن كان الله لا يقبل أقل من القلب كلُّه، فمن جانبه يشتهي الله أن يعطينا ذاته، فنتمتَّع بواهب العطايا نفسه، الذي فيه تتحقَّق كفايتنا، وبدونه لن تشبع أعماقنا.

+ لا تجد شيئًا يقدِّمه لك أفضل من ذاته، لكن إن كنت تجد ما هو أفضل منه أطلبه بكل وسيلة[4].
+ هل لا يوجد لدى الله مكافأة؟ لا توجد إلاَّ عطيَّة ذاته[5]!
+ اجعلنا سعداء يا إلهي في انشغالنا بك، فلا نفقدك[6].
القدِّيس أغسطينوس

استخدم مجمع قرطاجنة السابع تحت رئاسة الشهيد كبريانوس هذه العبارة عند معالجته موضوع معموديَّة الهراطقة. قال Pelagianus of Luperciana: مكتوب: "إمَّا الرب هو الله أو البعل هو الله". هكذا في القضيَّة المعروضة الآن أيضًا أمَّا الكنيسة هي الكنيسة أو الهرطقة هي الكنيسة. ومن جانب آخر، إن كانت الهرطقة ليست هي الكنيسة، كيف تكون معموديَّة الكنيسة بين الهراطقة.

"ثم قال إيليَّا للشعب:
أنا بقيت نبيًا للرب وحدي وأنبياء البعل أربع مائة وخمسون رجلاً.
فليعطونا ثورين،
فيختاروا لأنفسهم ثورًا واحدًا ويقطعوه ويضعوه على الحطب.
ولكن لا يضعوا نارًا.
وأنا اقرب الثور الآخر، واجعله على الحطب،
ولكن لا أضع نارًا" [22-23].

جاء الإعداد الذي طلبه إيليَّا النبي لتقديم الذبيحة مطابقًا لما ورد في الشريعة الموسويَّة (لا 1).

إذ يعلم إيليَّا النبي خداع إبليس واتباعه، حرص ألاَّ يضعوا نارًا للمذبح.

"ثم تدعون باسم آلهتكم، وأنا أدعو باسم الرب،
والإله الذي يجيب بنارٍ فهو الله.
فأجاب جميع الشعب وقالوا: الكلام حسن" [24].

"الإله الذي يجيب بنار فهو الله": كان البعل هو أبوللو إله الشمس، صاحب السلطان على النار. لذا كان إيليَّا يقدِّم الدليل ممَّا يعتقد به عبدة البعل، فيقيم الدليل من أفواههم. كان عبدة البعل ينسبون الرعد والبرق والمطر إلى إلههم. ومن جانب آخر فإن الله كان يؤكِّد قبوله للذبيحة بإرسال نار من السماء تلتهمها (لا 9: 24؛ قض 6: 21).

في القديم تسائل اسحق: "هوذا النار والحطب ولكن أين الخروف للمحرقة؟" (تك 7: 22) وكانت إجابة والده: "الله يرى له الخروف للمحرقة يا ابني". الآن يوجد المذبح والخشب والمحرقة، ولكن أين النار؟ الله يرسل نارًا للمحرقة!

يليق بنا أن نطلب من الله فيرسل روحه القدُّوس الناري، هو يقدِّس مذبح قلوبنا ويقبل كل تقدمة، ويعلن مسرَّته في داخلنا.

line

5. لقاء إيليَّا مع كهنة البعل :


"فقال إيليَّا لأنبياء البعل:
اختاروا لأنفسكم ثورًا واحدًا وقرِّبوا أولاً،
لأنَّكم أنتم الأكثر، وادعوا باسم آلهتكم، ولكن لا تضعوا نارًا" [25].

طلب منهم أن يبدءوا هم بتقديم الذبيحة من أجل كثرة عددهم.

"فأخذوا الثور الذي أُعطي لهم وقرَّبوه،
ودعوا باسم البعل من الصباح إلى الظهر قائلين:
يا بعل أجبنا.
فلم يكن صوت ولا مجيب.
وكانوا يرقصون حول المذبح الذي عُمل" [26].

استخدم أنبياء البعل كل وسيلة لعلَّ إلههم يتحرَّك، تارة كانوا ينادونه باسمه وأخرى يصرخون، وثالثة كانوا يرقصون لعلَّهم يسرُّونه، ورابعة كمن أصابهم الجنون يقطعون أجسامهم بالسيوف والرماح.

line

6. لقاء مع الله الناري :


"وعند الظهر سخر بهم إيليَّا وقال: ادعوا بصوت عال،
لأنَّه إله لعلَّه مستغرق أو في خلوة أو في سفر أو لعلَّه نائم فيتنبَّه" [27].

لو لم يشعر إيليَّا النبي بأنَّه محفوظ بالعناية الإلهيَّة لما سخر وهو وحده بـ 850 كاهنًا للبعل يسندهم الملك والملكة ويجري وراءهم الشعب.

"فصرخوا بصوتٍ عالٍ،
وتقطَّعوا حسب عادتهم بالسيوف والرماح حتى سال منهم الدم" [28].

لا تزال بعض العبادات الوثنيَّة بين القبائل تستخدم الرقص العنيف وتجريح الأجساد. وقد منعت الشريعة تقطيع الجسم (تث 14: 1). جاء عن عبادة الإلهة الهندوسيَّة ماثا Hindu goddess Matha أنَّه كان يجتمع حوالي 10 آلاف إلى 12 ألفًا من الشعب. وفي لحظات يقف إنسان في وسطهم ويتظاهر بأن الإلهة دخلت فيه، فينزع عنه عمامته وينسدل شعره الطويل على وجه، ثم يبدأ يثب ويهتز وينطق بصرخات عنيفة كمن يعوي. وإذ تزداد الإثارة يضرب نفسه بسلسلة ثم يحرك السيف بفمه فيجرح نفسه، ثم يأخذ من دمه ويلطخ به جباه المشاهدين. يتزايد الحماس وينتشر بين المشاهدين فيحسب البعض أن الإلهة قد حلَّت فيه فيقضون الليل كلُّه يثبون ويتمايلون.

"ولما جاز الظهر وتنبَّأوا إلى حين إصعاد التقدمة ولم يكن صوت ولا مجيب ولا مصغ.
قال إيليَّا لجميع الشعب:
تقدَّموا إليّ،
فتقدَّم جميع الشعب إليه،
فرمَّم مذبح الرب المنهدم" [29-30].

ربَّما تهدَّم هذا المذبح بأمر آخاب أو إيزابل لمنع عبادة الله الحيّ.

"ثم أخذ إيليَّا اثني عشر حجرًا بعدد أسباط بني يعقوب الذي كان كلام الرب إليه قائلاً إسرائيل يكون اسمك" [31].

رمَّم إيليَّا المذبح باثني عشر حجرًا بعدد الأسباط ليعلن رفضه التام لانقسام المملكة، مؤكِّدًا أن الله هو إله كل الأسباط، وأن مسرَّته أن تُقدَّم ذبيحة واحدة عن الجميع.

اختيار 12 حجرًا لم يكن بلا معنى، فإن رقم 12 كما يقول القدِّيس أغسطينوس: [يشير إلى ملكوت الله على الأرض، حيث يملك الثالوث (3) في كل جهات المسكونة، أي في المشارق والمغارب والشمال والجنوب (4)، فمحصِّلة 3 × 4 هي 12]. وكأنَّ رقم 12 يشير إلى كنيسة الله الممتدَّة من أقاصي المسكونة إلى أقاصيها. فيما يلي أمثلة لاستخدام هذا الرقم:

+ ضمَّ شعب الله القديم 12 سبطًا، بكونه الكنيسة المقدَّسة (تك 35: 22).
+ يحمل رئيس الكهنة على صدرته 12 حجرًا كريمًا، إذ يشفع المؤمن الحقيقي في كل المؤمنين. ويثبِّت في ثوبه 12 جرسًا إشارة إلى التزامه بالشهادة الحيَّة أينما وجد (خر 28).
+ وضع موسى 12 حجرًا عند سفح الجبل (خر 24: 4)، ويشوع في الأردن (يش 4: 3).
+ اختار السيِّد المسيح 12 تلميذًا.
+ مدينة أورشليم العليا لها 12 بابًا، ثلاثة أبواب من كل جانب (رؤ 21).

"وبنى الحجارة مذبحًا باسم الرب،
وعمل قناة حول المذبح تسع كيلتين من البزر" [32].

تحوي الكيلة حوالي ثلاثة جالونات.

"ثم رتَّب الحطب وقطع الثور، ووضعه على الحطب، وقال:
املأوا أربع جرَّات ماء، وصبُّوا على المحرقة وعلى الحطب" [33].

إلهنا إله نظام وليس إله تشويش، يودّ من أولاده أن يتبعوا النظام. رتَّب إيليَّا الحطب ولم يضعه بلا ترتيب.

اقتبس Calment نصًا لكاتب قديم نسبه للقدِّيس يوحنا الذهبي الفم جاء فيه أنَّه رأى تحت مذابح الوثنيِّين فتحات في الأرض بها مداخن تخرج منها متَّصلة بفتحات في أعلى المذبح، يخفي كهنة الوثنيِّين النار في الفتحات التي تحت الأرض، وإذ تشعل النار الحطب الذي في المذبح يظنّ البسطاء أن نار عجيبة خرجت والتهمت الذبيحة. هذا ما دفع إيليَّا النبي أن يسكب مياه كثيرة تملأ القنوات حول المذبح حتى لا يعطي فرصة لأدنى شك في أن النار هي من قبل الرب.

"ثم قال: ثنُّوا فثنُّوا.
وقال: ثلِّثوا فثلَّثوا.
فجرى الماء حول المذبح، وامتلأت القناة أيضًا ماءً" [34-35].

أمر بإلقاء 12 جرَّة ماء على المحرقة والحطب حتى جرى الماء حول المذبح وامتلأت القنوات المحيطة به.

جاءوا بالماء من البحر الذي كان قريبًا منه، حيث كان الماء العذب شحيحًا جدًا.

"وكان عند إصعاد التقدمة أن إيليَّا النبي تقدَّم وقال:
أيُّها الرب إله إبراهيم واسحق وإسرائيل
ليعلم اليوم أنَّك أنت الله في إسرائيل.
وأنِّي أنا عبدك وبأمرك قد فعلت كل هذه الأمور" [36].

طلب إيليَّا من الله أن يتمجَّد بكونه إله إبراهيم واسحق وإسرائيل لم يطلب إيليَّا النبي مجده الذاتي بل مجد الرب.

"استجبني يا رب استجبني.
ليعلم هذا الشعب أنَّك أنت الرب الإله.
وأنَّك أنت حوَّلت قلوبهم رجوعًا.
فسقطت نار الرب وأكلت المحرقة والحطب والحجارة والتراب،
ولحست المياه التي في القناة" [37-38].

استجاب الله بنارٍ أكلت المحرقة والحطب والحجارة والتراب ولحست المياه التي في القناة، الأمر الذي لا يمكن أن يحدث طبيعيًا. لم تصدر النار من أسفل المذبح كما كان الوثنيُّون يخدعون الشعب بالنار المخفيَّة تحت المذبح. سقطت من أعلى وبدأت بالمحرقة. ثم الحطب الذي أسفلها فالحجارة والتراب وأخيرًا لحست المياه التي في القناة. أنَّها نار نازلة من أعلى، وليست صادرة من أسفل. سلكت النار على خلاف الطبيعة، فالنار تبدأ دومًا من أسفل ويرتفع اللهيب، أمَّا هنا فبدأت من فوق وامتد اللهيب إلى أسفل بالتدريج.

التهمت النار الذبيحة قبل أن يلتهب الحطب بالنار، لكي يدرك الكل أنَّها نار عجيبة نازلة من فوق، وأن المحرقة لم تتحقَّق بالتهاب الحطب بالنار.

احتراق المحرقة علامة قبول الله للذبيحة، وسروره بالتقدمة الصادرة عن قلب نقي.

احتراق الحطب يشير إلى رغبة الله ألاَّ يبقي فينا عمل يحترق بالنار. "إن كان أحد يبني على هذا الأساس ذهبًا فضَّة حجارة كريمة خشبًا عشبًا قشًا، فعمل كل واحد سيصير ظاهرًا لأن اليوم سيبنيه، لأنَّه بنارٍ يُستعلن وستَمتحِن النار عمل كل واحد ما هو" (1 كو 3: 12-13).

احتراق الحجارة: فإنَّه يودّ أن يكون شعبه كلُّه (12 حجرًا) ذبيحة حب له، كما يقدِّم نفسه ذبيحة حب لفدائهم.

احتراق التراب: فإنَّه يريد أن ينتزع عنَّا ترابنا ليقيم عوضًا عنه سمواته.

لحس المياه التي في القناة: فهو يطلب قلوبًا لا تغطِّيها مياه العالم بل ملتهبة بنار الروح.

+ لم يجلب النار من السماء بمجرَّد الصلاة فقط لتنزل على الخشب الجاف، بل أمر الحاضرين أن يحضروا فيضًا من الماء. وإذ سكبه ثلاث مرَّات من الجرَّات على الخشب أشعل بصلاته النار من الماء، أي بما يخالف طبيعة العناصر، ليظهر قوَّة الله بفيض فائق للطبيعة. هنا بالذبيحة العجيبة يعلن لنا إيليَّا بوضوح عن الطقس السرائري للعماد الذي سيتأسَّس بعد ذلك[7].
القدِّيس غريغوريوس أسقف نيصص

+ الرب يسوع هو مثل نار ألهبت قلوب الذين سمعوه، وكينبوع ماء أعطاهم برودة، إذ قال بنفسه في إنجيله أنَّه جاء ليرسل نارًا على الأرض (لو 12: 40) ويهب ماءً حيًا للعطشى (يو 7: 37-38).

في أيَّام إيليَّا نزلت أيضًا نار عندما تحدَّى أنبياء الوثنيِّين لينير المذبح بدون نارٍ. وعندما لم يقدروا أن يفعلوا هذا سكب ماءً ثلاث مرَّات على ذبيحته حتى جرت المياه حول المذبح، ثم صرخ فنزلت نارًا من الرب من السماء والتهمت المحرقة[8].
القدِّيس أمبروسيوس

7. قتل كهنة البعل :


"فلما رأى جميع الشعب ذلك سقطوا على وجوههم وقالوا:
الرب هو الله، الرب هو الله.
فقال لهم إيليَّا:
امسكوا أنبياء البعل، ولا يفلت منهم رجل.
فامسكوهم، فنزل بهم إيليَّا إلى نهر قيشون وذبحهم هناك" [39-40].

إذ اعترف الشعب بأن الرب هو الله، طلب منهم أن يرفضوا عبادة البعل بتنفيذ الشريعة: قتل عبدة الأوثان والمثيرين لها (تث 13: 1-11، 2-3، 13: 3). طلب قتل كهنة البعل حتى لا يعودوا فيخدعون البسطاء.

نهر قيشون ينبع على جبل تابور ويصبّ في البحر الأبيض المتوسِّط. ربَّما تمَّ قتل أنبياء البعل هناك حتى متى حلَّ المطر الغزير يفيض النهر ويسحب جثثهم ويلقي بها في البحر.

line

8. طلبة إيليَّا الخاصَّة بالمطر :

"وقال إيليَّا لآخاب: اصعد كل واشرب، لأنَّه حسّ دوي مطر" [41].

يبدو أن آخاب كان صائمًا طوال اليوم، لذا أرسله إيليَّا إلى قصره ليأكل ويشرب فإن مسرَّة الرب تحلّ بالأرض بعدما شهد الشعب لله إلهه وذبح كهنة البعل. واضح من حديث إيليَّا النبي رضا الملك على تصرُّف الشعب وقتلهم كهنة البعل.

لقد قضى الملك اليوم كلُّه يراقب ما يحدث، لم يأكل ولم يشرب، وقد حضر منذ الصباح صائمًا، ربَّما لأنَّه كان يطلب من الله أن يتدخَّل، أو لأنَّه كان مرتبكًا جدًا غير قادر على الأكل حتى يرى ماذا يحدث.

لم يرَ إيليَّا أيَّة علامة عن سقوط المطر، لكنَّه بروح النبوَّة قال: "لأنَّه حس دوي مطر" [40]. لقد مضى وقت الجفاف!

"فصعد آخاب ليأكل ويشرب.
وأمَّا إيليَّا فصعد إلى رأس الكرمل
وخرّ إلى الأرض وجعل وجهه بين ركبتيه" [42].

انسحب إيليَّا النبي إلى قمَّة الكرمل في مكانٍ خاصٍ عالٍ جدًا. في هذا الموضع يمكن للإنسان أن يختفي. وكما جاء في عاموس: "وإن اختبأوا في رأس الكرمل فمن هناك أفتش وآخذهم" (عا 9: 3). هناك ذهب وحده ومعه غلامه، فإنَّه كان يليق به بعد أن اجتمع بالشعب كلَّه والملك والقيادات أن يختفي إلى حين ليلتقي في هدوء مع إلهه، فيقول مع حبقوق النبي: "على مرصدي أقف وعلى الحصن انتصب وأراقب لأرى ماذا يقول لي" (حب 2: 1).

لم ينشغل إيليَّا النبي بما حدث كأمر يمجِّده ويهبه نصرة إنَّما انطلق ليصلِّي كي يحقِّق الله وعده ويهب الأرض مطرًا.

بينما طلب النبي من الملك أن يسرع ليأكل ويشرب، انطلق هو للصلاة. فإن رجال الله يطلبون الراحة للآخرين ويمارسون هم الجهاد.

سجد النبي إلى الأرض وجعل وجهه بين ركبتيه علامة انسحاق نفسه، ربَّما انحنى حتى بلغت رأسه إلى ركبتيه.

"وقال لغلامه: اصعد تطلَّع نحو البحر.
فصعد وتطلَّع وقال: ليس شيء.
فقال: ارجع سبع مرَّات" [43].

من قمَّة جبل الكرمل يرى البحر على بعد النظر.

"وفي المرَّة السابعة قال:
هوذا غيمة صغيرة قدر كفّ إنسان صاعدة من البحر.
فقال: اصعد قل لآخاب اشدد وانزل لئلاَّ يمنعك المطر" [44].

ليتنا لا نحتقر العطايا الإلهيَّة التي تبدو صغيرة كغيمة قدر كف إنسان، فإن من يشكر على القليل يتمتَّع بالكثير.

الغيمة الصغيرة التي رآها إيليَّا قادمة من البحر تُشير إلى تجسُّد الله الكلمة الذي صار كغيمة صغيرة تخفي مجد لاهوته، قادمة إلى عالمنا لتفيض علينا بمياه الروح القدس. أنَّه يحوِّل قفر قلبنا إلى فردوس مثمر!

"وكان من هنا إلى هنا أن السماء اسودَّت من الغيم والريح وكان مطر عظيم.
فركب آخاب ومضى إلى يزرعيل.
وكانت يد الرب على إيليَّا،
فشدَّ حقويه وركض أمام آخاب حتى تجيء إلى يزرعيل" [45-46].

طلب إيليَّا النبي من غلامه أن يخبر الملك بأن يتشدَّد ويسرع بالنزول لئلاَّ يمنعه المطر. انطلق الملك بمركبته، بينما شد النبي حقويه وركض فالتقى بالملك قبل بلوغه قصره. لقد بارى الخيل والمركبات وغلب. أنَّه لم ينطبق عليه الحديث عن الخاملين: "إن جريت مع المشاة فأتعبوك فكيف تباري الخيل؟!" (إر 12: 5).

لم ينطلق إليه لكي يوبِّخه أو يجرحه بكلمة، وإنَّما لكي يسنده ويقوِّيه في مواجهته لزوجته إيزابل التي استغلَّت ضعفه فجعلت منه إنسانَّا وثنيًا شرِّيرًا. لقد أراد أن يؤكِّد له أنَّه ليس مقاومًا له بصفة شخصيَّة، ولا يحمل بغضة من جهته، بل يشتاق أن يسنده في خدمة الرب. أنَّه أمين له ما دام في الرب.

لقد جرى قرابة 16 ميلاً ليبلغ مدخل يزرعيل مظهرًا استعداده المستمرّ للخدمة.

يزرعيل تقع عند جبل جلبوع، لم ينقل آخاب العاصمة من السامرة (1 مل 22: 10، 37) لكنَّه بنى له قصرًا في يزرعيل (1 مل 22: 1)، ويبدو أنَّه كان يقيم هناك مع الملكة إيزابل كمسكنٍ شتوي لهما. وُجد حديثًا نقش آشوري تحدَّث عن آخاب بأنَّه "آخاب اليزرعيلى".


line

من وحي 1 مل 18


إلهي أنت يا رب،

وليس إله آخر غيرك!‍‍‍‍‍‍

+ صوت نبيَّك إيليَّا يرنّ في آذنيَّ:
إن كان الرب هو الله فاعبدوه،
وإن كان البعل فاعبدوه،
إلى متى تعرِّجون بين الفريقين؟

+ إلى متى أقيم في داخلي العجل والعشتاروت؟
إلى متى أرفض مملكتك لأقيم سادة عنفاء يحطِّمون أعماقي؟

+ في غباوتي أقمت في داخلي مذبحًا للبعل،
وصار لي كهنة وكاهنات يقدِّمون له حياتي ذبيحة.
حوَّلوا حياتي إلى العبوديَّة.
صرتُ عبدًا للمال والكرامة والشهوات الزمنيَّة.
من يحرِّرني من هذا الذل؟

+ ليملأ روحك الناري السماوي كياني.
ليحوِّل أعماقي إلى لهيب نار سماوي.
لن يترك في قلبي أثرًا للتراب،
بل يحوِّل أرضي إلى سماء.
لا يترك أثرًا للحجارة، عوض الحجارة يقيم أبناء لإبراهيم.
لن يكون قلبي حجريًا بعد، بل رقيقًا كابنٍ لإبراهيم.
يلحس كل ماء في قنوات قلبي.
فلا يكون للبرود الروحي موضع.

+ هب لي روحين من إيليَّا النبي، كما وهبت إليشع تلميذه.
فيصير لي القلب الناري.
ليقتل في داخلي كل كاهنٍ لبعل أو عشتاروت.
ويصير قلبي جلجثة حقَّة تحمل ذبيحة الصليب الحق.
نعم لتملك بنار روحك القدُّوس في أعماقي.

line
المراجع:
[1] On the Gospel of St. John, tractate 108:1.
[2] On Ps. 111.
[3] St. John Chrysostom: Concerning the Statues, hom. 8:3.
[4] On Ps. 53:10.
[5] On Ps 72:32.
[6] Sermon 113:6.
[7] St. Gregory of Nyssa: On the Baptism of Christ.
[8] Duties of the Clergy, book 3:106.