فاطمة ناعوت - المصرى اليوم
| 11 اغسطس 2025

موسمُ الرياض سعوديًّا... وعقلٌ لا يعجبه العجب! بقلم فاطمة ناعوت

موسمُ الرياض سعوديًّا... وعقلٌ لا يعجبه العجب! بقلم فاطمة ناعوت
بقلم فاطمة ناعوتأعلن المستشار تركى آل الشيخ أنّ موسم الرياض القادم سيعتمد بشكل شبه كامل على أوركسترا سعودى وخليجى، ومسرحيات سعودية وخليجية وسورية وعالمية. قرارٌ طبيعى جدًا لأى مهرجان فنيّ يودّ ترسيخ هويته، وصنع بصمتَه الخاصة، بعدما اعتمد فى دوراته السابقة على فنانى مصر.

أين المشكلة فى هذا القرار، ولماذا غضب نفرٌ من المصريين واعتبروا هذا تخليًّا من السعودية عن فنانى مصر، بل تجاوز بعضُهم وبلغ من الغىّ مبلغا جعلهم يقولون إن هذا نكران للجميل، وقطيعة بين المملكة ومصر وبلا بلا بلا؛ كثيرُ لغو وقليلُ حكمة!

طبيعى أن دولة راسخة فى الفن مثل مصر تساعد فنيًّا دولة ناشئة فى صناعة الفنون فى تدشين مهرجان فنيّ يُقام لأول مرة على أرضها. ورويدًا رويدًا تأتى حتمية الاستقلال ليغدو مهرجانها محليًّا خالصًّا. منطقى أن يتسعود موسم الرياض بمرور السنوات؛ ثم قد يستضيف فى السنوات القادمة آحادًا من الفنانين المصريين، وغير المصريين كـ ضيوف شرف. هذا دأب المهرجانات الفنية التى تحمل أسماء بلدانها.

وللعجب، لم يمر الإعلانُ دون عواصف اعتراض وجدل بيزنطى على منصات التواصل. بعضُ المصريين قرأ القرار وكأنه إعلان حرب فنية! والمفارقة أنّ أولئك المعترضين، فى الدورات الأولى للموسم، كانوا يصرخون: تركى آل الشيخ يُجرِّفُ الفن المصرى!، المملكة تسحب البساط من تحت مسارح القاهرة!، الحقوا...الفن المصرى يهاجر! واليومَ، حين قررتِ المملكةُ الاعتمادَ على فنانيها، ومنحَ أبنائها مساحة الصدارة، تبدّل الخطابُ، بذات النغمة الغاضبة: تركى آل الشيخ يتعالى على الفن المصرى!. أى منطق هذا؟! ما أعجبكم ماذا تريدون؟! لا هو تجريفٌ، ولا هو تعالٍ؟! إنها طبيعة البدايات والتطور! فى البدايات نتعاون، ثم نعتمد على أنفسنا حتى ننضج ونستقل!

من البديهى جدًا أن دولة راسخة فنيًا مثل مصر، عمرها الفنى قرن ويزيد، تمد يدها لمهرجان ناشئ، تدعمه بخبراتها، وتقدم له رموزها الفنية، وتكون عصب حفلاته ومسرحياته الأولى. هذا ليس إحسانًا ولا مِنّة، بل شراكة ثقافية متبادلة. ومن الطبيعى أيضًا أن يستقلَّ المهرجانُ مع الوقت، حتى يغدو مهرجانها مُعرّفًا بهويته المحلية فى دورته السادسة.

هكذا تعمل المهرجاناتُ الكبرى فى العالم: مهرجان أفينون فرنسى الهوية، برودواى أمريكية النكهة، والبندقية إيطالى السمت، وإن استضاف عالميين. وفى كل هذى النماذج، الاستضافةُ موجودة، لكنّ الثِقَلَ الرئيسىَّ لأبناء البلد نفسه. الذين يرون فى القرار السعودى قطيعة أو تقصّدًا، يتجاهلون بديهيات التطور الطبيعى للمؤسسات الثقافية. لا أحد يبدأ ماراثونًا فنيًّا وحده؛ فى البداية تحتاج من يساندك، وحين يقوى بُنيانُك، تنطلق وحدك، وتدعو الآخرين ضيوفًا، لا أبطالَ سباقك.

هل يعقل أن مَن رأوا التعاون فى بدايات موسم الرياض قبل ست سنوات جرفًا للفن المصرى، يرون غياب فنانى مصر فى الدورة السادسة إهانة للفن المصرى؟! كيف يلتقى النقيضان؟! لماذا يحكمنا حس المؤامرة فى حكمنا على الأشياء وبديهيات تطورها؟ لماذا لا نُفرّق بين التعاون والتبعية، ولا بين الاستضافة والإقصاء.

حسُّ المؤامرة يُشوّه قراءتنا لقرار صائب من دولة شقيقة وكأنه خطوة لتهميشنا وإزاحتنا. والحقيقة أبسط من ذلك: موسم الرياض طبيعى أن يغدو مع الأيام سعودى الهوى، خليجى اللون، مع بهارات عالمية.

الفن لا يعرفُ القطيعة، لكنه يعرف الهوية. السعودية تبنى هويتَها الفنية كما فعلنا نحن قبل قرن. حين بدأ المسرح المصرى الحديث، كان يعتمد على نصوص غربية مُمَصّرة وممثلين أجانب أحيانًا، ثم شيئًا فشيئًا صار مصريًا خالصًا. فلماذا نستغرب أن تسير السعوديةُ على ذات الطريق؟!

الشاهدُ أنه لا تجريف ثمّة ولا تعالٍ ولا تخلٍّ، ولا كل تلك الكلمات الكبيرة التى تضمرُ العداء. فقط هناك دورة حياة طبيعية لأى مهرجان فنيّ ناجح: تعاونٌ فى البدايات، اعتمادٌ على النفس لاحقًا، ثم استضافات انتقائية فى الدورات القادمة. دع ألف زهرة تتفتح فى بساتين الفن العربى والمصرى والعالمى، دون مراراتٍ ولا تخوين يجرّد فلسفة الفن من مضمونها. دعونا نسعدُ بالشقيقة السعودية لأن الفنَّ زارها، لأن الفنّ هو الحجر الصد لأى ظلامية أو رجعية. وكما سعدنا بانطلاق المملكة نحو النور بالقرارات الجسورة التى أطلقها ولى العهد المثقف الأمير محمد بن سلمان ليصفو لنا الوجه الحقيقى للإسلام الرحيم، دعونا نسعد بالمملكة السعودية وهى تخطو خطواتها الأولى نحو القوى الناعمة الأقوى من القوى الغاشمة. ولنتذكر مقولة أفلاطون العظيمة فى القرن الرابع قبل الميلاد: علّموا أولادكم الفنونَ ثم أغلقوا السجون.

مبروك للملكة السعودية الشقيقة سعودة موسم الرياض فى دورته السادسة، والعقبى لليوبيل الماسى بإذن الله، وهى ترفلُ تحت مظلة النور والجمال والتحضر.