فاطمة ناعوت - المصرى اليوم
| 19 يونيو 2025

«صبحى»... فارسًا يكشفُ المستور فاطمة ناعوت

«صبحى»... فارسًا يكشفُ المستور فاطمة ناعوت
بقلم فاطمة ناعوتإذا كان بريخت قد نادى بهدم الحائط الرابع فى المسرح بين الممثل والجمهور، من أجل كسر وهم التمثيل وتحفيز وعى المُشاهد للضلوع فى العمل وإشراكه فكريًّا ونفسيًّا فى الدراما؛ لئلا يظل مجرد مشاهد سلبى، فإن مايسترو المسرح محمد صبحى يصرُّ على تحطيم الجُدُر التى نختبئ وراءها لنهرب من خطايانا؛ فتنفتحُ حوائطُ المستور وتصحو ضمائرُنا ونفيقُ من غفلتنا، استعدادًا لرحلة محاسبة النفس ثم التطهّر والتحرر من الآثام.

مازال صبحى الصوتَ المسرحى الأوحدَ القادرَ على إشعال الوعى دون ضجيج، على مدى تاريخه المسرحى الثرى الذى لا يشبه إلا نفسَه. فـ صبحى الفنانُ هو ذاته صبحى المثقف المشغول بغرس القيم الرفيعة فى مجتمعه، هو صبحى المصرى المنغمس فى قضايا وطنه وقضايا العروبة، هو صبحى السياسى الرافض لهيمنة معاول التغريب والاستلاب التى تمارسها الصهيونية والدولُ الاستعمارية، هو صبحى الإنسان والأب المشغول بتنشئة أطفاله على المبادئ والقيم.

فى رواية الخلود للفرنسى ميلان كونديرا، يدخل المؤلفُ روايتَه بشخصه لكى يُحوّلَ القارئَ من مستهلك للحكاية إلى شريك وضالع فى التفكير والحل.. لكن صبحى لا يدخل باسمه فى العمل، بل بشخصيته الحقيقية الرافضة لكل عوارٍ وسقوطٍ وضِعة. فندخل مسرحَه ونخرج غير ما دخلنا، فقد أشهر فى وجوهنا مرآة ميدوزا التى نشاهد عليها سقطاتنا؛ فنتبرأ من كل ما يُشوّه أرواحَنا ويهبط بمجتمعنا.

المدهشُ أن صبحى يفعل هذا عبر الضحكة والابتسامة، لا عبر التجهم والعبوس. فلعلّه الوحيد القادر على جعلك تضحك وأنت تفكر، وتبتسم وأنت تعيد حساباتك، وتبتهج وأنت تحاكم نفسك! الكوميديا حاملة الرسالة، معادلةٌ صعبة لئلا أقول: مستحيلة. لهذا أُطلقُ عليه مايسترو المسرح، فهو ليس وحسب فنانًا موهوبًا عزّ نظيرُه، بل مخرجٌ وكاتبٌ مثقف وقائدُ أوركسترا مسرح، لا محلَّ للإخفاق فى أعماله.

فارس يكشف المستور، فى موسمها الثالث، ومازالت ترفع لافتة كامل العدد، ليست وحسب مسرحية كوميدية باذخة الجمال شأنَ جميع أعمال محمد صبحى، بل كشفٌ عميقٌ عن المستور فينا نحن، كمجتمعات ترقصُ على حافة الحقيقة، وتساعد الأعداءَ، دون قصد، على عدم سقوط الأقنعة عن وجوههم الشائهة.

نجح صبحى المرّةَ تلو المرّة، وعلى مدى الخمسين عامًا، فى إعادة المسرح إلى وظيفته الأصلية: المنبر الحرّ الذى يصدمُ ويواسى، يُضحكُ ويجلد، يداعبُ العقلَ ويوقظُه، يرشقُ سهمَه فى قلب الضمير عبر كوميديا فارْس Farce لا تتوقف فيها عن الضحك والتفكير.

الفارسُ فى الوعى التاريخى، وفى الذاكرة البصرية، هو صوتُ الحق المنادى بيقظة الوعى فى أزمنة التغييب والخنوع. هكذا يعود هرمس وقد وجد جوادَه ليُعيد على الأبناء والأحفاد سرد بنود بروتوكولات حكماء صهيون التى تتحقق يومًا بعد يوم بمساعدة أمريكا، وغفلتنا. لم يمتطِ الفارسُ جوادًا خياليًا ليطارد خيوط المؤامرة على الهُوية، بل ترجّل عن صهوة الأوهام ليحفر فى أرض الجَد، باحثًا عن كنزٍ دفنه السلفُ وحصده العدو. الأحفادُ عليهم مواجهة المعركة القديمة ذاتها التى لم يُنهها الأجدادُ، لكنها هذى المرة ليست وحسب معركة السلاح والاحتلال، بل معركة القيم والانتماء، والانهيار الداخلى المنظم.

هنا تتجلّى عبقرية صبحى، المايسترو الذى لا يعظ ولا يصرخ، بل يُضحكنا وهو يأخذ بأيدينا ليُجلسنا أمام مرآة الحقيقة، فنشخُص فى صفحتها، ونتأمل وجوهَنا المتكسّرةَ على وجه الواقع المُر.

ليس فى أدبيات المسرح العربى من يمرِّرُ الضحكةَ عبر العقل كما يفعل مسرح صبحى. الضحكُ عنده ليس ترفيهًا ولا انفعالًا مجانيًا، بل تمرينٌ على التفكير والمواجهة، ولونٌ من التواطؤ المؤقت مع الذات حتى تفيق. مسرح صبحى، مثل دراما بابا ونيس، يُضحكنا لكى نفكر، لا لننسى.

فى عائلة فارس، تترامى الرموزُ: بين جَدّ يمثل الهُوية المنسية، وحفيد فارس يمثّل الضميرَ اليقظ، وزوجة تمثل مرآة المجتمع، وأطفال يمثلون الأمل. عبر تلك الرموز يُسلَّطُ الضوء على اللعبة الأمريكية التى تُدارُ باحتراف فى دعم إسرائيل لنخر البيت العربى من الداخل.

مسرحية فارس يكشف المستور كوميديا غنائية استعراضية، تُعرض على مسرح مدينة سنبل، من تأليف وإخراج وبطولة الفارس محمد صبحى. شارك فى كتابتها أيمن فتيحة. ديكور محمد الغرباوى، أشعار عبد الله حسن، موسيقى شريف حمدان. وبطولة الفنانين: وفاء صادق، كمال عطية، رحاب حسين، أنجيلكا أيمن، ليلى فوزى، داليدا، مصطفى يوسف، محمد شوقى، منة طارق، داليا نبيل، حمدى السيد، مايكل ويليام، حلمى جلال، محمد عبدالمعطى، علاء فؤاد، جمال عبدالناصر، وليد هانى، والأطفال: مريم، ريماس، لمار، بلال.

محمد صبحى لا يكتب مسرحًا، بل ينسجُ ضميرًا. لا يقدم عرضًا، بل يستنفر الوعى الجمعى ليصحو. فى زمن تتناسل فيه المسارحُ الهزيلة، يظل صبحى الفارسَ والمايسترو الذى يجرؤ على كشف لا المستور وحسب، بل ما فينا من صمت.