القائمة الأقباط اليوم أبحث
أهم الأخبار

العمى الأبيض .. بقلم خالد منتصر

أسوأ أنواع العمى، ألا تدرك أنك أعمى، هكذا صرخ ساراماجو فى وجوهنا وأزعجنا من سباتنا العميق واطمئناننا المزيف، جوزيه ساراماجو، هذا الروائى البرتغالى الساحر، جامح الخيال، الذى استخدم مشرطه

العمى الأبيض .. بقلم خالد منتصر

الروائى فى روايته البديعة العمى ليفضح قشرتنا الهشة التى ندعيها، النظام والقانون والأخلاق المفتعلة والفضيلة الزائفة، كشف الغطاء عن أخلاق القطيع التى تظهر لو كسرنا تلك القشرة الهشة، وظهرت عورات الجميع.

فكرة مجنونة تنهال على رأسك كمطرقة منذ الصفحة الأولى، رجل يقف بسيارته فجأة فى إشارة المرور، ويصرخ فى وجوه من يتشاجرون معه على تعطيلهم، لقد أصبحت أعمى، العمى مختلف، ليس ظلامًا دامسًا، ولكنه بياض كأنه غرق فى بحر من الحليب، إنه ليس إظلامًا إنسانيًا، بل محو لهوية، تبدأ سلسلة العمى المعدى.

بداية من عيادة طبيب العيون التى يلجأ إليها الأعمى الأول، نكتشف أن كل من فى العيادة قد أصيب بالعمى، الطفل، والفتاة العاهرة التى عميت فى الفندق أثناء اللقاء الحميم، الرجل الذى سرق سيارة الأعمى الأول، ثم الطبيب نفسه، انزعجت الدولة ونقلتهم إلى الحجر الصحى فى أحد مستشفيات المجانين، وهنا تنكشف العلاقات الحقيقية.

هناك قطيع عليه حرس من الخارج مرعوب من العدوى، يضعون لهم الطعام الشحيح خارج غرف الحجز، هناك شخص وحيد مبصر، هو زوجة الطبيب، عدسة الضمير التى تدعى العمى وهى تراقب المأساة، تتصاعد الأحداث، ويزداد عدد العميان الذين يدخلون الحجر والعزل، يتقاتلون على الفتات، يموت منهم من يقترب من الجنود، يدفنون الجثث بصعوبة، تعم الفوضى والقذارة، يصبح قضاء الحاجة فى الطرقات يمثل سجنًا آخر.

يصبح العدد ثلاثمائة داخل الحجز، يظهر كهل فى حوزته راديو، يستمعون بتعطش لأخبار الخارج، تظهر مجموعة عميان معهم سلاح، يسيطرون على الطعام، يزداد طمعهم فيطلبون مضاجعة النساء من الغرف الأخرى مقابل

الطعام، يوافقن، حتى الأزواج يوافقون على إعارة الزوجات مقابل الطعام، فلا معنى للشرف فى هذا المسلخ البشرى، لا يحمل شخص فى الرواية اسمًا، ساراماجو يتعمد التعمية على أسماء العميان، فنحن لسنا أمام شخص فقد بصره.

بل أمام مجتمع إنسانى فقد بصيرته، كيف سيواجه العميان شر سلطة السفاحين العمياء، يختلط فحيح الجنس بروائح القذارة النتنة والتعفن الشامل، الرغبات بالانكسارات، تصبح الرؤية عبئًا لا يطاق فى مجتمع العمى الأبيض، تشعل إحدى العميان النار فى المبنى، يهرب من ظل على قيد الحياة، لا حرس، لا جنود، فلقد أصابهم العمى، يخرجون إلى المدينة، لا أحد نجا من الوباء، سرقت الحوانيت.

هناك الأدوات الكهربائية متوافرة وموجودة، بلا كهرباء، وبلا طعام، سرقت البنوك، ماذا تفعل المدخرات فى هذا المجتمع؟، يبحث كل منهم عن بيته القديم، وجد البعض شقته يحتلها آخرون، والبعض الآخر لم يهتد إلى بيته، عاد إليهم البصر فجأة، لكنهم أدركوا أنهم كانوا عميانًا وهم يظنون أنهم يمتلكون البصر، لقد انكشف الغطاء وسقط القناع، وانكسرت القشرة الأخلاقية الزائفة عن مجتمع الضباع.

رواية من عيون الأدب العالمى، فاز صاحبها بجائزة نوبل 1998، رواية مشحونة بالدلالات والرموز، رسائل مغلفة بسيلوفان الإبداع الفاتن، الإنسان أصله ذئب لكنها الفرصة، العمى حضارى وأخلاقى وإنسانى، قبل أن يكون بيولوجيًا، ليس الخطر ألا نرى.

لكن الخطر الحقيقى أن نرى الحقيقة فنخفيها ونضع عليها عصابة سوداء، استخدم ساراماجو جملًا طويلة متدفقة سيالة بلا فواصل، مشوشة تشويش العميان، الرواية فاتنة، صادمة، نافذة إلى أعماق الروح، ونافذة على أطلال الروح.

خالد منتصر - المصرى اليوم
03 ديسمبر 2025 |