سعادتى بظاهرة انتشار الملابس الفرعونية على الفيسبوك فى مصر بمناسبة افتتاح المتحف المصرى، وافتخار كل مصرى بأنه ينتمى إلى تلك الحضارة المصرية القديمة العظيمة، سعادة ليس مصدرها بهرجة الألوان، ولا
الكرنفالات، هى حالة تؤكد أن المصرى ما زالت فى أولوياته قضية استعادة الهوية، والبحث عن إجابة من نحن، فى 30 يونيو كان الخروج المصرى للاحتجاج على الإخوان، خروجاً غرضه الأساسى وهدفه الرئيسى، ليس
الكهرباء أو البنزين، برغم الضائقة الاقتصادية، لكنه كان الخروج من أجل استعادة الهوية التى أحس المصريون بأنها قد اختطفت عنوة، نشلها الهكسوس من جماجم الشعب التى وضع فيها مفردات ومعاجم وقواميس
وسلوكيات غريبة عن هويته المصرية، تنتمى إلى مناخ آخر، وبيئة مختلفة، ودول ناشئة لا تمتلك تاريخنا أو ثقافتنا الضاربة فى جذور التاريخ، والآن ومع الاحتفال بالمتحف المصرى الكبير، هذا الإنجاز الضخم
والعظيم والمبهر، كانت هذه الهبة الفيسبوكية للتعبير عن هوية المصريين المتفردة، والتى برزت من تحت رماد هجمات التكفير وفزاعات التخويف واتهامات الردة عن الدين..الخ، لم يهتم المصريون بكل ذلك، بل
اتخذوه مادة للتندر والسخرية، السؤال المهم الآن، هل نحن فرحون فقط بالمبنى الضخم والمساحة الواسعة والأحجار الشامخة والتماثيل المهيبة، أم أن هناك شيئاً آخر يجعلنا نفرح بهذا الإنجاز، ونعتبره دفعة
للأمام فى قضايا اجتماعية وثقافية ستشكل رؤيتنا للمستقبل؟، الفرحة فى رأيى الخاص أن المتحف خطوة كبيرة على طريق التنوير، فالحضارة المصرية القديمة لم تكن حضارة نحت حجر فقط، لكنها كانت حضارة تنوير بشر
فى المقام الأول، الاحتفاء بالمتحف المصرى الكبير ليس مجرد حدث ثقافى أو أثرى، أو رحلة فرجة من رؤساء وملوك على آثار مصرية، أو أضواء واحتفالات وزينة وورد، بل هو فعل تنويرى شامل يعيد وصل الحاضر
بالماضى ليؤسس لوعى جديد بالهوية والعقل والعلم، لماذا أعتبر المتحف رمزاً تنويرياً؟، المتحف المصرى الكبير لا يعرض التماثيل والتحف فحسب، بل يعرض فلسفة الإنسان المصرى القديم الذى قدّس العقل
والنظام والمعرفة، كل قطعة أثرية هى شاهد على عقل علمى وفنى سبق عصره: فى الطب والهندسة والعمارة والقياس الدقيق وتحدى الزمن، الاحتفاء بهذا التراث هو احتفاء بالعقل المصرى المبدع الذى أسس مبكرًا لقيم
التنوير قبل أن تُصاغ كمصطلح فى أوروبا بآلاف السنين، وحين تحتفى الدولة والمجتمع بالمتحف، فإنها تُرسل رسالة قوية ضد الخطابات المعادية للتاريخ والهوية التى تعتبر الفراعنة كفارًا وتماثيلهم
أصناماً، لمتحف يصبح منبرًا للعقلانية والاعتزاز بالهوية العلمية والفنية، فى مواجهة من يريد حصر الهوية فى بعدٍ دينى ضيق أو منغلق، المتحف يقول للجميع: نحن أبناء حضارة علّمت العالم، ولسنا عالة على
أحد، نحن فجر الضمير، وسنكون طليعة التنوير، المتحف ليس مكانًا للفرجة وللمشاهدة فقط، بل مدرسة للتفكير النقدى والتعلم الجمالى، الطفل فى رحلاته المدرسية حين يرى بردية أو تمثالًا يتعلم من خلالها قيم
النظام، والتفكير الرمزى، واحترام الفن والعلم، وبهذا يصبح المتحف أداة تربوية تنويرية، تزرع فى الأجيال الجديدة عقلًا ناقدًا يقرأ الرموز ولا يحرقها أو يكرهها، الاحتفاء بالمتحف المصرى الكبير يفتح
حوارًا عالميًا حول التنوير الإنسانى المشترك، الزوار من الشرق والغرب يرون أن المصرى القديم لم يكن نقيضًا للعلم أو الدين، بل كان جامعًا بين الروح والعقل، هذا يعزز قيم التسامح والتعددية الثقافية،
وهى من أهم أعمدة التنوير الحديث، وللأسف تلك القيم أصابها بعض الضعف والوهن، ولابد من نفخ الروح فيها مرة أخرى، سيعرف كل زائر مصرى أو أجنبى أنه فى قلب العقيدة المصرية القديمة كانت ماعت إلهة الحق والعدالة والنظام رمزًا للعقل الكونى الذى يضبط كل شىء.
المصريون رأوا أن العالم لا يقوم على الفوضى أو المصادفة، بل على عقل كونى منظم يحكم حركة الشمس والنيل والحياة والموت، وهذا العقل الكونى هو نفسه ما يجب أن يتحلى به الإنسان، التفكير،
الاتزان، احترام النظام، والابتعاد عن الغريزة العمياء، فالتنوير المصرى لم يكن فلسفة نظرية، بل سلوك يومى نابع من قناعة أن العقل هو صلة الإنسان بالكون، وليس الخرافة، سيعرف الزائر أن
العلم فى مصر القديمة لم يكن سحرًا، بل كان ثمرة تفكير منطقى وتجريبى، ففى الطب كتب المصريون أقدم البرديات الطبية (مثل بردية إدوين سميث)، وفيها تشخيص منطقى وعلاج عملى قائم على
الملاحظة، وفى الهندسة سيعرف ويبحث ويسأل، كيف شيدوا الأهرامات بتلك الدقة المذهلة عبر حسابات هندسية وفلكية منضبطة، تعكس عقلًا رياضيًا تجريبيًا سبق الفلاسفة الإغريق، سيطلع على
إسهاماتهم فى علم الفلك، فقد راقبوا النجوم ونظموا التقويم بدقة عقلية تربط الزمن بدورة الطبيعة، كل هذا وغيره يعنى أن المصرى القديم كان يمارس التفكير العلمى الناقد قبل أن يُصاغ
كمصطلح حديث فى الفلسفة الحديثة، لكن هل اهتم المصرى القديم بالعقل والعلم فقط؟، بالطبع لا، المصرى القديم لم يفصل بين العقل والأخلاق، ففى محكمة أوزيريس بعد الموت، لا تُوزن الأعمال
المادية فقط، بل القلب نفسه، مقرّ العقل والنية، القلب الذى ينطق فى مفهومهم بالحق ويُحاسَب على التفكير الخاطئ قبل الفعل، بهذا المعنى، كان العقل عند المصريين ضميرًا أخلاقيًا
وروحيًا، لا مجرد أداة حساب أو برهان، أما الفن فحدث ولا حرج، التوازن واحترام النسب والحوار مع الكون والهيبة والقداسة والانسجام والايقاع، سيرسخ المتحف قيم التنوير، ويؤكد أننا كما كنا فجر الضمير، كنا أيضاً نبع التنوير.



