أصبحت المنيا منذ بداية القرن الحالي "عروسة الفتنة الطائفية" في مصر، فوتيرة الأحداث والتوترات الطائفية في قرى المنيا هي الأعلى في المحروسة، بل ربما تحولت إلى المركز الرئيسي والوحيد للتوترات الطائفية.. لماذا؟
تتعدد وجهات النظر بالطبع ولكن لمدرسة الديموجرافيا السياسية مساهمة لفهم ما يحدث فيالمنيا ولماذا هي تربة خصبة للتوترات الطائفية؟.. وأكرر مجرد مساهمة وليس التفسير الوحيد والناجع..
الإجابة بالنسبة لمدرسة الديموجرافيا السياسية هو ريف أقل تعليماً وأكثر فقراً مع ارتفاع نسبة الشباب والصراع على حيز صغير من الأرض ليأخذ الشكل الأكثر فجاجة أو سهولة في نفس الوقت وهو الصراع الطائفي المقيت..
إن التوترات الطائفية في المنيا مركزها الريف والقرى الفقيرة، فالمدن الكبرى في المحافظة هادئة تماماً ..
المنيا حالة ديموجرافية فريدة في مصر، نسبة الأقباط (بحسب تقديراتي وبحسب اسقطاتي من نتائج الأعدادية للمحافظة عام 2024) في ريف المنيا تزيد عن 15%.. وهي نسبة مرتفعة للغاية، حيث إن الأقباط في الصعيد وحتى في أسيوط
يتركزون في المدن وليس في الريف.. هذا التمركز للأقباط في الريف وارتفاع نسبتهم نسبياً، يجعل احتمال التوترات الطائفية ترتفع في المحافظة التي يبلغ عدد سكانها اليوم نحو 6.580 مليون نسمة من بينهم 4 ملايين يقطنون الريف..
ويمتاز ريف المنيا بانه صاحب أعلى معدل نمو سكاني في مصر كلها بنسبة تتجاوز 2.5% سنوياً ويرتفع نسبة الشباب إلى أكثر من 40% من السكان .. مما يجعله تربة خصبة لما يعرف في مدرسة الديموجرافيا السياسية لارتفاع معدل العنف "الاجتماعي".
ويتوافق مع ارتفاع نسبة الشباب والنمو المطرد للسكان في المنيا ارتفاع نسبة الفقر إلى 54% بحسب بيان وزارة التخطيط المصرية والتي تصل بحسب اسقاطاتي إلى أكثر من 70% في ريف المنيا..
ارتفاع نسبة شباب ومعدل فقر مرتفع للغاية يترافق مع انخفاض معدلات التعليم الجامعي في ريف المنيا، حيث يعد ريف المنيا هو الأقل في مصر كلها من حيث نسبة المتعلمين جامعياً بحسب البيانات المتوفرة...
كل ما سبق يجعل ريف المنيا تربة خصبة للعنف الاجتماعي وهو العنف بسبب الكثافة النسبية "الفريدة" للأقباط يأخذ الشكل الأسهل للصراع الاجتماعي وهو العنف الطائفي.. وبالطبع في ظل أن الأضعف يصبح الهدف من هذا العنف فإن الأقباط يصبحون الهدف..
فهنا اتفق مع الأنبا مكاريوس أسقف المنيا بأن الاحتقان موجود في المنيا منذ عقود والوضع قابل للاشتعال في أي وقت بسبب عدم البحث عن الجذور..
إن انتشار الفقر والمرض والجهل وارتفاع البطالة تمثل مرتعًا للفكر المُتشدد ولكنَّها ليستْ سببًا مباشرًا للطائفية، وإلا كانت أسيوط أو سوهاج أو بني سويف هي مراكز هذه الأحداث وليس المنيا. ولكن الطبيعة الخاصة لريف المنيا هي التي تجعله مركزاً للتوترات الطائفية.
الأحْداث الطائفيّة في المنيا مركزها الرئيسي ليس المدينة بل الريف. وأغلب الأحداث مركزها محاولة الأقباط البحْثَ عن مكانٍ للصلاة أو صراع عائلي ممتد أو أحداث هامشية مثل العلاقات العاطفية والخلافات التجارية.
في اللحظة الراهنة اتفق تماماً مع ضرورة سلطة القانون لحل التوترات الراهنة وفرض قوة الدولة .. ولكن الصراع الاجتماعي وحله يحتاج لخطة ممتدة وبالنسبة لمدرسة الديموجرافيا السياسية فإن الحل متوسط المدى هو تحويل موارد الدولة لزيادة نسب التعليم الجامعي في ريف المنيا والتركيز على تحويل الريف إلى حضر من خلال انشاء مدن جديدة ونقل النشاط الاقتصادي والتفاعل الاجتماعي من الريف إلى الحضر..
ولتصبح الصورة أكثر وضوحا، فإن تركز الأقباط في المدن بمحافظة أسيوط وارتفاع معدلات التعليم الجامعي في أسيوط بشكل كبير خلال ربع قرن قاد اليوم إلى تراجع التوترات الطائفية في عاصمة "الطائفية" سابقاً في المحروسة إلى الحد الأدني بل ربما أصبح نادراً أن نسمع عن عنف طائفي في أسيوط وهو ما ينطبق كذلك على بني سويف وسوهاج، بينما أصبح ريف المنيا ينفرد تقريباً بالتوترات الطائفية..
إن المشهد في ريف المنيا يصنع ما تعرفه مدرسة "الديموجرافيا السياسية" بـ"شيطان الديموجرافيا"، حيث يتحوَّل أيُّ نزاعٍ أو علاقة عاطفية عابرة إلى حدثٍ طائفيٍّ بامتياز، باعتبار أنَّ الدِّين هو أسهل القوى المُحركة للمصالح في الرِّيف المُقَسَّم على أساس طائفيّ أو دينيّ.
هكذا أصبح المشهد، تكاثرٌ غير مُعتادٍ للأقباط في قرى صغيرة، وبالتَّالي احتياجٌ متزايدٌ للخدمات ودُور العبادة وسط مُحيطٍ ريفيٍّ تقليديٍّ، وغيابٍ للدولة وانتشارٍ للفكر المُتطرّف والجهل والفقر والمرض. النتيجة هي صدامٌ يوميٌّ على قاعدة طائفيّة ودينيّة.
"شيطان الديموجرافيا" يلعب بالتفاصيل ويدور في فلك الأسباب العامّة للأحْداث الطائفيّة في برّ مصر ولكنْ في المنيا، إن لم تُدركْ تمامًا أنَّ الوضْع قابلٌ للانفجار، لن تنجحَ في الوصول إلى الحلّ، فالطائفيّة ليستْ قدرًا ديموجرافيًّا، ولكنْ إنْ لم تُدركْ مع أيِّ واقعٍ تتعامل وأي تفاعلاتٍ، فإنَّك ستفقد بوصلة الوصول إلى الحلّ الصحيح.
وفي النهاية اتفق مع الصديقة النائبة مها عبد الناصر واطرح معها للنقاش ما ذكرته بأن أحدث في المنيا لا يمكن اعتباره حادثاً فردياً أو خلافاً عابراً، بل هو واقعة
طائفية تمسّ نسيج الوحدة الوطنية وتستوجب تحركاً فورياً من أجهزة الدولة كافة، لأن تكرار هذا النمط من الأحداث في المحافظة ذاتها على مدى السنوات الماضية يؤكد وجود
جذور اجتماعية وثقافية تحتاج إلى دراسة ومعالجة شاملة، ولا يجوز بأي حال أن نكتفي بالمعالجات الأمنية المؤقتة أو بالتصالحات الشكلية التي لا تُنهي أسباب التوتر من جذورها.



