القائمة الأقباط اليوم أبحث
أهم الأخبار

حين يُهان القانون باسم "الصلح العرفي" في قرية الجلف بالمنيا

بقلم نادر شكري

في واقعة مؤسفة تهزّ الضمير الوطني وتضرب هيبة الدولة في مقتل، شهدت قرية الجلف بمركز بني مزار بمحافظة المنيا واحدة من أكثر صور التعدي على دولة القانون فجاجةً، بعدما تحوّلت جلسة "عرفية" إلى محكمة فوق القانون، تحكم وتغرّم وتهجّر، وكأننا في زمنٍ غابت فيه العدالة وحلّ مكانها منطق الغوغاء!

حين يُهان القانون باسم "الصلح العرفي" في قرية الجلف بالمنيا

كيف يُعقل في دولة دستورها ينصّ على المواطنة والمساواة، أن يُعاقَب جدٌّ وأبٌ وأسرة بأكملها على خطأ فردي لم تثبت إدانته بعد؟، وكيف تُفرض غرامة بمليون جنيه وتهجير لأسرتين تحت لافتة "التراضي"، في حين أن هذا التراضي جاء بعد

إرهاب وترويع للأقباط، واعتداء على منازلهم ومزارعهم، وظلوا محبوسين بمنازلهم خوفًا من الاعتداء عليهم؟ أي تراضٍ هذا الذي يأتي تحت الخوف؟ وأي عرفٍ ذاك الذي يعلو فوق القانون؟ لقد ازاح العرف مؤسسات القانون ولم يترك له مساحة للتطبيق.

ما حدث في الجلف ليس مجرد جلسة صلح، بل انقلاب على مبدأ سيادة القانون، حين يُترك أمر الفصل في نزاع إلى مجموعة من الأفراد، مهما كانت نواياهم، ليحكموا بالغرامات والتهجير والقيود على المواطنين، فإننا أمام انتهاك صارخ للدستور، وإقرار عملي بأن العُرف فوق الدولة، وأن العصبية أقوى من مؤسسات العدالة.

فالدولة لا تُدار بالأمزجة، ولا تُبنى بالهتافات أو بالترضيات المؤقتة، فالدولة الحديثة لها مؤسسات قضائية، وأجهزة أمنية، ودستور يضمن العدالة والمساواة. أما الجلسات العرفية فهي باب خلفي للتمييز والظلم، تُسكت الضحية وتُرضي الجاني باسم "السلام الاجتماعي"، لكنها في الحقيقة تهدم الثقة في العدالة وتُكرّس لثقافة الإفلات من العقاب.

• التهجير جريمة لا تُغتفر

ما جرى واذيع في جلسة العرف لأسرة بالتعهد بمغادرة اسرة الشاب للقرية وبيع منزلهم " هو وصمة عار في جبين كل من صمت، فالتهجير القسري لا مكان له إلا في زمن الحروب، وليس في قرى يفترض أنها تحت مظلة دولة القانون.

أن يُجبر مواطن على بيع منزله ومغادرة أرضه فقط لتهدئة النفوس، هو جريمة إنسانية ودستورية لا يبررها أي "عرف" أو "مجاملة".

• ين الدولة؟ وأين مؤسساتها؟

أين مؤسسات العدالة التي يُفترض أن تحمي الضعفاء؟، كيف تُترك قرية بأكملها فريسة للتحريض على وسائل التواصل، ولتجمهرات ترفع الهتافات الدينية وسط صمت غير مبرر؟ أليس من واجب الدولة أن تواجه هذا التسيّب بكل حزم

لتعيد الثقة في العدالة والمواطنة؟ فنحن كنا ننتظر بيان يوضح الحقائق وهل تم القبض على المحرضين المعتدين وكم عددهم، علما أن الشاب القبطي المتهم تم القبض عليه واحالته للنيابة فماذا عن المهاجمين لمنازل الأقباط

• لا عرف فوق القانون

البلد الذي يُسمَح فيه للعُرف أن يُهين القانون، سيفقد مع الوقت هيبته واحترامه، فالسكوت على ما حدث في الجلف اليوم، يعني أننا نفتح الباب لغدٍ يُحاكَم فيه أي مواطن على دينه أو أصله أو عائلته، لا على فعلته، بل فكرة العقاب الجماعي للقرية لخطأ فرد أمر لا يجب أن يظل قائم في الجمهورية الجديدة.

العدالة لا تكون بالهتافات، بل بسيادة القانون وحده، ومَن يرضى بالجلسات العرفية كبديل عن القضاء، إنما يشارك في تقويض الدولة من داخلها.

• شروط جلسة الصلح

وقد أقرت الجلسة أن هذا الصلح تم بالتراضي بين الطرفين، حيث تم حلف اليمين للطرفين، مؤكدين أن الموضوع لم يكن له ترتيب أو إعداد مسبق، وإنما كان تفكيرًا وليد اللحظة من شاب طائش، وقد قبل الطرفان الشروط ووُضع الشرط الجزائي على الطرفين، وتعهد الطرف المسيحي بالتزام أمام الحضور عليه تنفيذه، وأن الجانب القضائي لا دخل للطرفين فيه.

وخرج أحد قادة الجلسة ليعلن في مكبّر صوت لكل أهالي القرية عن شروط الجلسة وهي:

• تغريم "نابليون" جدّ الشاب مليون جنيه غرامة.

• وضع شرط جزائي بين الطرفين بمليوني جنيه لأي طرف يخل ببنود الاتفاق.

• الاستمرار في الإجراءات القانونية للمتهم المقبوض عليه وترك الأمر للقانون.

• التوقف عن أي كتابات على وسائل التواصل الاجتماعي والتأكيد على الإخاء بين أبناء القرية ووحدتها.

• أن يشرف على تنفيذ الاتفاق "العمدة محمود" عمدة القرية.

وحول التهجير ترك الأمر لقبطي من القرية يتحدث للأهالي، والذي أعلن التزامه بأن يبيع سامح إسحق والد الشاب المتهم منزله ويغادر القرية، وكذلك الجد "نابليون". وقد دوّى التصفيق والهتافات بين أهالي القرية بعد إعلان مغادرة أسرة الشاب المتهم للقرية.

• ماذا بعد

ما حدث في قرية الجلف ليس حادثًا عابرًا، بل هو حصاد سنوات طويلة من الصمت والتراخي أمام هذا الملف الخطير.

لقد تكرّر المشهد ذاته في قرية الكرم بمركز أبو قرقاص عام 2016 حين تم حرق منازل وتعرية سيدة مسنّة بسبب شائعة، وثبت لاحقًا براءة الشاب القبطي، وكذلك في أشروبة وكوم الفواخر وغيرهما من قرى المنيا التي انتهت جميعها بالجلسات العرفية، لا بالقضاء، وفى أحداث كثيرة كان الأمر يحل بالعرف

فما حدث اليوم بالجلف قد يعطي ذريعة لتكرار الأمر في قرى أخري اذا ما وقع أي خطأ فردي أو شائعة كاذبة، فالسوشيال ميديا تحتفي اليوم بقرية الجلف " أنهم رجاله لانهم كان سبب لمغادرة الأسرة للقرية"، فقد نجد السيناريو يتكرر في مناطق أخري وهو ما يصعب الأمر على الدولة وأجهزتها.

إن استمرار هذا النهج سيجعل من كل شائعة أو خطأ فردي شرارةً تشتعل في قرية أخرى، وهو ما يُشكّل تهديدًا خطيرًا للسلم المجتمعي ولجهود الدولة في تثبيت أركان العدالة.

ولذا نطالب بتحقيق رسمي وشامل في وقائع الجلسة العرفية بقرية الجلف، ومحاسبة كل من شارك أو حرّض أو تواطأ، ووقف تهجير الأسرة، والتي غادت القرية سريعا مع بداية الأحداث، أن يترك الأمر للقانون لمحاسبة أي مخطىء السواء الشاب القبطي أو المعتدين

والمتجمهرين بالقرية، وأن تتدخل المؤسسات المعنية الثقافية والفكرية والدينية والرسمية والمدنية للعمل بالقرية من أجل فتح حوار بين الجميع بشأن دولة القانون، وأهمية الالتزام بها، وأيضا محاسبة المحرضين، من أجل وطن يبنى لأجل العدالة بين الجميع.

يجب أن يُترك الأمر للقانون وحده، ليحاسب أي مخطئ — سواء الشاب المتهم أو المعتدين أو المحرضين — وأن تتدخل المؤسسات الثقافية والفكرية والدينية والمدنية للعمل في القرية، لفتح حوار حقيقي حول معنى دولة القانون وأهمية الالتزام بها.

إن الصلح العرفي ليس مرفوضًا في ذاته، فقد يكون مقبولًا في نزاع جيرة أو خلاف أرض بالتراضي الكامل بين الأطراف، لكن بشرط ألا يتجاوز القانون أو يحلّ محله.

فلا وطن بلا عدالة، ولا عدالة بلا قانون، ولا قانون في ظل عرفٍ يُرهب ويُهين الإنسان باسم "الصلح"

نادر شكري - أقباط متحدون
26 اكتوبر 2025 |