-تغير المناخ أحد أسباب انهيار الأرض في المنطقة المنكوبة
-ترسين قرية فوق قمم بركانية غابت عنها البنية التحتية والإنذار المبكر

-الانزلاق الأرضي ابتلع ألف نسمة وفرق الإنقاذ انتشلت 370 جثة فقط
-النزاع وغياب المساعدات حاصرا الأهالي ومنعهم من النجاة
قبل أسبوعين من اليوم، لم يكن الصباح سوى شاهد على مأساة لم يعرف التاريخ لها مثيلاً؛ حينما فتحت الأرض فاها لتبتلع ألف روح دفعة واحدة، في إحدى قرى دارفور السودان- أجساد
حاصرها الركام وقيدتها الصخور، أصوات كَمَمها الطين رافضاً أن تستنجد بالحياة، فخفتت رويدا وريدا كأمانة أودعت في باطن الجبل. وهجينا جديداً؛ لحم ودم اختلط بالتراب، ليخصب
أرضاً عطشى لا تشبع من الدماء، في لحظة واحدة، سقطت القرية في فم الطبيعة، لتغدو المأساة شهادة دامغة على أن الاحتباس الحراري لم يعد أرقاما في تقرير علمي، بل دماء وأحلام تبتلعها الأرض.
لم تكن هناك كاميرات تتباكي، ولا ساسة يتسابقون إلى التقاط الصور على أطلال القرية. ولا أثر لتنمية ابتدائية ولا مستدامة، تلكالتي ينادي بها خبراء المناخ، هناك لا سبيل
للوصول إلا مشيا على الاقدام أو حملا فوق ظهور الدواب، غاب العون، تاركاً اولئك الذين دفنوا في مقبرة من الطين الجبلي.. إنها واحدة من أبشع الكوارث الطبيعية التي شهدها
السودان مؤخرا، ابتلعت الأرض قرية بأكملها في منطقة جبل مرة بدارفور، إنها قرية ترسين المنكوبة، التي تقع على بعد أكثر من 900 كيلومتر غرب العاصمة الخرطوم. ويسكنها حوالي الف نسمة.
بعدما تسبب انهيار ضخم للتربة إثر انزلاقات أرضية عنيفة أعقبت أمطاراً غزيرة يومي الأحد والاثنين 31 أغسطس و1 سيتمبر، تسببت في طمر المنازل وسكان المدينة البالغ تعدادهم حوالي ألف نسمة، تحت
الركام، بحسب ما أكدته السلطات المدنية التابعة لحركة جيش تحرير السودان المسيطر على المنطقة.لم ينج منهم سوى شخص واحد، يحمل على كتفيه الآن وجع قرية كاملة اختفت من الوجود. أمام عينيه فظل صامتا
لأيام بعد نجاته، وحينما تحدث وصف المشهد بأنه صمت القبور فقال: سمعت صرخات النساء والأطفال قبل أن يُطمر كل شيء. ولم يتبق في بلدتنا أي شيء، لا بيوت ولا أشجار ولا أي أثر للحياة، بل صمت يُشبه صمت القبور.
الكارثة جرحت الوجدان الإنساني، وذَكرتنا كم هو هش الإنسان أمام قسوة الطبيعة حين تغضب، في مشهد يعكس فداحة المأساة الإنسانية وهشاشة المجتمعات المحلية أمام التغيرات المناخية والكوارث الطبيعية، خاصة في بلد تمزقه الحرب ويعاني من أزمات إنسانية متلاحقة.
الأراضي المحررة
كانت ترسين قرية وديعة تقع على جنبات جبل مرة، يقطنها أفراد من قبيلة الفور الذين امتهنوا زراعة بساتين الموالح والفواكه. تتدفق الشلالات من أعالي الجبل لتروي الحقول وتمنح الأراضي خصوبة نادرة، بينما
يعيش السكان حياة بسيطة بعيدة عن ضجيج النزاعات التي تحاصر دارفور منذ سنوات طويلة. بل ويفر اليها الهاربين من القتال بين قوات الدعم السريع والجيش السوداني. لكن عضب الطبيعة يكون أشد احيانا من اقتتال البشر .
ظل السكان يعتقدون أن طبيعة الجبل البركانية الصلبة تمنحهم حصانة طبيعية، رغم غزارة الأمطار التي تهطل باستمرارعلى المنطقة، وأن رسوخ جبل مرة في التاريخ يحميهم من الأخطار. مثلما ساعدت تضاريسه الوعرة على مدار عقود في تحصينهم من أي هجمات مسلحة، إذ كانت المنطقة تعتبر ملاذا آمنا تحت سيطرة حركة عبد الواحد محمد نور أو ما يسمى بجيش تحرير السودان ، وتُعرف بين الأهالي بأنها أراض محررة.
السقوط في الهاوية
لكن في صباح الاثنين الموافق الأول من سبتمبر وبعد يوم من ابتلاع الأرض للقرية تلقى الكاتب الصحفي السوداني المتخصص في شؤون دارفور، موسى جودة، رئيس تحرير موقع أفريكان مترس شهادات عن
الواقعة التي بدأت بالانزلاقات الأرضية مع فجر الأحد. ومع تزايد التهدم حاول سكان القرية إجلاء النساء والأطفال نحو المرتفعات، لكن سرعة الانهيارات لم تمنحهم فرصة للنجاة، فانطمرت
القرية خلال ساعات. تلاشت فيها استغاثات الناس شيئاً فشيئاً مع ابتلاع الأرض لهم.، وذكر جودة أن رجلاً واحداً فقط نجا بعدما تشبث بجذع شجرة كبيرة حال دون سقوطه في الهاوية، وتم إنقاذه لاحقا.
خريطة بلا ترسين
الانزلاقات الأرضية محت القرية بالكامل من الخريطة. وفقا لبيان حركة جيش تحرير السودان وأن أكثر من ألف شخص لقوا مصرعهم في قرية ترسين بدائرة أمو في إقليم دارفور، ودعت الحركة الأمم المتحدة والمنظمات الدولية والإقليمية إلى التدخل العاجل والمساعدة في انتشال القتلى الذين ما زال المئات منهم مدفونين تحت الركام.
وبينما أعلنت الحكومة السودانية عن تمديد فتح معبر أدري الحدودي مع الدولة الجارة تشاد، تزامناً مع كارثة قرية ترسين مؤكدة أن الجهود المحلية وحدها غير كافية أمام حجم الدمار. تم انتشال 370 جثة ودفنها، بحسب
إبراهيم سليمان، المسؤول في الإدارة المدنية بمحلية دارمو التي تقع بها قرية تراسين، في مقطع فيديو نشرته حركة تحرير السودان:إنه. والذي أكد أن كثيرين آخرين ما زالوا محاصرين تحت الأنقاض أو جرفتهم مياه الفيضانات.
الوصول فوق ظهور الحمير
وعمليات البحث لا تزال مستمرة، ولكن وفقا لمحمد الناير، المتحدث باسم حركة تحرير السودان التي يقودها عبد الواحد نور لم يتم التمكن من الحصول على أرقام أكثر دقة عن
الناجين أو القتلى بسبب وعورة الطرق وتساقط الأمطار الغزيرة ، الذان يحدان من الوصول إلى البلدة النائية في عمق الجبل، مشيرا الى انه لا توجد وسائل اتصال، مما يُصعب
مهمتنا في تحديث المعلومات، موضحا أن الأمر يتطلب السير على الأقدام أو فوق ظهور الحمير الدواب، لعدة ساعات للوصول إلى أقرب منطقة داخل نطاق شبكة الاتصالات لتزويدنا بالمستجدات.
جبل مرة .. قمم بركانية
تقع ترسين فوق جبل مرة القابع على قمم بركانية خامدة، ويقع في ولاية وسط دارفور بارتفاع يصل إلى 3,000 متر فوق سطح البحر، ويمتد على مساحة 12,800 كيلومتر مربع، ولم يكن الحادث هو الأول، فوفقًا لبعثة الأمم المتحدة والاتحاد الأفريقي في دارفور، والمنحلة الآن. في عام 2018، ضرب انهيار أرضي صغير المنطقة، مما أسفر عن مقتل 19 شخصًا على الأقل وإصابة العشرات الآخرين، وستة مفقودين،
وبينما تتكرر الوقائع تقفز المخاوف من تكرار الانهيارات الأرضية في البلدات الواقعة قرب المنطقة المنكوبة، مع استمرار هطول الأمطار بغزارة خلال هذه الأيام. وفي ذلك أوضح مركز عمليات الطوارئ التابع لوزارة الصحة السودانية في بيان رسمي أن الطبيعة البركانية للمنطقة تجعلها عرضة لانزلاقات إضافية في المستقبل، الأمر الذي يستدعي وضع خطط وقائية للحد من الخسائر المحتملة.
وبحسب لموسوعة براتيانيكا العلمية: فإن جبل مرة جبل بركاني خامد مكون من طبقات صخور بازلت، تراب رملي وطيني غير متماسك وشلالاته وبحيراته التي تمنحه مناخاً شبيهاً بمناخ البحر الأبيض المتوسط، حيث تهطل الأمطار على مدار العام، ما يسمح بزراعة محاصيل متنوعة مثل الموالح والتفاح والذرة والدخن.ورغم هذه المزايا الطبيعية، تشكل تضاريسه الانحدارية خطرا دائما.
كيف تعيش قرية فوق بركان؟
البعض يتساءل كيف يتم بناء قرية ويعيش الناس فوق جبل تحته بركان خامد؟ والاجابة تأتي في تقرير علمي لهيئة المساحة البريطانية تحت عنوان العيش مع البراكين يقول أنه حتى في ظروف
الهدوء، تخبئ الجبال البركانية وراءها تركيبة تربة نادرة وغنية بالمعادن، تجذب البشر إلى المكوث فيها، وهذا ما يفسر وجود قرى مثل ترسين فوق جبل مرة. فطبقات الرماد البركاني
والحمم المتجمدة تتحلل بفعل التعرية الكيميائية، فتطلق في التربة عناصر مثل الحديد والمغنيسيوم والبوتاسيوم والكالسيوم والفوسفور، التي تُعد عناصر أساسية لنمو المحاصيل الزراعية)
صهارة الأرض
يطلق على التربة ما بعد البركان صهارة الأرض، وتتكون من خليط من المعادن المنصهرة، الغازات، عندما تندفع الصهارة إلى سطح الأرض عبر البراكين، وتبرد، تتحول إلى حمم بركانية وصخور بركانية صلبة. لكنها ايضا عرضة جدًا للانهيار تحت ضغط المياه والأمطار عندما يختل التوازن البيئي فيها، والاختلال هنا ياتي من غياب البنى التحتية نتيجة النزاع، وتغير المناخ المؤدي الى تدهور الغطاء النباتي والجفاف
قسوة المناخ أهم الأسباب:
لم تكن ترسين مجرد قرية ابتلعتها الأرض في لحظة عابرة، بل كانت حكاية بشر حاصرتهم الطبيعة بوجهها الأشد قسوة. أمطار استثنائية هطلت كما لم تفعل من قبل، استمرت الأمطار لأيام فوق تربة هشة بالأساس،
تجاوزت نصف ما تم تسجيله في أقوى عاصفة بتاريخ المنطقة، وفقاُ للبيان العلمي الموسع الذي كشفت فيه الهيئة العامة للأرصاد الجوية السودانية عن نتائج تحليل شامل تناول الكارثة البيئية التي ضربت قرية ترسين.
أووضحت أن ما جرى لا يمكن اعتباره حادثاً عشوائياً، بل جاء نتيجة تفاعل مجموعة من الظواهر المناخية المتطرفة المرتبطة بشكل مباشر بتغير المناخ.
وبعد تحليل بيانات الأقمار الصناعية الممتدة على مدى اثنين وأربعين عاماً كشف دكتور أبو القاسم إبراهيم إدريس، رئيس وحدة الإنذار المبكر بالهيئة، عن ثلاثة عوامل رئيسية تسببت في وقوع الكارثة. أول هذه
العوامل تمثل في هطول أمطار استثنائية تجاوزت بنسبة خمسين في المئة أقوى العواصف المسجلة في تاريخ المنطقة، بينما تمثل العامل الثاني في تشبع التربة بالمياه نتيجة موسم مطير غزير وأمطار تراكمية غير
مسبوقة هطلت قبل ثلاثة أيام من وقوع الحادثة، هذه المعطيات العلمية تنفي وصف الحادثة بأنها نادرة، واعتبرت الهيئة أن ما حدث يعكس واقعاً جديداً تفرضه التحولات المناخية من خلال ظواهر جوية قصوى باتت أكثر تكراراً وحدة.
أما العامل الثالث فكان التركز الجغرافي الكثيف للهطول المطري مباشرة فوق منطقة جبل مرة. الذي تحول بقممه العالية وسهوله الضيقة، الى مصيدة طبيعية للسحب، لتغرق البيوت والحقول معا. وحين تشبعت التربة حتى الفيض، فقدت صلابتها وانزلقت التي تؤكد أن الماء حين يثقل كاهل الأرض يطلق العنان لانهيارات لا ترحم.
كيف حفر تغير المناخ مقبرة جماعية؟
ما حدث صار عنوانا لزمن جديد يفرضه تغير المناخ، يؤكد ذلك تقرير التقييم السادس للهيئة الحكومية الدولية المعنية بتغير المناخ (IPCC، عام 2021): انه زمن تتكاثر فيه الظواهر الجوية القصوى، فالعلماء يؤكدون
أن ارتفاع درجات الحرارة عالميًا لا يقتصر على دفع الناس للشعور بالحر، بل يغير معادلات الطبيعة نفسها. فكل درجة مئوية إضافية تعني أن الهواء قادر على حمل رطوبة أكثر بنحو 7%، وهو ما يضاعف حجم بخار
الماء المتصاعد من البحار والمحيطات. وعندما تتكاثف هذه الكميات الهائلة من البخار، تتحول إلى عواصف مطرية أعنف وأكثر غزارة من أي وقت مضى.وهذاما يفسر العامل الأول الوارد في تقرير هيئة الارصاد السودانية.
وفي حالة ترسين، تجسد هذا الخلل المناخي بوضوح؛ إذ هطلت أمطار تجاوزت بـ50% أقوى العواصف المسجلة في تاريخ المنطقة، لتؤكد أن ما كان استثنائياً بالأمس صار واقعاً متكرراً اليوم بفعل التغير المناخي.
بصمة التشبع
التغير المناخي لا يزيد فقط من شدة الأمطار، بل أيضا من طول مواسمها وعدم انتظامها. بمعنى أن الأمطار قد تأتي على فترات قصيرة لكن بكميات ضخمة، تجعل التربة مشبعة وفاقدة لقدرتها على امتصاص المزيد، وذلك وفقا
لما حذر به العلماء في دراسات سابقة منشورة في دورية سبرينج لينك العلمية المتخصصة، وهو ما يفسر كيف جعلت الأمطار التراكمية قبل 3 أيام من حادث ترسين الأرض غير قادرة على استقبال أي كميات إضافية. ومع سقوط
أمطار جديدة فوق هذا التشبع، انطلقت فيضانات وانهيارات أرضية بسرعة وبقوة. هذا النمط المتكرر من تشبع التربة يُعد من البصمات الواضحة لتغير المناخ في المناطق الجبلية.وهو ما يفسر منطقية العامل الثاني في بيان الهيئة.
أما ارتباط وهو التمركز الجغرافي العامل الثالث في بيان هية الأرصاد الجوية السودانية، بالتغير المناخي، فيعزو إلى أن التغير المناخي يُحدث خللاً في حركة الرياح والتيارات
الهوائية، وفقا لتقرير تحت عنوان مستقبل الأرض منشور ضمن ابحاث جامعة الخليج العربي- وهو أمر يؤدي إلى تمركز العواصف والأمطار في بقع جغرافية ضيقة بدلًا من توزعها الطبيعي. كما
أن المناطق الجبلية بطبيعتها تُفاقم التأثير، فالهواء الرطب عندما يُجبر على الارتفاع بسبب التضاريس، يبرد بسرعة ويتكاثف، مما يولد هطولاً مركزا وعنيفا، وسقوط الأمطار بشكل
مكثف ومباشر على جبل مرة جعل منحدراته تصب المياه بكثافة على القرى أسفله، فتضاعفت الخسائر. هذه الظاهرة أيضا مرتبطة بتغير المناخ، الذي يزيد من تمركز الكوارث بدلاً من انتشارها.
وهكذا فإن العوامل الثلاثة ليست معزولة، بل كلها مترابطة في سلسلة سببية تُظهر بوضوح كيف أن التغير المناخي، يرفع حرارة غلاف الجو ويضاعف كمية بخار الماء، وينتج عواصف أشد، مما يغير نمط الأمطار فيؤدي إلى مواسم طويلة وغزيرة تشبع التربة، يخل بحركة الرياح والتيارات، ويركز العواصف في مناطق ضيقة (خاصة الجبلية).
تحالف الغضب
لم يكن المناخ ولا البراكين الأطراف الوحيدة في تحالف ابتلاع القرية وانما انضمت اليهم الطبيعة الجيولوجية لمنطقة جبل مرة في دارفور، والتي تجعلها شديدة الهشاشة أمام الانهيارات الأرضية.
فوفقا لهيئة المساحة الجيولوجية السودانية فإن المنطقة تُعد من أضخم التكوينات البركانية في السودان، وتتميز بتركيب صخري معقد يضم شقوقا وفوالق تكتونية نشطة، والفوالق تعني: كسور أو شقوق
عميقة في القشرة الأرضية تحدث نتيجة حركة الصفائح التكتونية هي الألواح الصخرية العملاقة التي تكوّن سطح الأرض، عند حدوث هذه الحركات، تنزلق أو تتحرك الكتل الصخرية على جانبي الفالق بالنسبة لبعضها البعض.
وغالبًا ما ترتبط بالزلازل والانهيارات الأرضية. إلى جانب طبقات رسوبية ضعيفة. هذه العوامل مجتمعة، ومع تساقط الأمطار الغزيرة وتشبع التربة بالمياه، تؤدي إلى زيادة الضغط على المنحدرات الجبلية وحدوث انهيارات
وانزلاقات أرضية مفاجئة. ويؤكد الخبراء أن هذه السمات الجيولوجية لا تجعل الكارثة مجرد حادث عابر، بل جزءا من نمط طبيعي متكرر في منطقة غير مستقرة تكتونيا. وهو ما يعزز ويفسر بيان هيئة الارصاد الجوية السودانية.
والحرب الأهلية ايضاً
ويتسع تحالف التدمير ليضم الحرب الأهلية المستمرة التي اندلعت في أبريل 2023 في العاصمة الخرطوم. وعلى أثرها امتد الصراع إلى جميع أنحاء البلاد بعد تصاعد التوترات بين الجيش السوداني
وقوات الدعم السريع شبه العسكرية المنافسة له. وأدى الصراع إلى مقتل عشرات الآلاف ونزوح نحو 12 مليون شخص. وانتشر الجوع في أجزاء من دارفور منها جبل مرة وجنوب السودان، بينما أصاب
الكوليرا مناطق واسعة من البلاد. الامر الذي منع أي تطوير أو صيانة للبنى التحتية.فكانت النتيجة الحتمية غياب الطرق المُعبدة والوصول فقط سيرا أوفوق ظهور الحيوانات، مما منع سرعة
الاستجابة لتنظيم عمليات الإنقاذ وانتشال الضحايا، كذلك غياب صيانة المنحدرات والمنشآت الأرضية، وعدم وجود نظام للإنذار المبكر أو جدران استنادية لهذه القرى الجبلية فزاد حجم الكارثة.
النزاع في الثقب الأسود
الأسباب المناخية قد تؤدي لكارثة، لكن الأسباب البشرية وحدها تمنع النجاة، فمنطقة جبل مرة ووفقا لتقارير منظمة الامم المتحدة فإن المنطقة تقع ضمن بؤرة النزاع المسلح بين الجيش وقوات الدعم السريع،
ويسيطر عليها حركة تحرير السودان، ما أدى لعزلة شبه كاملة ومناطق إنسانية محرومة تماما من المساعدات، اذ انه أعقب اندلاع الحرب الأهلية في السودان (منذ أبريل 2023)، تم انقسام المنطقة إلى منطقة سيطرة
متداخلة، حيث تُحكم قوات الدعم السريع (RSF) والجيش قبضته على أجزاء من دارفور. قرية ترسين تقع في منطقة جبل مرة النائية، المحاطة بالقتال، مما يصعب وصول فرق الإنقاذ والإغاثة إليها خوفا من استهدافهم أو احتجازهم.
وتصف منظمات الإغاثة هذه المنطقة بأنها ثقب أسود للفشل الإنساني، حيث العون يتعثر والعزلة تزيد أيضًا من هشاشة السكان. اذ تذكر المنظمة الدولية أطباء بلا حدود أن غياب المساعدات عن جبل مرة، دام لأكثر من عامين من الحصار والقتال، حيث لم تصل قوافل الغذاء والدواء والمياه النظيفة للسكان. وقد وصفت المنطقة بأنها محرومة من المساعدة ومتروكة دون رعاية إنسانية تقريبا.
ووفقا لتقارير مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية اوتشا ((OCHA فإن دارفور منذ سنوات تعاني أحد أسوأ الأزمات الإنسانية بالعالم: نزوح جماعي، مجاعة، أمراض وبائية مثل (الكوليرا) وفقد وظائف الدولة للخدمات الصحية. آلاف المدنيين يعيشون في مخيمات مؤقتة بلا مياه نظيفة أو غذاء كاف. وقد أبلغت الأمم المتحدة أن أكثر من 12 مليون شخص مشرد ودائم العيش في ظروف شبه يائسة.
وهكذا فإنه بسبب منع الوصول، استهداف خطوط المساعدات، غياب البنية التحتية، واستمرار القتال، تحولت كارثة طبيعية مثل انهيار أرضي إلى مجزرة إنسانية حقيقية، حيث لم يجد سكان ترسين أي نافذة أمل للخروج أو النجاة، وكذلك تأخر وصول مساعدات لمحاولة إنقاذهم من تحت الأنقاض.
إن ابتلاع قرية ترسين المنكوبة، لم يكن بسبب الانهيار الأرضي وحده، ولا تغير المناخ وحده وانما تحالف معه ما سبقه من تشييد جدران العزلة التي صنعها النزاع المسلح، والحصار الطويل حول جبل مرة، الذي جعل
الوصول إلى القرى أو مغادرتها شبه مستحيل؛ الطرق الوعرة المدمرة بفعل الأمطار لم يتم استصلاحها، والممرات القليلة إما مقطوعة أو تقع تحت سيطرة مسلحة. فعلميا، كان يمكن للكثير من السكان النجاة لو توفرت لهم
بنية تحتية مرنة، ومسارات إخلاء سريعة، كما هو معمول به في المناطق المعرضة للانزلاقات الأرضية. لكن غياب تلك الوسائل، مع منع دخول المساعدات الإنسانية أو إنشاء أنظمة إنذار مبكر، جعل الأهالي عالقين في فخ
طبيعي، حيث تحولت قريتهم إلى قبر جماعي مختوم برعب المجهول الذي واجهوه حتى لفوا انفاسهم الأخيرة وسط ذهول العالم الاول الذي ما زال يفاوض ويساوم على مدي يد العون للعالم الثالث في مفاوضات المناخ ويأبى ان
يسمح بتمويله للخلاص من الاثار الكارثية لتغاير المناخ والناتجة عن انبعاثات العالم الأول المتقدم. هكذا اجتمع علم الجغرافيا القاسية مع واقع السياسة القاسية، ليحرم البشر من أبسط حقوقهم: حق الهروب والنجاة.
فهل ينصت العالم إلى اصوات دماء الف روح ابتلعها الطين؟ ام تظل قصة للقراءة ومصمصة الشفاه دون انحياز حقيقي للحق في الحياة، فقط لانها بعيدة عن أطراف دولية متنازعة نزاع مباشر، ويمر الحادث مرور الكرام دون إعادة اصلاح لأماكن مماثلة قد ياتي الدور عليها لاحقا؟!