يُعتبر التقويم القبطي امتداداً مباشراً للتقويم المصري القديم، مع اختلاف نقطة البداية فقط. فبينما يعود عمر التقويم المصري إلى أكثر من ستة آلاف عام (6267 سنة)، فإن التقويم القبطي

يبدأ من عام 284 ميلادية، وهو العام الذي ارتقى فيه الإمبراطور دقلديانوس إلى الحكم، وقد شهد عهده أشد عصور الاضطهاد للمسيحيين، فصار بداية لما يُعرف بـ “عصر الشهداء”. فصار الزمن في
مصر لا يُحسب فقط بالأيام والسنين، بل يُوزن بالدماء الطاهرة، والوفاء الراسخ، والإيمان الذي لا ينكسر. وهكذا اجتمع في التقويم القبطي النيل والشهادة، الحياة والفداء، الأرض والسماء.
ورغم مرور آلاف السنين وتغير العصور، ظل التقويم القبطي شاهداً على عظمة المصريين القدماء، مصرُ ليست صفحاتٍ من تاريخٍ يُقرأ، بل هي التاريخ ذاته، هي التي علّمت الدنيا معنى الزمن، ونسجت خيوطه بأيدٍ من نور على صفحة النيل الخالد. ومن هنا وُلد التقويم المصري القديم، أول تقويم عرفه الإنسان، ليبقى شاهداً على عبقرية الأجداد، وحكمة الطبيعة، وخلود الحضارة.
فقد احتفظ بذات الشهور والمواسم الزراعية التي ارتبطت بدورة النيل والحياة الزراعية. فمن خلاله كان المصري يقيس الزمن بدقة متناهية، ويربط بين حياته اليومية والطبيعة التي يعيش في كنفها.
يتكوّن التقويم القبطي من 13 شهراً، 12 شهراً كل منها 30 يوماً، يضاف إليها شهر صغير يُسمى “النسئ” يتراوح بين 5 و6 أيام. وهذه الشهور تحمل أسماء مصرية قديمة ارتبطت بالآلهة والزراعة والفصول:
• توت، فاتحة الحكمة.
• بابه، بشارة الزرع.
• هاتور، سحر الجمال.
• كيهك، تراتيل السماء.
• طوبة، ذروة فصل الشتاء والبرد.
• أمشير، عصف الرياح.
• برمهات، تذكيراً بالدفء وبدء الزرع.
• برمودة، موسم الحصاد.
• بشنس، نور القمر.
• بؤونه، غلال الحقول.
• أبيب، ثمار الحياة.
• مسرى، فيضان الخصب والخلود.
•ويأتي النسئ، كهمسة ختامية تُكمل دورة العام.
ويُحتفل بعيد النيروز أو رأس السنة القبطية في الحادي عشر من سبتمبر من كل عام. وهو عيد النيل مصدر الحياة والخصب، ومن جهة أخرى هو تذكار للشهداء الذين قدموا حياتهم دفاعاً عن إيمانهم فهو عيد الأرض والإيمان، عيد تتلاقى فيه حضارة الفراعنة مع روح الأقباط، ليبقى للمصريين عيدٌ لا يُشبهه عيد.
فكلمة “نيروز” تعود إلى الكلمة القبطية “ني يارؤو” بمعنى “الأنهار”، إشارةً إلى فيضان النيل.
لا يُعدّ التقويم القبطي مجرد وسيلة لحساب الأيام، بل هو شهادة حية على عبقرية المصري القديم، الذي ربط الزمن بالطبيعة والزراعة، فوضع نظاماً دقيقاً ظل مرجعاً حتى يومنا هذا. وما زالت المواسم الزراعية في الريف المصري مرتبطة بهذا التقويم، وارتبطت به أمثال شعبية وممارسات تراثية تُجسد عمق حضوره في الحياة اليومية.
كما أنّ التقويم القبطي يرمز إلى الاستمرارية التاريخية للشخصية المصرية، التي حافظت على هويتها رغم التغيرات عبر آلاف السنين. إنه تقويم لم ينقطع، بل عبر الحضارات المختلفة، من الفرعونية إلى القبطية، وصولاً إلى مصر الحديثة.
إنّ التقويم القبطي ليس مجرد إرث تاريخي، بل هو رمز للهوية المصرية الخالدة وذاكرة وطنية تذكّرنا دائماً بجذور مصر العميقة وخلودها عبر الزمان.، تُعلّمنا أن مصر لا تفنى، وأنها تتجدد دائماً ، لتبقى أمة لا يطويها الزمان، بل تُطوّع الزمان ليُصبح مصرياً.
عيد يجمع بين رمزية فيضان النيل كمصدر للحياة والخصب، وذكرى الشهداء كرمز للتضحية والإيمان.
ويبين عبقرية القدماء في ابتكار نظم دقيقة لحساب الزمن، قادرة على الاستمرار والتكيف عبر آلاف السنين، وعمق الروح المصرية التي تحتفل بالحياة حتى في أصعب الظروف. ومع كل عام جديد من أعوام التقويم القبطي، يبقى عيد النيروز مناسبة للفرح والتأمل في عظمة مصر وتاريخها العريق.
كل عام ومصر والمصريين جميعاً بخير وسلام.