أقسى إحساس في العالم هو إحساس الألم، هل هناك أقسى منه على الجسد؟، إنه شفرة التعذيب ومفتاح الإذلال والقهر، لكن هل تصورت في يوم من الأيام أن يشكو شخص من غياب الألم؟!، اندهشت عندما قرأت قصة هذا الشخص، التى يحكيها لنا استشاري الأعصاب

الإنجليزى جاي لشزينر في كتابه الرجل الذى تذوق الكلمات الصادر عن دار الرواق، الكتاب يحكي بأسلوب جذاب غير جاف وغير متقعر وغير مغرق في الأكاديمية عن عالم حواسنا العجيب والمدهش والغريب من خلال قصص مرضى تعامل معهم المؤلف من خلال عمله.
القصة الأولى في الكتاب أعتبرها بالنسبة لي شخصياً أهم القصص وأكثرها دراماتيكية، وتصلح لتكون فيلماً سينمائياً عظيماً، إنها قصة بول، الذي لاحظ أهله أنه يخلع أسنانه بالكماشة
بدون ألم، ويتعرض بشكل متكرر لكسور في كاحله وركبتيه وجمجمته دون أن يحس بأي ألم، وكما يقول هو: لا أظن أن لدى عظمة لم تُكسر عندي، يأكل أخطر أنواع الفلفل الحار دون إحساس
بالنفور، كل جسمه ندبات، صار بول مقعداً محدد الحركة، كل عظمة ومفصل فيه مصابة بالضرر، عندما سُئل عن شعوره؟، قال: كثير من الأشخاص قالوا لى إنه من الرائع ألا تشعر بالألم، وألا
تقلق إن جرحت نفسك لأنك لا تشعر بألم ذلك، وكانت إجابتي دائماً هي أنني لو استطعت أن أعود بالزمن إلى الوراء لأصبح طبيعياً وأشعر بالألم، فلن أتردد، إنها نقمة وليست نعمة أن تُحرم من الألم.
يقول بول أيضاً: الألم يمنعنا من إيذاء أنفسنا، يطرح المؤلف سؤالاً مهماً وهو: ما هي الحاسة التى ستضحى بها لو أُجبرت على ذلك؟، أو بمعنى آخر رتب لي الحواس حسب أهميتها بالنسبة لك،
سيكون الرد من الجميع البصر والسمع، أما ما بعدهما فهي من الرفاهيات، لكن المؤلف يلقي في وجوهنا برأي مختلف، ويركز على أهمية اللمس كحاسة من أهم الحواس، بدونها لن نشعر بأحضان
أحبتنا، ولا دفء الشمس على وجوهنا، ولا تحذير الحرارة، حتى المشي يحتاج اللمس، عندما نشعر بتعرج الأرض تحتنا ومكان أجسادنا في الفراغ، ربط الحذاء، إخراج العملة الصحيحة من جيوبنا.. إلخ.
لكن ما هو سبب هذا الخلل، وعدم الشعور بالألم؟، ..حالة جينية نادرة تسمى متلازمة عدم الإحساس الخلقي للألم، ولاحظتها الأم عندما وجدت طفلها لا يبكى أبداً، الخلل في قنوات الصوديوم
التي هى مسام دقيقة على جدار الخلية العصبية مثل فتحات الغربال، لها دور مهم في نقل الشحنات الكهربية عندما يكون هناك محفز ما، وبدون دخول في التفاصيل الدقيقة للتحور الجيني المسئول
عن هذا الخلل، فنحن أمام غياب كامل للآلية الأساسية التي تنقل نبضات الألم، هناك جانب عاطفي للألم، تقلص الأمعاء المزعج، والخوف الذى يشكل دافعاً قوياً لتعلم تجنب الألم، من دون الثقل
الوجداني المصاحب للشعور بالألم، لصرنا أقل نزعة للتعلم من أخطائنا، واتخاذ تدابير لمنع ما حدث، ولصار الخطر عظيماً جداً، ويؤكد المؤلف أننا بدون ألم ستكون حيواتنا وبقاء أنواعنا معرضة للخطر.
الألم الذي نصرخ منه هو سر بقائنا في معركة الحياة، إنسان بلا ألم، ودون إحساس اللمس، هو شخص بائس، يعيش غير مدرك لعالمه الخارجي والداخلي أيضاً، هو تمثال رخامي يتنفس.