لا يزال اسم قداسة البابا شنودة الثالث محفورًا في ذاكرة الكنيسة القبطية الأرثوذكسية، بل وفي وجدان المصريين جميعًا، باعتباره أحد أعظم الشخصيات الكنسية في العصر الحديث، فقد استطاع، بعلمه الغزير، وكلماته المؤثرة، ومواقفه الوطنية الثابتة، أن يقود الكنيسة في فترة مليئة بالتحديات، بروح الأب الراعي والمعلم القائد.

وفي هذه المقابلة الخاصة، نلتقي بالدكتور شريف سلامة، الطبيب المعالج لقداسة البابا شنودة الثالث في مستشفى كليفلاند، للحديث عن شخصية البابا الراحل من زاوية من عايشه عن قرب، وذلك بالتزامن مع الذكرى الـ102 لميلاد البابا، والتي تحتفل بها الكنيسة غدًا.
وإلى نص الحوار:
◄كيف تعرّفت على قداسة البابا شنودة الثالث؟
تعرفت على قداسة البابا خلال زياراته إلى مدينة كليفلاند، كان يحب الدعابة، وأنا كنت معروفًا بحبي للنكت، وهو ما عرفه القمص ميخائيل إدوارد راعي الكنيسة، فكان هو من قدمني لقداسة البابا شنودة الثالث، ومنذ ذلك الحين، نشأت بيني وبينه علاقة محبة خاصة.
◄كواليس زيارات البابا شنودة إلى الخارج؟
كنت أتشرف بلقاء البابا في كل زيارة، لكني لم أذهب إلا بناءً على طلبه أو طلب أبونا، كنا نستقبله في المطار، وتشرفت أن سيارتي كانت وسيلة تنقله الأساسية بعد عملية ظهره لأنها كانت مريحة ومنخفضة. وقررت من وقتها ألا أستخدمها طيلة فترة إقامته، ولا زلت أحتفظ بها حتى اليوم.
◄ماذا عن علاقته بالمصريين بالخارج؟
قداسة البابا شنودة الثالث كان حريصًا على لقاء الشعب، تعليمهم، وتوجيههم، في مرضه، كان يفتح بابه لكل من يرغب في زيارته من مسيحيين وغير مسيحيين، وكان خلال فترة علاجه في كليفلاند يتابع عن كثب الأحداث ويقابل المسؤولين لمواكبة الأمور.
◄ماذا تعلمت من البابا شنودة؟ وماذا افتقدت فيه؟
تعلمت منه الحكمة، حسن التقدير، متى يكون الصمت حكمة، ومتى يكون الرد لازمًا، كما تعلمت أسلوبه في الرد بخفة ظل حين يلزم، وكيف يجمع بين الصراحة واللطف، افتقدت حضوره، ذكاءه، ونظرته التي كانت وحدها كافية لتعليم الكثير.
◄حدثنا عن الجوانب الخفية في شخصيته؟
قداسة البابا كان إنسانًا شديد التواضع، يحترم كل من حوله. لم يشكُ أبدًا من آلامه، وكان مثالًا في الصبر والالتزام بالعلاج، ورغم معرفته العلمية واللاهوتية الواسعة، كان دائم التساؤل والفهم والتعلم دون غرور.
◄احكِ لنا عن زيارته الأخيرة إلى كليفلاند؟
كانت زيارة متعبة، شعر فيها قداسة البابا شنودة الثالث ونحن كذلك بأنها الأخيرة، بعد عودته إلى مصر، قررنا زيارته في الكاتدرائية وهناك، حدث موقفًا طريفًا، حينما قال لي الحارس بعد أن قلت له: "أنا د. شريف من أمريكا"، فقال لي: "اتفضل يا باشمهندس!"... فلما رويت الموقف لسيدنا، ضحك كثيرًا، وكانت هذه آخر مرة أراه يضحك فيها.
◄ماذا عن طقوسه في أسبوع الآلام؟
لم يكن يزورنا في أسبوع الآلام، وكنت أزوره تقريبًا يوميًا لكن لم أعرف كل تفاصيل روتينه اليومي حينها، كان ملتزمًا بروتينه الروحي حتى في عز المرض.
◄نصيحة لا تنساها من قداسته؟
كان دائمًا ينصحني بتلك الكلمات "الرب يفتح ولا أحد يغلق، ويغلق ولا أحد يفتح"، "كن صريحًا دائمًا، ولكن لا تخرج عن حدود اللطف".
◄كيف كان يتعامل مع مرضه والأطباء؟
كان المريض المثالي، ينصت للطبيب، يسأل ليعرف، ينفذ بدقة، يتعامل باحترام بالغ. رغم آلامه الكبيرة، لم أسمعه يشتكي، بل كان يصر على إتمام خدمته في كل وقت.
◄ وماذا عن كسر الفخذ عام 2008؟
جاء إلى كليفلاند بعد إصابة بكسر في الفخذ، وهو أمر خطير في سنه. لكننا فوجئنا بابتسامته وهو يقول لنا: "ما تخافوش، هتعدي بخير"... وفعلًا، عدت بخير بفضل الله وإيمانه وصبره.
◄ كيف كان يخدم رغم مرضه؟
كان قداسة البابا يخضع لغسيل كلى، ويعاني من ألم، ومع ذلك يصر على اللقاءات، والاجتماعات، والتدشينات، وزيارات الخدمة، ومتابعة لجنة البر، لم يوقفه شيء عن خدمة شعبه.
◄هل كان حازمًا في قراراته؟
نعم، لكنه كان يجمع بين الحزم واللطف، قليلًا ما تراجع عن قرار، وكان يفكر بروح الإنجيل، ويشرح أسباب قراراته بعمق إنجيلي وروحي.
◄هل شعرت أنه بدأ يتمسك بالحياة أقل مع اقتراب النهاية؟
نعم، في الأيام الأخيرة، قال للأنبا أرميا: "قول لربنا كفاية كده، لم يعد لدي ذرة أخرى"، كان راضيًا، شاكرًا، مؤمنًا بأن كل ما يأتي من يد الرب هو للخير.
◄كيف تلقيت نبأ نياحته؟
جاءني الخبر من أحد الزملاء الأطباء، ثم تأكدت من طبيبه الخاص د. ماهر أسعد. كان يوم سبت في الظهر (بتوقيت أمريكا). حجزت للسفر فورًا، وأبلغت سكرتيرتي بإلغاء جميع المواعيد، وسافرت للمشاركة في وداعه الأخير في القاهرة.
◄ كلمة أخيرة عن البابا شنودة الثالث؟
معرفتي بقداسته كانت من أعظم الهبات التي منحني الله إياها في حياتي. رأيت فيه رجلًا عظيمًا، معلمًا، حكيمًا، إنسانًا، وديعًا، ضحوكًا، حازمًا، متواضعًا، ورجل صلاة بكل ما للكلمة من معنى. كان وما زال قدوة لا تُنسى في حياتي.