بالأمس انكسرَ أملُ أُمٍّ ظلّت تهدهده عشرين عامًا، وانطفأت شمعةُ رجاء جاهدَ أبٌ ألا يخبو وهجُها. هذا المقالُ ليس رثاءً لشاب غادر إلى حيث يمضى الأبناءُ إلى رحاب الله، تاركين فى قلوب ذويهم صدوعًا لا تُرأبُ، بل هو تحية إجلال لأمٍّ وأبٍ حصدا من النُبل والإيمان بالله ما جعلهما أيقونةً تُضىء فى كتاب التاريخ، ودرسًا نتأملُه ونتعلَّم منه معنى الأمومة والأبوّة.

لم يكن الأميرُ الوليد بن خالد بن طلال رقمًا فى سجلّات غيبوبة استطالت سنواتٍ وعقودًا حتى ارتقى إلى فردوس الرحمن الرحيم حيثُ لا ألم ولا غياب، بل كان حكايةً تُروى من حكايا الرجاء
والنبل والعطاء الفريد، تَجسّد فى أمٍّ وأبٍ لم يسلّما ولدهما للموت السهل، رغم وصايا الأطباء، بل حملاه معًا على أجنحة الدعاء، ووشّياه بأغطية الحنوّ، لا عامًا ولا عشرةً، بل عشرين
عامًا عددًا محطمين كل توقعات الطبّ وسجلات السكتات الدماغية التى لا تتجاوز أعمارُها العامين مع العناية الفائقة، ليثبتا للعلمِ وللعالمِ أن الحُبَّ ينجحُ فيما يخفقُ فيه العلمُ والعلماءُ.
عام 2005، كان الأميرُ صبيًّا جميلا فى الخامسة عشرة من عمره يدرسُ العلومَ العسكرية فى لندن، ينتظرُه مستقبلٌ مشرقٌ فى وطنه مثلما ينتظرُه والداه بشغفٍ أن يعودَ إليهما مصقولا بالعلم ليخدم وطنه. لكن
الآمالَ تبعثرت عند ناصية حادثٍ مروّع أسقط الجسدَ فى غيبوبة ونزيف دماغى، فأوصى الأطباءُ برفع أجهزة التنفس لغياب الأمل فى النجاة. لكن الوالدين رفضا الخضوع لليأس، وتمسّكا بحبال رحمة الله. فمادام
القلبُ ينبضُ، فليس من حقِّ إنسانٍ أن يوقف الخفقَ ويستلبَ الحياة. وإن كان لا يشعر بنا، فنحن نشعرُ به، وإن كان لا يرانا، فنحن لا نكفُّ عن تأمله والدعاء له. ومَن قال إنه لا يشعرُ بنا، فلعلَّ رجفةَ الجفن
هذه شكرٌ، وحركةَ السبابة هذه صلاة وتشهّد، ونبضة الوريد تلك علّها نجوى امتنان لأمٍّ وأبٍ لا يبرحان سريره فى المستشفى السعودى أيامًا وأسابيعَ وسنواتٍ وعقودًا؛ يغسلان وجهَه بالعطور، ويشذبان لحيتَه،
ويمشطان شعره، كأنما يستعدُّ لحفل التخرّج، ثم العُرس. كان الوالدان النبيلان يجهزّان ابنهما الأمير النائم كلَّ يومٍ للحياة لا للموت، فكيف لا يشعر بهما ويمتنُّ لهما، رغم أنف الغيبوبة والصمت وإغماضة العينين؟!.
كان يمكن أن يُنسَى، لكنّه لم يُنسَ. وكيف يُنسى وجواره والدان لم يصدّقا مواتَ الغيبوبة، بل آمنا بالحياة المختبئة خلف السكون!، كانا يكلمانه، كما لو كان يُنصِتُ، ويرسمان له أحلام الغد، كيما يتأهب لتحقيقَها. والده، الأميرُ
خالد بن طلال بن عبد العزيز آل سعود، لم يطلب معجزةً، لكنه آمن بها. رفض بحسم نزع الأجهزة الطبية عن وليده، لأن قلبه كان معلّقًا برحمة الله، لا بتقارير الأطباء. فالحياةُ الطافرةُ من وجه ابنه رغم إطباق العينين، لم تخبُ، بل تنتظر.
عشرون عامًا، لم تُطفأ أنوارُ غرفته، ولم يغبِ اسمُه عن الألسن ولا الدعاء. أبسط حركة من إصبعه كانت عُرسًا، أوهن خفقة جفن كانت قصيدة، وكل ومضة تحسُّن كانت عيدًا مؤجلاً.
هذه الأمُّ لم ترفع عينيها عن عينى وليدها، ولا رفعت يدَها عن قلبه لتطمئن إلى استمرار خفقه الذى تتوكأ عليه لتحيا. رهنت حياتَها صلاةً عند سرير وليدها، تروى زهرة الأمل بدموعها تنتظرُ صابرةً أن يناديها: أمى!.
وهذا الأبُ، الذى صار وجهه مرآة لأعلى درجات الإيمان برحمة الله. لم يرَ فى ابنه جسدًا ساكنًا، بل مشروع معجزةٍ مؤجلة تنتظرُ المشيئة العليّة. لم ينقطع عن زيارة ابنه يومًا: يلاطفه ويسامره ويدعو له ويلتقط معه الصور على رجاء الصحو.
الحادث الأليمُ، الذى وقع فى لندن والأميرُ فى وهج الصبا، لم يكن نهاية، بل بداية الرحلة الأكثر نبلا بين السُّرر البيضاء وأنابيب المحاليل والتقارير الطبية والسهر على نائم لا يصحو، وأسرة مُحبّة تسهرُ واصلةً الليلَ بالنهار عشرين عامًا دون كلل ولا قنوط، وملايين القلوب التى أحبّته دون لقاء، وعرفته من صورته فى زىّ الكلية العسكرية يحلم بمستقبل زاهٍ فى الدفاع عن وطنه.
واليوم، وقد ترجّل الأميرُ، ليغادر كما الملوك: بهدوء المطمئن الذى نامَ على وسادةٍ من صلوات ودعاء، ومشى إلى الله على طريقٍ مروىٍ بدموع أمٍّ وأبٍ أديا واجبهما على خير ما يؤدَى. هو الآن فى ضيافة الرؤوف الرحيم الذى وسعت
رحمتُه كلَّ شىء. نام الأميرُ بعد عشرين عامًا من التهيؤ لليقظة. نام لأن الحياة استكملت قصيدتَها فيه. أما والداه، فقد نالا وسامًا من نور، لا يُمنح إلا للقلوب التى أحسنت صون الأمانة. أحسن اللهُ عزاءهما وأحسن مقامه فى عليّين.