أبومينا تاريخ وتراث وسياحة واعدة فى صحراء الإسكندرية
تحتفل الكنيسة القبطية الأرثوذكسية فى مصر يوم 22 يونيو من كل عام بتذكر تكريس كنيسة الشهيد مارمينا العجايبي بمريوط ؛ التى عرفت فى كتب التاريخ والتراث بـمنطقة بو مينا بينما

يوم 7 يوليو هو تاريخ الكشف الكبير للبعثة الألمانية بقيادة كارل كوفمان عن مكان كنيسة البابا ثاؤفيلس الأثرية (385 412م) البطريرك 23 .. عام 1905، لتكتمل بذلك الرحلة العصيبة نحو
أكبر اكتشاف أثرى قبطى فى مدينة الإسكندرية والشرق الأوسط كله باعتبارها أكبر مدينة قبطية قديمة متكاملة الأركان ومشروع حج ثان للأقباط على مستوى العالم فى مصر، فقد
اعتبرتها منظمة اليونسكو ضمن مناطق التراث الحضارى العالمى وأدرجتها على قوائمها ... لما احتلته تلك المنطقة الأثرية من مكانة كبيرة لا تقل عن مكانة القدس وكنيسة القيامة فى دولة فلسطين.
تقع منطقة أبو مينا بمريوط قرب الإسكندرية على حوالى 50 كيلومترا منها. وتمتد أطراف هذه المنطقة التى ترقى إلى مستوى المدينة فى حدود صحراء مريوط حتى تشغل من مساحة لا تقل عن
أربعين ألفا من الأمتار المربعة بما عليها من بقايا الكنائس والأديرة والحمامات والمنازل والأسواق وغيرها. وتتوسط هذه جميعا، الكنيسة الرئيسية الرائعة التى طالما انتزعت
إعجاب المؤرخين القدماء فأطلقوا عليها اسم أجمل وأعظم كنيسة مصرية، تحفة من روائع الفن المسيحى، مسرة لجميع شعوب مصر، الأكروبول المسيحى القديم، وأيضا المدينة الرخامية.
والقصة بدأت كما تقول الباحثة فى التراث القبطى دكتورة سليفانا جورج ، بشخصية القديس المصرى مينا العجايبى الذى ولد من أبوين مصريين مسيحيين، والذى أعلن إيمانه بالمسيحية فى ظل
الاضطهاد الرومانى أيام الإمبراطور دقلديانوس، فقبض عليه وقطع رأسه فى القرن الثالث الميلادى، وطبقا للتقليد الكنسى القبطى حمل أصدقاؤه جثمانه على جملين وساروا به فى صحراء مريوط،
وفى موقع المنطقة الأثرية الحالية وقف الجملان فاعتبروها إشارة لدفن جثمان القديس فى هذا المكان، وبالفعل تم دفنه فى قبر كان نواه لكنيسة صغيرة ثم لمدينة كاملة عرفت بالمدينة الرخامية.

ويقول ماجد كامل الباحث فى التراث القبطى وعضو جمعية الاثار القبطية إنه بعد اكتشاف قبر القديس بومينا وظهور العديد من قصص المعجزات طلب أهالى مدينة الإسكندرية من البابا أثناسيوس
الرسولي، سرعة بناء كنيسة على أسم الشهيد ؛وبالفعل استجاب البابا لطلبهم وتم بناء الكنيسة فى عهد الملك جوفيان ( 363- 364 ) ثم قرر توسيع المنطقة؛ وبناء كاتدرائية كبرى على اسم الشهيد، وقام
الملك أناسطاسيوس (491- 518م) بإنشاء منازل لإضافة الزوار واستراحات لاستقبال الجموع؛ ومستشفيات وأسواق؛ حتى ذاع خبر هذه المنطقة المقدسة فى جميع أنحاء العالم؛ فقام الدير بعمل قوارير
فخارية لتوزيع المياه المقدسة من البئر المحيطة بالقبر والتى كان يعتقد أن لها قوة عظيمة على الشفاء من الأمراض ؛ ولقد عثر على الكثير من هذه القوارير فى متاحف ألمانيا وفرنسا وأورشليم والسودان.
وثمة دراسة قيمة لدكتور مينا بديع عبد الملك الأستاذ بهندسة الإسكندرية يحكى من خلالها أهم مراحل تطور منطقة أبو مينا ساردا ظلت منطقة أبومينا أشهر موضع للتقديس فى مصر كلها زمانا طويلا إبان العصور
الوسطى، حتى بدأ نجم المدينة فى الاختفاء وأخذت عوامل التخريب والتدمير تتألب عليها، حتى أن أحد الخلفاء أرسل مبعوثا إلى مصر لاستحضار كميات من الأعمدة والألواح الرخامية لاستعمالها فى مبانى
بغداد. ولما وصل هذا المبعوث إلى مصر أرشده البعض إلى كنيسة القديس مينا بمريوط، وبالفعل أخرج من الكنيسة الرخام الملون والبلاط النادر.و يذكر لنا المؤرخ القبطى أبوالمكارم واسمه الحقيقى سعد الله
بن جرجس بن مسعود أن كنيسة القديس مينا كانت لا تزال قائمة حتى القرن الثالث عشر الميلادى. بعد ذلك تكاثرت عليها عوامل التدمير وغمرتها رمال الصحراء، حتى دخلت المدينة العظيمة فى طى الصمت والكتمان والنسيان.
غير أنه أمكن اكتشافها على يد أفراد البعثة الألمانية الأثرية التى حضرت من فرانكفورت عام 1905م بقيادة المونسينيور كوفمان، وتحكى الدراسة عن الصعوبات الجمة فى واجهتها فى عملها. إذ أنه بعد مسيرة 30
يوماً على ظهر الإبل فى دروب الصحراء الليبية وصلت البعثة الاستكشافية الآتية من وادى النطرون مخترقة صحراء أولاد على، إلى مجمع آثار أبو مينا، عادوا بعدها إلى المعسكر وهم مجهدون، خائرى الهمة،
معتقدين أنهم فشلوا فى بلوغ هدفهم. وعندما سقط كاوفمان مريضاً، فكروا فى العودة إلى بلادهم بعد أن تملك منهم اليأس!! لكن أتى وقتئذ أحد الصبية البدو بآنية كاملة من أوانى القديس مينا، وقدمها إلى فولز
مساعد كوفمان، وأخبره أنه وجدها فى أحد أفران الفخار القديمة بالقرب من المكان الذى ينقبون فيه. وأخيراً أرشدهم أحد البدو إلى مكان يدعونه قلعة الخليفة، وهو كوم من الحجارة المتراكمة. وفى الحقيقة لم
تكن قلعة الخليفة هذه بعد البحث والتنقيب سوى مكان كنيسة البابا ثاؤفيلس الأثرية (385 412م) البطريرك 23. وقد تم هذا الكشف الكبير فى 7 يوليو 1905، وبعد ذلك عادت البعثة إلى الإسكندرية لتنظيم عملها ثم استأنفت
الحفريات فى نوفمبر من نفس العام، وأطلق كوفمان على هذه المدينة المرمرية اسم الأكروبول المسيحى القديم، ذلك المكان الذى يُعد مزاراً مسيحياً قديماً يحضر لزيارته للتبرك منه العديد من الزوار من مختلف أنحاء العالم..

وتشير دراسة د. مينا الى أنه كان من نتائج هذه البعثة الاستكشافية أن أصدر كوفمان كتابه المدينة المقدسة التى بالصحراء الذى صدر بالألمانية عام 1914،وقدم من خلاله وصفاً دقيقاً للحالة التى شاهد عليها
المنطقة، فيقول: (.. فى اليوم التالى دُرنا حول المنطقة فرأينا بحراً من الأنقاض، ويكاد لا يوجد حجر فوق آخر وكانت تلال الأنقاض المتراكمة تتميز بلونها الرمادى عن الصحراء المحيطة ذات اللون الأصفر. وعندما
وقفنا فوق أعلى تل من الأنقاض رأينا أكواماً متشابكة من قطع الحجارة تعبر عن أن دمار المكان كان أن يكون شاملاً، وأن إعادة اكتشافه عمل يحتاج إلى جرأة شديدة). وتابع كوفمان قائلاً: (إن اكتشاف موقع المدينة
المقدسة كان فى شهر يوليو، وفى شتاء نفس العام بدأت أعمال الحفريات وسط دهشة قبيلة أولاد على وكل قبائل مريوط). وفى عامى 1906 و 1907 تم اكتشاف قبر القديس مينا وكنيسته الكبرى، كما اكتُشفت كنيستا المدافن
والمزروعات. وفى عام 1907 جرى اكتشاف الحمامات وكنيستها كما عثروا على الحمام الضخم الذى يجاور الكنيسة. وعثرت البعثة أيضاً على آبار كثيرة متفرقة، ووجدت هناك عدة منازل وحوانيت، مما حدد صورة المنطقة كمدينة كاملة متسعة.
ويشرح د. مينا ايضا نتائج البعثة قائلا إنه فى عام 1959 فور جلوس البطريرك المُلهم البابا كيرلس السادس (1902 1971) البطريرك 116على الكرسى المرقسى أبدى اهتماما واضحا بالتعاون مع جمعية مارمينا
للدراسات القبطية بالإسكندرية (التى تأسست فى نوفمبر 1945) - بإحياء منطقة القديس مينا بمريوط. وكان قداسته طوال فترة رهبنته مشغولاً بإحياء تلك المنطقة وإعادتها إلى مجدها السابق، وقد
عاونه فى ذلك أعضاء الجمعية ، وبادر البابا بزيارة المنطقة الأثرية بصفة دورية وإقامة الصلوات بها. وكانت أول زيارة له فى يوم الجمعة 26 يونيو 1959 (أى بعد ستة أسابيع من تنصيبه بطريركاً فى 10 مايو 1959).
و الآن هناك من الدراسات والآراء من جانب الخبراء فى التاريخ القبطى وتاريخ العصور الوسطى التى تدعو لتدشين مشروع عالمى لإعادة إحياء المنطقة تراثيا وإقامة مشروع حج ثان للأقباط الأرثوذكس على مستوى العالم، بما يعنى وضعا أفضل للإسكندرية على الخريطة السياحية العالمية.