ليس كل ما يتمناه المرء يدركه، وما لا يتمناه كاتب ويستكرهه: الكتابة تحت القصف. الحرب تشل القدرات الإبداعية، تعكر المزاج، تشتت وتبلبل الأفكار، تطلب منك انحيازات طوال الوقت، ومواقف على مدار الساعة، فتصبح الكتابة كبناء قصور من الرمال على رمال يضربها الموج، فتنهار سريعًا، فتصبح ما بين غَمضةِ عَينٍ وانتباهتها أثرًا بعد عين.

الكتابة تحت القصف مهمة ثقيلة لا يقدر عليها سوى أصحاب الهمم العالية، كتابة بالغصب، بالعافية، الكلمة لا تريد الخروج، والجملة عصية على الهضم، والفقرة واقفة كلقمة ناشفة فى الحلق، وما إن تصل غايتك وتكمل مقالًا، يصبح ما خطه القلم المتعثر فى خبر كان، مع أول مسيرة فى سماء الحرب، تقصف المقال، وتحيله هشيمًا من حروف تذروها الرياح.
من أتعس أيام الكاتب، أيام الحرب، ليس كل الكتّاب فى ألمعية الكاتب الأمريكى العظيم إرنست همنجواى، وليس فى مكنة كثيرين الملكة الإبداعية التى تحول ويلات الحرب لأيقونة إبداعية كروايته وداعًا للسلاح التى تدور أحداثها فى الحرب العالمية الأولى.
كثيرون من الكتّاب ينكفئون على وجوههم، يسقطون فى صدع الحرب، تشيه حروفهم، وتتآكل جملهم، الجمل ناقصة، والتركيبات مختلة، وتتضعضع فقراتهم، وتنحرف بوصلتهم، وتعجز عقولهم عن إدراك كنه الحرب، وتقنية مسيراتها، وفرط صوتية صواريخها، بعضها يحمل علامات يوم القيامة، فتهرب منهم عقولهم، وتزيغ أبصارهم، وتفر منهم ملكاتهم، يخشون أن يصيبوا قومًا بجهالة، فيصبحوا على ما كتبوا نادمين.
الله يرحمه أستاذنا طيب الذكر أنيس منصور، كان يهرب من أجواء الحرب الخانقة إلى أجواء رحيبة، يكتب عن الذين صعدوا إلى السماء، والذين هبطوا من السماء، والدنيا تضرب تقلب من حوله، وشعاره الأثير: كل هذا العالم من حولى لا أحد، متوحدًا مع ذاته، متقوقعًا فى عزلته، يعتزل الحرب وكأنه راهب بوذى يؤدى صلواته فى قلايته المحفورة عميقًا فى البرية، بعيدًا عن الناس.
مثله طيب الذكر الكاتب الكبير صلاح منتصر كان يكره الحرب، يعيش سلامًا داخليًا، يحتفظ بابتسامته تحت القصف، ولا يغمس قلمه فى الدماء، ولا يعاين بكلماته الأشلاء، ويخشى على قلبه من أنات الجرحى، لم يتصالح يومًا مع الحرب، كان يبتعد بمسافة عن الحرب، ويكتب عن محاربة التدخين. حرب الدخان كانت قضية عمره.
سباق ضار بين الكتّاب فى الكتابة عن الحرب، وكأنه إن لم يقصف بكلماته الجبهات تولى يوم الزحف، وتحليلات، وانحيازات، وتوليد من قراءات.
حد تعجب: كيف يكتبون تحت القصف؟ كيف يكتبون عن بلاد لا يعرفون تضاريسها البشرية؟ كيف يتكيف العقل هكذا سريعًا مع الحرب، والحرب بالأساس على العقل؟ المسيرات تقصف الرؤوس التى تحوى العقول، تحتار العقول فى فهم ما جرى!
مع إتاحة مشاهد الحرب على الهواء مباشرة، ولحظة بلحظة، تضطرب العقول، تصطك الأفكار، تضرب بعضها بعضًا بحركة ارتجاف أو اضطراب، فتولد الكلمات مبتسرة قبل موعدها، مثل الخديج الناقص، وهو طفل وُلد قبل اكتمال مدة الحمل الطبيعية، فلا تعيش مثل هذه المقالات طويلًا، تقبر سريعًا فى مقابر جماعية، تلم شتات المقالات التى سكبت على الورق كالدموع المالحة على جرح الحرب النازف.