القائمة الأقباط اليوم أبحث
أهم الأخبار

مذبحة «مار إلياس» السورية بين التوحش والتهجير.. من يحمي الذين اختاروا البقاء؟

بقلم حنان فكري

لم يكن يوم الأحد في مار إلياس يشبه سواه. كانت العائلات تلبس قلوبها لا ثيابها، تمضي إلى الكنيسة كما تمضي إلى صدر الوطن.. باطمئنان، يحاولون استرداده بعد سنوات من الوجع، وخوف يتكتمون عليه بعد وصول أحمد

مذبحة «مار إلياس» السورية بين التوحش والتهجير.. من يحمي الذين اختاروا البقاء؟

الشرع للحكم هناك، بعد ترويع يومي للأقليات، خوف ثبت أنه في محله. تبدلت التراتيل إلى صرخات استغاثة وقهر، والاطمئنان إلى هلع، بعد تفجير الكنيسة بالمصلين وسقوط عشرات الشهداء والجرحي، لم يُقتلوا لأنهم

مسيحيون فقط.. بل لأنهم أرادوا أن يبقوا. أن يصلّوا. أن يحبّوا. أن يتشبثوا بتراب الوطن، الذي صار تحت حكم مشبوه بالتواطؤ مع جذور التوحش والتشدد، هكذا تُقتل الأقليات. فمن يحمي من اختار البقاء ورفض الفرار؟

سؤال تاهت إجاباته في شوارع دمشق، حينما طافها شباب دمشق رافعين لافتات وصلبانا خشبية ورايات سوداء مرسومًا عليها الصليب، يعلنون تمسكهم بالإيمان المسيحي، يشيعون الشهداء بالزفاف،

والطبول، يتراقصون، يميلون يمينا ويسارا ليس ابتهاجا بل من شدة الألم يتلوى الجسد، جنازات من نوع خاص، غضب من نوع خاص، علت فيه الأصوات: المسيح قام.. حقا قام.. المسيح حاميني. في صرخة

احتجاج وجودي ممن ضاق بهم الصمت، واختنقوا من التواطؤ، وغصّوا بمرارة الشعور بأنهم وحدهم... في وطن تفتك به الجماعات، وتتقاسم جسده سلطات أمر واقع لا ترى فيهم سوى كفار يجب افراغ الارض منهم.

صلبان فوق رايات الغضب.. ومحللون ظالمون

ثم نجد من يخرج علينا محللا المشهد بأنها جنازات وتظاهرات طائفية!! ماذا نقول لمن يطلب منهم الصمت على التفجير؟ إنهم يلومون المذبوح على النزف، ولا يفرقون بين الغضب والعنف، فالغضب يعني رفض الخنوع والتمسك بالحق في الوطن والإيمان، أما العنف فهو ما وقع عليهم في قلب مكان عبادتهم.

أفيقوا يرحمكم الله، لأن المقدمات الحالية مقلقة، وطالما حذرنا منها، فالتظاهر برفع صلبان مرسومة على رايات سوداء تعني أننا على بعد خطوة من مواجهة العنف بالعنف للدفاع عن الوجود، يكفيهم وجعا فلا تفرطوا في التحليل ولا تدفعوا المجروحين لمزيد من الغضب.

يكفيهم أنهم فقدوا 25 شهيدًا من مصلّين عُزّل، سجدوا لله من أجل السلام، فحصدتهم قنبلة كراهية لا تعرف للرب ركوعًا ولا للإنسانية ملامح. يكفيهم تجاهل النظام لحقوق المواطنة، إنها فضيحة سياسية وأخلاقية في سجل سلطات تدّعي حماية المواطنين، لكنها تتفرّج على سفك دمائهم في بيوت الله، ولا تشارك في جنازهم.

إن ما حدث في قرية دويلعة السورية أول من يُسأل عنه هو النظام السوري نفسه، الذي لطالما قدّم نفسه كحامٍ للأقليات، فإذا به يصمت أمام مذبحة بحجم التفجير، لا بيان تعزية من رأس الدولة، ولا تضامن رسمي يليق بمقام الدم المسفوح داخل كنيسة. من المستفيد من هذا الصمت؟ من المستفيد من إيهام المسيحيين بأنهم وحدهم في بلدهم؟

ما يجري يُذكّر المسيحي السوري بأن الدفء الذي اعتاد أن يشعر به في وطنه، لم يعد مضمونًا. والسكوت، في لحظة كهذه، لا يُقرأ إلا تواطؤًا، أو إهمالًا قاتلًا، أو حسابات مشبوهة تتجاوز الإنسان إلى المصالح.

الجولاني.. ربيب الإرهاب الذي كبر في الظل

للأسف، قدم النظام السوري الجديد نفسه باعتباره محايدا، لكن يبدو أن ايديولوجيات هيئة تحرير الشام تقف حائلا، بوصفها سلطة الأمر الواقع التي فرضت نظامًا قسريًا يُعيد إنتاج الإرهاب في نسخة أنيقة. الجولاني، الذي كان يومًا ذراعًا من أذرع القاعدة، لا يبتعد في جوهر مشروعه عن داعش. فالمنهج واحد، والنتيجة واحدة: تكميم الحريات، إلغاء الآخر، ومسح وجود الأقليات.

في مناطق سيطرته، هُجّرت العائلات المسيحية، وأُغلقت الكنائس، وأُرهب الناس حتى في صلواتهم. لا توجد ضمانة حياة، ولا مساحة للعبادة، ولا حرية اعتقاد. من يتحدث عن توبة الجولاني أو تحوّله إلى رجل دولة، عليه فقط أن ينظر في وجوه المهجرين، ويسمع وجع من لم يعد يجرؤ على العودة إلى بيته.

إن ما يفعله نظام الجولاني اليوم، هو استنساخ ناعم لممارسات داعش، باسم الإدارة المدنية والشرعية الثورية. لكن الضحية واحدة هي المواطن السوري، وخاصة من لا ينتمي لـالأكثرية الصامتة.

صرخة المسيحيين.. ليست طائفية بل إنسانية

إن ما شهدته شوارع دمشق من خروج الصلبان، ورايات سوريا البيضاء، ليس تمردًا على الوطن، بل نداء لحمايته. هؤلاء لا يطالبون بامتياز، بل بحق الحياة الآمنة دون ترويع. لا يريدون سلاحًا، بل صلاة. لا يبحثون عن حصانة طائفية، بل كرامة وطنية تُصان بالقانون، لا بالشعارات.

السؤال اليوم لم يعد نظريًا، بل صار وجوديًا: هل سيبقى المسيحيون في سوريا؟ وهل لا تزال البلاد تتسع لتنوعها؟.. الإجابة مرهونة بإرادة سياسية لا تساوم على العدالة، وبرفض مجتمعي واضح لكل خطاب إقصائي، وبإدانة صريحة لكل من يمنح الإرهابيين غطاءً بالسكوت أو التبرير.

فمنذ اندلاع الحرب السورية عام 2011، يشهد الوجود المسيحي في البلاد تقلصًا مقلقًا. كانت سوريا قبل الحرب تحتضن ما يقرب من 1.8 مليون مسيحي، أي نحو 10% من السكان، أما اليوم فتُقدّر الأعداد بأقل من 300 ألف، معظمهم من

كبار السن، بعد موجات متتابعة من الهجرة القسرية والاضطهاد والتهجير. تعرضت كنائس تاريخية للتدمير، واستهدفت أحياء بأكملها بالتفجيرات، كما جرى تهديد رجال دين واختطافهم، فيما فُرضت قيود على العبادة في مناطق

سيطرة الجماعات المتشددة. ورغم استعادة النظام لبعض المناطق، إلا أن حالة انعدام الثقة، والصمت الرسمي إزاء الانتهاكات، جعلت كثيرين يرون أن وجودهم بات مهددًا، وأن العودة إلى الديار أصبحت حلما مؤجلًا أو مستحيلًا.

ولذلك فإن الصلبان التي خرجت في الشوارع لن تنكسر، قالها بطريرك انطاكية موجها حديثه للشرع: إننا باقون وإيماننا لن ينهزم لكنها أيضًا يجب ألا تُترك وحيدة. فمن حق من صلّى للسلام أن يعيش في سلام. ومن حق من وُلد على هذه الأرض أن يموت على ترابها لا أن يُسحق على أعتاب كنيسته.

حنان فكري - المصرى اليوم
26 يونيو 2025 |