الأحدُ الثالث من شهر يونيو، يحتفلُ العالمُ بـعيد الأب. وهو عيدٌ خجول، يمرُّ على أطراف أصابعه، يكادُ لا يذكره أحدٌ، على عكس عيد الأم ذائع الصيت. لكننى من القِلّة الذين يتذكّرون هذا العيدَ المنسى ويحتفلون به؛ لأن لى أبًا

استثنائيًّا غرسَ فىّ نبتةَ الحبّ التى لا تذوى. علّمنى أبى أن حبَّ الله رهينٌ بحبّ خلق الله. وأن الانتصارَ لحقّ المظلوم آيةٌ من آياتِ الله العليا، لأنه تعالى حرّم الظلمَ على نفسه، وجعله بيننا محرّمًا؛ كما فى الحديث القُدسى.
إنه أبى المتصوفُ الذى علّمَ طفولتى أن أحبَّ جميع الناس دون سبب ودون تمييز؛ لأن كراهية أى إنسان مختلفٍ فى الدين أو الطبقة أو العِرق ينمُّ عن فقرٍ فى الوعى والأخلاق والإيمان بالله. كنتُ أراه يختصمُ، ولا يكره. يختلفُ فى الرأى،
ولا يلعن. يساجلُ خصومَه فكريًّا، ولا يدعو على أحد بالموت والويل والعذاب. وعلّمنى أن أدعو بشفاء كل مرضى الدنيا. وإن رحل شخصٌ كنتُ أسمعه يهمس: إنّا لله وإنّا إليه راجعون، اللهم ارحم موتى العالمين، والعالمين هم كل ما خلق اللهُ وسوّى.
علمنى أبى ألا أتمنى الشرَّ لأى كائنٍ حى، ولو أذانى. لأن القوةَ فى العُلوّ والنبل والغفران، لا فى التصاغر والخِسّة والانتقام. فإن مَن يكره لا يحبُّ. علمنى أن أقولَ: سلامًا، لمن لا يستحقُّ المجادلة، فأكون من عباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هونًا، وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما. علمنى أن أساجل الأقوياء، لا الضعفاء والموتى. فالضِعافُ لهم المؤازرة، والموتى لهم المغفرة.
أورثنى أبى قلبًا عاطلا عن الكراهية، ولم أسعَ يومًا لإصلاحه. فأحمد الله أننى لم أقف يومًا مُتلبِّسةً بجُرم الدعاء على أحد بالشر، رغم ما عايشته من ظُلم، وكم ظُلمت! فقط كنتُ أدعو الله بأن يفصل بينى وبين الظالمين بكشف كيدهم، وكفِّ شرّهم. علّمنى أبى أن البغض صَغارٌ فى النفس، وأن النُبلَ هو المحبة، حتى المسيئين.
هذا أبى المتصوف الجميل الذى حفظ القرآنَ كاملا، وكان يؤذنُ للصلاة فى المسجد بصوته العذب. احترمَ، وعلّمنى أن أحترمَ، جميعَ العقائد، لأنها سعىُ إنسانىُ نبيل للبحث عن الله.
أحسن اللهُ مُقامَك يا أبى فى فردوس الله الأعلى، وشكرًا لكل ما علمتنيه من قيم نبيلة جعلتنى أحيا فى حال سلام روحى، رغم أن فاتورة محبة جميع الناس باهظةٌ ومُرّة. فأنْ تُحبَّ جميعَ الناس، يعنى أنْ يحاربَكَ معظمُ الناس! لكننى سأظلُّ فى درب المحبة
غير المشروطة، لأن رضا الله خيرٌ من رضا البشر، وسلامَ الإنسان الداخلى أهمُّ من حُكم الناس على الناس وهم لا يعلمون. ولهذا قال الإمام علىّ بن أبى طالب: لا تستوحشوا طريق الحقِّ لقلّة سالكيه. ومحبةُ الناس حقٌّ، لأن الله أحبَّ جميعَ خلقه، وهو الحق.
كان أبى الجميل يُجلسنى على ركبتيه ويقرأ لى قصصَ الأنبياء. علّمنى القرآنَ وضبطَ مخارج الحروف. وكان يعشقُ الطربَ الأصيل فيُدير جهاز تسجيل جروندج Grundig ليُشيعَ فى أرجاء البيت صوتُ أم كلثوم وعبد الوهاب وفهد بلان وصباح،
أولئك عَشقهم أبى وأورثنى عِشقَهم. وكان يحبُّ القرآن بصوت العظيمين: المنشاوى وعبدالباسط، فورثتُ عنه عشقَهما. وكان يحبُّ فؤاد المهندس، وشويكار، ويتباهى بما لديه من ثروة قيّمة من مسرحياتهما. ويقول إننى أشبه شويكار.
وذات يوم قامت أمى بمسح جميع ما سجّل أبى من مسرحيات وأغانٍ من الأسطوانات لكى تسجّل عليها دروس الإنجليزية الذى كان مستر وليم يعطيها لى وشقيقى! وحين اكتشف أبى تلك الجريمة حزن كثيرًا، وخاصمها. لكن خصام أبى كان يذوبُ بابتسامة.
كان أبى خفيفَ الظل. حين تشترى أمى فستانًا جديدًا وتسأله رأيَه كان يقولُ ضاحكًا: الحكاية مش السَّدّ، الحكاية القصة اللى ورا السد!، وحين بدأ زملاء طفولتى يتنمّرون علىّ لأننى عسراءُ أو شولة،
أى أكتبُ وآكل بيدى اليسرى، ويضحكون لأننى عاجزة عن الكتابة مثلهم باليمنى، ركضتُ إليه باكيةً، فضمّنى إلى صدرى وقال: هذا تميّز، وليس عجزًا. كثيرٌ من العباقرة كانوا عُسرًا يكتبون باليسرى.
آينشتين، أرسطو، بيتهوڤن، نيتشه، نابليون، الإسكندر الأكبر، تشرشل، غاندى، نيوتن، مارى كورى، داڤنشى، مايكل- آنجلو، بيكاسو، كاسترو، آرم سترونج، وغيرهم، كانوا من العُسر. وأعلنت منظمةُ Mensa،
التى تضمُّ أذكياءَ العالم، أن معظمَ العُسر ذوو نسبة ذكاء مرتفعة. ويقولُ العِلمُ إن چين LRRTM1 فى المخ هو المسؤول عن العَسَر، لأنه يُنشِّط فصَّ المخ الأيمن، المتحكّم فى نصف الجسد الأيسر. وهذا
الفصُّ المُبدع هو ماكينةُ الخيال واللغة والرياضيات والفنون. لهذا نجد كثيرين من العُسْر، رسّامين ونحّاتين وأدباء وفيزيائيين وعلماء رياضيات. رحمك الله يا أبى الجميل وأحسن مُقامك فى عِلّيين.