ماذا لو صنعتِ النساءُ هجرةً جماعية نحو القمر، ولم يعدن. ماذا لو شيّدت النساءُ سفينةً كسفينة نوح، وأبحرن نحو جزيرة بعيدة فى نهاية الأرض، إلى حيث لا يصل إليهن إنسان؟! تصوروا العالمَ دون امرأة، دون وجه طفلة، دون قلب أمٍّ، ودون ضمير!

دعونا نتخيّل نساء العالم وقد حوّلن كلَّ صفعةٍ إلى قطعة خشب، وكل ظلم إلى قطعة خشب، وكل مرارة وألم، وكل تعنيف جسدى وتحرّش واغتصاب وبترٍ وانتهاك طفولة، وكل عقوق وخداع واستقواء وإقصاء وتجهيل، وكذلك كل صمتٍ يواجهن به جميعَ ما سبق، إلى قطعٍ من الخشب... برأيكم فى أى مدّة زمنية يستطعن بناءَ سفينة من قطع الخشب تلك؟
تصوروا عملا دراميًّا، يجمعُ بين الواقعية والرمزية، يرفعُ أمام عيوننا مرأةَ ميدوزا لنرى على صفحتها بانوراما الويلات التى تُهشّمُ المرأة على يد الأب والشقيق والزوج، بل على يد المرأة كذلك
والمجتمع، منذ ميلادها وحتى شيخوختها! الختان، زواج القاصرات، العنف الزوجى، سرقة الميراث، قمع الموهبة، التمييز، وغيرها من وجوه قمع المرأة، تتكثّفُ فى ليلة واحدة ومكان واحد، فى فيلم ليلة العيد
من تأليف وسيناريو وحوار أحمد عبد الله، وإخراج سامح عبد العزيز، وبطولة نخبة رفيعة من فنانات مصر وفنانيها منهم الراحلة العظيمة سميحة أيوب، والجميلة يسرا، والمبدعين الكبار: عارفة عبد الرسول،
سيد رجب، رشدى الشامى، ريهام عبد الغفور، يسرا اللوزى، أحمد خالد صالح، نجلاء بدر، هنادى مهنّى، عبير صبرى وغيرهم من نجوم أدّوا أدوارهم بحسّ حمل الرسالة المجتمعية الثقيلة، وليس وحسب الموهبة الفنية الساطعة.
فيلم ديستوبى ينتمى إلى مدرسة الواقعية الرمزية Symbolic Realism. أما الواقعية فتطفرُ من مشاهد الانتهاكات المجتمعية الحقيقية ضد المرأة، مثل: الختان، زواج الطفلات، العنف الزوجى، الإجبار على
ارتداء النقاب، الاتجار بالشقيقة والابنة مقابل المال فى هيئة زواج قسرى محكوم بالفشل، استلاب ميراث البنت بزعم أن الأرض والمال للذكور دون الإناث، وغيرها من الضغوط النفسية التى تغتال
المرأة جسديًّا ونفسيًّا. وأما الرمزية فتتجلّى بفنية عالية فى: 1- تجميع بانورما الانتهاكات فى جزيرة واحدة، 2- تكثيف المشاهد فى ليلة واحدة، 3- رمزية السفينة التى تهرب بها النساء إلى المجهول
فى نهاية الفيلم، ما يُذكّرنا بسفينة سيدنا نوح التى أبحر فيها الصالحون هربًا من بطش الطالحين، 3- جزّ شعر ريهام عبد الغفور على مرأى من سكان الجزيرة، فى واحد من أبشع مشاهد الفيلم المشبّعة
بالألم والديستوبيّة، حيث شعرُ المرأة يرمز إلى كرامتها وخصوصيتها وهويّتها، 4- تضفير السلم الزمنى للنساء منذ الطفولة وحتى الشيخوخة، ففى كل مرحلة لونٌ مختلف من القمع، 5- الأرجوحة التى ترمز
لتأرجح المرأة بين علّو الحُلم وهبوط الواقع المرير، وكذلك الحركة للأمام وللخلف دون مغادرة المكان ودون تحرّر،6- تعمّد تجميع صنوف الذكور الناهشة، حيث لم نر رجلا واحدًا منصفًا فى الدراما،
حتى الأب الأعمى، الفنان الذى يعزفُ العود ويحبُّ ابنته، بمجرد أن جاءته فرصة لبيعها لأحد الأثرياء أطلّ الذئبُ من صدره ووافق رغم دموعها، 7- رمزية شخصية مصر التى تجلّت فى عزيزة التى لعبتها
الفنانة يسرا، وهى موجوعة ترعى أبناءها رغم الفقر وتعنيف الزوج المشلول المتجبّر، سيد رجب، الذى يعيش من عرقها وكدّها وتعرضها للانتهاك ورفضها بيع شرفها مقابل المال، 8- جميع النساء
المقهورات لم يرددن الإساءة بمثلها، بل بالصمت الكريم الذى يُنبئ بالثورة القادمة، لم تصرخ امرأة فى وجه رجل يضربها، وحتى حين جزّ الزوجُ شعرَ زوجته بكت صامتةً، لأن انتقامها بالرحيل الوشيك
أعنفُ من الصراخ والعويل، 9- مشهد حرق الأرجوحة وكوخ السيدة العجوز فرحانة على يد شقيقها؛ يعكس اغتيال فرحة الأطفال فى العيد بالأرجوحة وكيس البومب، 10- انفراط النساء وأوجاعهن فى المجتمع ثم
تضامّهن مثل خرزات سبحة واحدة فى لحظة قرار الرحيل مع أطفالهن، 11- رسم العنف ضد المرأة على يد إحدى النساء يرمز إلى أن العنصرية فكرة لا نوعية، 12- وأخيرًا ثورة الابن على أبيه لمنعه من ضرب
أمّه، فى إشارة لذود أبناء الوطن عن مصرهم الجميلة. الجزيرة المنعزلة مجسمٌّ مصغّر للمجتمع المنغلق الذى يحيا بحسّ القبيلة التى تقدس الرجل وتحتقر المرأة. وليلة العيد رمزٌ للتناقض بين الاحتفال الخارجى والحزن الداخلى.
الفيلم البانورامى لا يقدّم حلولا بل مرايا عاكسة لواقع أليم. وليس دور الفن تقديم الإجابات بل طرح الأسئلة فى وجه الضمير علّه يصحو. ومع هذا يطفر الرمز الأكبر فى ليلة العيد حين تتحوّل مصرُ أو عزيزة فى
نهاية الفيلم إلى ضمير المجتمع الذى يرفضُ تعذيب النساء، فتجمعهن فى سفينة الهجرة نحو المجهول. والفكرة هنا هو تخيّل الحياة دون نساء حين يقررن الثأر لأنفسهن بالرحيل الصامت فى جنح الظلام نحو مرفأ أقل عسفًا.