القائمة الأقباط اليوم أبحث
أهم الأخبار

رسالة إلى «مصر الخير»... «المتوحِّدون» وحيدون! بقلم فاطمة ناعوت

بقلم فاطمة ناعوت

هاجسٌ ضاغطٌ لا يبرحُنى ولا أبرحه: ماذا سيفعلُ ابنى المتوحّدُ حين أرحلُ عن هذا العالم، الذى لا يقبلُ المُختلفين عن نَسَقِه؟! كيف يُكمِلُ عمر حياتَه وليس له شقيقةٌ ترعاه وترافقه فى رحلة الحياة

رسالة إلى «مصر الخير»... «المتوحِّدون» وحيدون! بقلم فاطمة ناعوت

الشاقّة؛ مثلما أفعلُ أنا اليوم؟ وعبّرتُ عن قلقى هذا أدبيًا فى قصائدَ عديدةٍ، وفى قصّة قصيرة عنوانها: زيارةٌ واحدةٌ كلَّ شهر، نشرتُها فى زاويتى هذى بجريدة المصرى اليوم. ناجيتُ فيها اللهَ الأرحمَ علينا منّا.

هذا المقالُ رسالةُ احترام ورجاء، أوجهها إلى مؤسسة مصر الخير التى بدأت نشاطَها النبيل منذ عام 2007؛ كواحدة من أكبر مؤسسات المجتمع المدنى فى مصر، لتُكرِّسَ التمكين المستدام للفئات الأكثر احتياجًا،

والمشاركة فى بناء الإنسان فى حقول: الصحة، التعليم، البحث العلمى، التكافل الاجتماعى ومناحى الحياة المختلفة، على أمل القضاء على البطالة، الأمية، الفقر والمرض، ليصل الإنسانُ إلى حالة الإبداع ثم الرفاهية.

قبل أيامٍ، سعدتُ بالمشاركة فى ندوة لدعم الغارمات وتجفيف منابع الغُرم، نظمتها مصر الخير بأكاديمية الفنون. عُرض خلالها الفيلمُ التسجيلى: فاطمة للمخرج مهند دياب، الذى سلط الضوء

على قصة فتاة تربّت فى كنف أسرة بديلة، واجهت تحديات المجتمع بجسارة. وكان اللقاء حافلًا بحضور نوعى رفيع المستوى لشخصيات عامة من مجالات الفن والإعلام والثقافة والصحافة والمجتمع

المدنى، من المنخرطين فى ملف الغُرم الذى يتسبب فى سجن بسطاء أرهقهم العَوَزُ وأعجزهم عن تلبية حاجات الحياة. وفى كلمتى تمنيتُ على تلك المؤسسة النبيلة أن تُزيد من وعى المجتمع

بأبناء طيف التوحد الذين يزدادُ عددُهم يومًا بعد يوم، يعيشون بيننا ويكادُ الوعى الجمعى لا يعرفُ عنهم شيئًا؛ فقط لأنهم مختلفون عن بقية البشر، فيرون ما لا نرى، وينظّمون العالمَ

بأسلوبهم الخاص على غير ما نفعل، فيواجهون صعوبات هائلة فى التواصل معنا، بل يزهدون أصلا فى التواصل، مواصلين الحياةَ فى عُزلتهم متوحدين. لهذا يظلون فى حاجة إلى من يُسيّر حياتهم بعد رحيل ذويهم.

الشهرُ الماضى، كنتُ فى أبو ظبى، للمشاركة فى المؤتمر العالمى للتوحد فى دورته الثالثة، وقدمتُ ورقة علمية عملية عن تجربتى الخاصة مع ابنى عمر، وتأثير التغذية على المتوحد. وشرحتُ البرنامج الغذائى الصارم الذى نفذتُه بدقة

كما وضعه لى الكيميائى- الحيوى المصرى- الكندى رامز سعد لتنقية الجسم من الجلوتين والكازيين والمعادن الثقيلة، وكيف انعكس هذا بالإيجاب على رغبة ابنى فى التواصل المجتمعى، بعدما كان نافرًا تمام النفور من التفاعل والانخراط.

الرحلةُ مازالت طويلة جدًّا وشاقة، لكننى ملتزمةٌ بها حتى آخر يوم فى عمرى. حين حكيتُ تجربتى مع عمر أمام أ.د. عفاف الأنصارى رئيسة المؤتمر، والحضور النوعى من الأكاديميين والأطباء

المتخصصين فى طيف التوحد من مختلف دول العالم، أدركتُ لحظتَها أن الأمّ حين تحمل قلمًا لتكتب تجربتها، فإن الحبر لا يكون حبرًا، بل دمًا وشغفًا وخوفًا. وأن صوت الأم إذْ ينسابُ من

الميكروفون ليحكى، فهو لا يطلب تعاطفًا، بل يُعلن مقاومة وصلابةً وإصرارًا على إتمام الرسالة. لكن تلك الرسالةَ لا تكتملُ للأسف مهما فعلتِ الأمُّ! فلا نجاةَ من طيف التوحد. ولا علاجَ

له؛ لأنه ليس مرضًا بل اختلافا وخصوصية وتفرّدًا وانعدام انسجام مع الواقع. لهذا لم يعد أمامنا إلا التوعية المجتمعية بأبناء التوحد، لكى يراهم المجتمعُ ويتقّبل اختلافهم، ويرحب بهم، كما هم.

هنا، تومض فى ذهنى أسماءُ بعض الجهات التى اختارت أن تنتمى إلى المستقبل، لا إلى الورق. مؤسسة مصر الخير، مثلًا، ذلك الكيان النبيل الذى لا يقدّم الخير كصدقة، بل كحُقوق مؤجلة تُردُّ لأصحابها، خصوصًا أولئك الذين لا يعرفون كيف يطلبونها بل يزهدون فيها أصلا.

أعلم أن مؤسسة مصر الخير بدأت العام الماضى الاهتمام بملف طيف التوحد، لكننى أحلمُ بأن تُكثّف الوعى المجتمعى به؛ لكى يخفَّ التنمّرُ عليهم، وتخفُتَ الدهشةُ فى عيون الناس كلما صادفوا متوحّدًا فى حياتهم. أحلمُ بورش عمل

تُعلّمُ المعلمين فى المدارس كيف يلتقطون الإشارات الأولى لطيف التوحد. أحلم بأن نخلق حاضنات تدريب للأمهات، لنعيد لهن ما سلبه الخوفُ واليأس. أحلم بأن تحتضن الدولةُ أبناءنا المتوحدين بعد رحيلنا، وتوفّر لهم مرافقين ذوى نبالة ورحمة.

نحن، أمهات أبناء التوحّد، لا نطلب إلا تسليط الضوء على طبيعة أبنائنا المختلفة من أجل حفظ كرامتهم واحتضانهم؛ لا باعتبارهم مرضى، بل بوصفهم النسخة الأنقى من البشر. وشكرًا لمسلسل حالة خاصة بطولة الجميل طه دسوقى الذى أوضح التركيبة

النفسية والذهنية الراقية للمتوحد، ونطمح فى المزيد من هذى الأعمال المحترمة لكى يزيد الوعى بأبناء طيف التوحد الذين يعيشون بيننا ولا نكاد نراهم، لأنهم مثل الظلال الخفيفة؛ لا تبحثُ عن الضوء، بل عن العزلة والهدوء والهروب من الصخب.

فاطمة ناعوت - المصرى اليوم
29 مايو 2025 |