في ضوء التصريحات الأخيرة الصادرة عن المستشار مرتضى منصور، والتي تضمّنت عبارات اعتبرها كثيرون غير لائقة في الحديث عن صاحب القداسة البابا تواضروس الثاني، عبّر عدد من الأقباط عن أسفهم واستيائهم من هذه الطريقة في تناول

شخصية دينية ووطنية لها مكانتها الرفيعة في قلوب المصريين جميعًا.فقداسة البابا تواضروس الثاني، بصفته بابا الإسكندرية وبطريرك الكرازة المرقسية، لا يُمثّل الكنيسة القبطية الأرثوذكسية فحسب، بل يُجسّد ضميرًا وطنيًا
وروحيًا، وشخصية جامعة تحظى باحترام واسع من مختلف أطياف المجتمع ومؤسساته. وقد اعتاد المصريون – مسلمين ومسيحيين – أن يسمعوا من قداسته كلمات تنبع من الحكمة والمحبة، وأن يجدوا في مواقفه مرجعية أخلاقية تدعو إلى السلام والعيش المشترك.
ولا شك أن الاختلاف في الرأي أمر وارد في الحياة العامة، لكن الحديث عن رموز دينية رفيعة يتطلب قدرًا عاليًا من المسؤولية واللياقة، خاصة حين يتعلق الأمر بشخصية بحجم البابا
تواضروس، الذي عُرف دائمًا بدعواته للتعايش والانفتاح والمحبة الشاملة دون استثناء.وقد جاءت ردود الفعل غاضبة من كثيرين، بعد تداول مقطع فيديو للمستشار منصور، تحدث فيه عن
علاقته بالأقباط، مشيرًا إلى أنه نشأ في بيئة مختلطة دينيًا، وأن له أصدقاء من الطائفة المسيحية، بل إن أول فتاة أحبها كانت مسيحية. ورغم هذه المقدمة، وجّه حديثًا إلى قداسة
البابا قائلاً: "يا قداسة البابا تواضروس لمّ العيال دي"، في إشارة إلى منتقديه من الأقباط، وهو ما اعتُبر خروجًا عن اللياقة ومساسًا غير مبرر بشخص البابا، بعيدًا عن طبيعة الخلاف.
في هذا السياق، أكّد كثير من الأقباط أن البابا تواضروس لا علاقة له بأي من الأصوات الإعلامية أو الإلكترونية التي تنتقد المستشار منصور، وأن من يقومون بهذه الأفعال هم مواطنون مصريون يعبّرون عن آرائهم الشخصية، دون أي توجيه أو غطاء من الكنيسة أو قيادتها. فالبابا تواضروس معروف بنهجه الثابت القائم على المحبة، والوطنية، وتغليب المصلحة العامة، حتى قبل مصلحة الكنيسة نفسها.
ومن المهم التذكير بأن الكنيسة القبطية الأرثوذكسية تُعد أكبر طائفة مسيحية في الشرق الأوسط، وتضم أكثر من 25 مليون قبطي داخل مصر، فضلًا عن الملايين المنتشرين في أكثر من 100 دولة حول العالم. وهي مؤسسة ليست فقط روحية، بل ذات امتداد ثقافي وإنساني ومجتمعي كبير، ولها علاقات راسخة مع مؤسسات الدولة. من هنا، جاء الاستياء من استخدام لهجة تمس شخصية بهذا الوزن الوطني والروحي.
وفي الوقت نفسه، لا يمكن إنكار أن للمستشار مرتضى منصور علاقات طويلة ومحترمة مع الأقباط، فقد نشأ في حي قاهري عريق ذي تركيبة سكانية متنوعة، وله أصدقاء وزملاء أقباط كثر، كما ضم مجلس
إدارة نادي الزمالك عنصرًا قبطيًا بارزًا هو الدكتور عبد الله جورج، واعتاد تهنئة الأقباط في أعيادهم، وكان آخرها تهنئته بعيد القيامة المجيد. ولكن منذ قضية ما عُرف إعلاميًا بـ"طفل
الحيرة"، اتخذ الخطاب العام منحى مختلفًا، وأدى إلى حالة من التوتر والعتاب، خاصة حين طالت التصريحات رأس الكنيسة القبطية نفسه.ولعل ما يُعطي أملًا في تجاوز هذه الأزمة هو ما يعرفه
كثيرون عن شخصية المستشار مرتضى منصور، من ميله للتسامح رغم حدة مواقفه أحيانًا. فتاريخه في إدارة الخلافات يشير إلى أنه كثيرًا ما يعود إلى التهدئة والتصالح، وهو ما نأمل أن يحدث في هذا السياق.
الاعتذار في هذه الحالة، إن تم، لن يُنقص من قدره، بل يعبّر عن نضج وتحمل للمسؤولية، ويُعيد الأمور إلى نصابها الصحيح، ويُغلق الباب أمام أي محاولات لإثارة فتنة أو استغلال سياسي أو إعلامي. ويبقى
الرجاء أن تسود روح المحبة والاحترام المتبادل بين جميع المصريين، وأن تبقى الكنيسة القبطية، كما هي دائمًا، شريكًا وطنيًا أصيلًا في بناء الوطن، وصوتًا يدعو إلى السلام والتعايش مهما اشتدّت الاختلافات.
وعلينا هنا جميعا إن نتذكّر أن الكلمة الطيبة والحكمة الهادئة أقوى من كل جدال وانفعال، وأن صوت العقل والمحبة هو ما يليق بشعب يعرف كيف يحفظ توازنه وقت الأزمات، ويسمو فوق الانفعالات
المؤقتة.كما يقول الكتاب المقدس: "اَلْجَوَابُ اللَّيِّنُ يَصْرِفُ الْغَضَبَ، وَالْكَلاَمُ الْمُوجِعُ يُهَيِّجُ السَّخَطَ."(أمثال 15: 1)، و"بِالْحِكْمَةِ يُبْنَى الْبَيْتُ،
وَبِالْفَهْمِ يُثَبَّتُ." (أمثال 24: 3)، وأيضًا "أَمَّا ثَمَرُ الْبِرِّ فَيُزْرَعُ فِي السَّلاَمِ مِنْ صَانِعِي السَّلاَمِ." (يعقوب 3: 18)،و"وَلْتَكُنْ كَلِمَاتُكُمْ دَائِمًا
بِنِعْمَةٍ، مَصْحُوبَةً بِمِلْحٍ، لِتَعْرِفُوا كَيْفَ يَجِبُ أَنْ تُجِيبُوا كُلَّ وَاحِدٍ."(كولوسي 4: 6)، وكذلك "اَلْحِكْمَةُ الرَّاقِيَةُ مِنْ فَوْقُ هِيَ طَاهِرَةٌ أَوَّلًا،
ثُمَّ مُسَالِمَةٌ، مُتَرَفِّقَةٌ، مُذْعِنَةٌ، مَمْلُوءَةٌ رَحْمَةً وَأَثْمَارًا صَالِحَةً، عَدِيمَةُ الرَّيْبِ وَالرِّيَاءِ." (يعقوب 3: 17).ومن هنا، نناشد الجميع – محبةً ووعيًا
– بالتوقف عن الخوض في هذه الأمور إعلاميًا أو إلكترونيًا، لأن من نعم الله على البشر نعمة النسيان، التي تمنحنا فرصة للهدوء وإعادة بناء العلاقات على أساس السلام والاحترام.ولنتذكّر
دومًا قول الرب:"مِنْ مِصْرَ دَعَوْتُ ابْنِي... مُبَارَكٌ شَعْبِي مِصْرُ." (هوشع 11: 1 / إشعياء 19: 25)فلنعمل معًا لأجل مصرنا الحبيبة، وطنًا يعيش فيه الجميع بمحبة، ويمضي نحو مستقبل من الوحدة والكرامة والسلام.