التجارب معمل إنتاج الحكمة، والألم مركز تصنيع الخبرة، لكن بماذا تفيد الخبرة والحكمة إذا ضاع العمر وزهقت الروح؟. ماذا لو كسرت التجربة تروس الحياة وشقت مفاصلها؟. عشنا ومن قبلنا أمهاتنا

وجداتنا لاجئات في أرض الرجال، بنات مجتمع ذكوري قاسٍ، كل فواتير الحكمة فيه تحاسب عليها بنات حواء، بمباركة من الجميع. ينسحب هذا المشهد القاتم بقسوة على بعض الأسر المسيحية التي تعاني
التفكك بسبب استحالة العشرة بين الزوجين خاصة مع زوج مدمن، أو شاذ جنسيا، أو عنيف ومضطرب نفسيا، وصولا إلى الزوج المجرم الذي يُبرح زوجته ضرباً بشكل متكرر، بينما يقف الشهود مكتوفي الأيدي،
إذ «لا طلاق إلا لعلة الزنى» فيتحول المجتمع الذكوري الكبير إلى خندق صغير يضيق على المنكوبين كلما حاولوا الفرار، وهكذا يضيع العمر والصحة والكرامة وكل الأشياء التي لا يمكن استردادها ما حيينا.
بينما يحدث ذلك، يقف مشروع قانون الأحوال الشخصية للمسيحيين في زاوية معتمة من خريطة القوانين المصرية، كجُرح مفتوح لا تلتئم شقوقه، تئن تحته آلاف الأرواح التي تحاصرها زيجات انتهت إنسانيًّا، لكنها تظل حية على الورق، ويعجز الجميع عن تقديم طوق نجاة، بفعل تأخر قانون يمكنه فتح نوافذ الأمل وإعادة التوازن المختل بين الإنسان والمقدس.
منال واحدة منا، عاشت في نفس المجتمع الذي ينصحها دائما بالاحتمال والصبر، بدءًا من الأقارب وانتهاء برجال الدين، حتى فقدت حياتها ثمنا للاحتمال المقدس، أم لثلاث فتيات وولد، عاشت ضحية العنف المزمن القادم من
زوجها، ذلك الوحش الذي تقاسم معها الحياة، واعتاد ضربها، ليصل في نهاية المطاف إلى قتلها، وشق جمجمتها، القصة ليست فقط واقعة منال التي تم إصدار الحكم فيها باعتبار القتل ضربًا أفضى إلى الموت، وأفلت الزوج القاتل
من الإعدام بالسجن لمدة سبع سنوات، لكن القصة في كل امرأة تحيا ظروف منال وتطالب بالعيش بكرامة وفي سلام وبلا إهانة بينما يجبرها المحيطون على الاستمرار بحجة أن الزيجة الخربة تجربة ويرددون: «احملي صليبك» ضاربين
عرض الحائط بأن حمل الصليب يجب أن يتوافق مع عدم التفريط في «وزنة» الله المعطاة للإنسان وهي حماية ذاته وصحته وحياته، فلا أحد يحمل صليبا مدى الحياة. السيد المسيح ذاته حمل الصليب بضع ساعات وساعده في حمله سمعان القيرواني.
وبينما يتشدق البعض ببركات وهمية في احتمال زوج مجرم، نجد البعض الآخر يتعلل بمستقبل الأبناء كذريعة لتصبير المرأة على الغدر والضرب والإهانة وحتى الخيانة، متناسيا أن بيت المنشأ إذا كان مسموماً بالخذلان والعنف والغدر والتجاهل والصمت المغلول لا يمكنه إنتاج أبناء أصحاء نفسيا واجتماعيا، فأي مستقبل يتحدث عنه أولئك الذين يدفعون النساء للبقاء في بيوت القساة الغادرين.
عقب صدور الحكم، طالب أبناء منال عبر وسائل التواصل الاجتماعي والمواقع الإخبارية بالقصاص العادل من أبيهم الذي هددهم صراحة بأنهم سيلحقون بأمهم في صناديق الموت، فالعدالة المجروحة تقتل للمرة الثانية.
المشروع الجديد لقانون الأحوال الشخصية يقدم حلاً وسيطا بين الطلاق والاستمرار الإجباري، هو التفريق المدني عند استحالة العشرة، لكن تأخر صدوره يتسبب في مزيد من الضحايا، فماذا ينتظر المسؤولون؟.
تاريخ من الضحايا
وقّعت الطوائف المسيحية على الصيغة النهائية لقانون الأحوال الشخصية للمسيحيين بعد 87 عاما من العمل بلائحة 38، توقف العمل خلالها فعليا بتلك اللائحة لعقود طويلة إلا في أضيق
الحدود، حينها كان سبب تشدد الكنيسة في مسألة الطلاق وإعطاء تصريح الزواج مرة أخرى هو لجوء البعض إلى أبواب تتسق مع ما تقر به المحاكم بينما ترفضه الكنيسة وأيسر هذه الطرق تغيير
الملة حيث يتم الاحتكام إلى الشريعة الإسلامية وفقا لنص قانونى يفيد بأنه في حالة اختلاف الملة بين الطرفين تطبق الشريعة الإسلامية، وظل الوضع هكذا، وكانت هناك ثلاث 3 محاولات
لإصدار القانون، الأولى في عام 1978 والثانية في عام 1998 والثالثة في عام 2008 وانتهت بصدور لائحة سدت شرايين الأمل لدى المنكوبين، وظل الوضع معلقا لمئات الآلاف من الأسر المسيحية المصرية.
لائحة 2008
على أثر ظهور مشروع لائحة 2008.. ضاقت صدور المنتظرين على مدار سنوات طويلة، وإحقاقا للحق لم يكونوا من النساء فقط، فالحكايات كثيرة وكلها موجعة، وإلى جانب التي تشكو شذوذ زوجها، والتي اتهمت نفسها بالزنى كذبا لكي تتخلص من علاقة زواج تحولت إلى عذاب يومى، أتذكر أحد الرجال المكلومين الذى قال لى نصا:
«سلبتنى زوجتى كل ما أملك فى حياتى وما يحزنني أنها سترث أموالى بعد وفاتى، ولكن للأسف تلك هى اللائحة».. وآخر يبكى لأن زوجته خانته ومعه الأدلة لكن لديه ابنتان لا يمكن أن يفضحهما فمن سيتزوج بهما إذا أفصح الرجل علانية بأن الأم زانية؟. صرخ الرجل حينها: «إما أن أُطعن فى رجولتى ويضيع مستقبل ابنتىَّ وإما أن أرضى بحياة تقوم على الغش».
البابا يريح المُتعَبين
على أثر صرخات المُتعَبين أقر البابا تواضروس الثاني في عام 2016 تعديلات للحد من المشكلة التي تؤرق الناس، وهي قصر أسباب الطلاق على علة الزنى، وحينها وسع العمل وألغى مركزية
المجلس الإكليريكي، بتقسيمه إلى ستة مجالس فرعية في الأقاليم، ومجالس أخرى في الكنائس، حتى بدأ العمل على مشروع القانون الجديد للأحوال الشخصية لغير المسلمين، واستمر لمدة
سنوات طويلة بين شد وجذب ومحاولات توافق بين الطوائف المسيحية، إذ يضم مشروع القانون الحالي طوائف الأقباط الأرثوذكس، السريان الأرثوذكس، الروم الأرثوذكس، الكاثوليك، الإنجيليين.
أسباب الطلاق في القانون الجديد
المشكلة كانت في الفجوة بين ما تراه الكنيسة وبين لائحة 38، حيث لا تلتزم الكنيسة بتنفيذ أحكام القضاء في مسألة الطلاق، لذلك جاء العمل في القانون لسد تلك الفجوة، ووفقا لتصريحات أنبا بولا مطران طنطا، مسؤول ملف الأحوال الشخصية في الكنيسة، فإن مشروع القانون الجديد حدد أسباب الطلاق وقصرها على ثلاثة أسباب هي:
«الزنى وهناك آليات لتسهيل إثبات ذلك لأنها جريمة شديدة الصعوبة في إثباتها، ومنها الأخذ بدلائل مثل الخطابات والرسائل والدردشات الإلكترونية، والصور، والحجز الفندقي، وهكذا فتح القانون الباب أمام
القضاء للاستناد إلى قرائن موثوقة والتأكد من واقعة الزنى». أضيف إلى ذلك تحريض الزوج لزوجته أو استغلالها من أجل مصلحة ما، أو وقوعه في براثن الإدمان ودعوته المدمنين إلى منزل الزوجية وهو ما يعتد به كدفع للزنى.
السبب الثاني هو الشذوذ وإجبار الزوجة على الاستخدام غير الطبيعي في الجنس، والسبب الثالث هو تغيير الدين «التحول عن المسيحية»، وألغى القانون تغيير الملة كسبب لتغيير وضع الزيجة ليقطع الطريق على «بزنس» التحول بين الطوائف من أجل الطلاق.
التفريق المدني
وفقا لتصريحان أنبا بولا فإن لائحة 38 فتحت الباب على مصراعيه أمام أسباب الطلاق وحتى لا يجبر أحد على الاستمرار تم ايجاد حل وسيط تحت عنوان «التفريق المدني»، وهو الانفصال عبر اللجوء إلى المحكمة، وهذا يتفق مع الطلاق في
كل الحقوق والواجبات المرتبطة بالطلاق، لكنه ليس مبررا للتصريح بالزواج الثاني، لكن بعد فترة من التفريق إذا حدثت متغيرات تتفق مع أسباب الطلاق، مثلا إذا أثبت أحدهما الزنى أو تغيير الدين أو الشذوذ على الآخر يمكنه الطلاق.
بطلان الزواج
القانون أيضا وضع في الاعتبار مسألة بطلان الزواج لأسباب سابقة على تاريخه، مثل اكتشاف مرض أو علة، ويحق للطرفين التصريح بالزواج، لكن في بعض الحالات يشترط موافقة الطرف الجديد على عيب الطرف الذي أبطل زواجه، فمثلا إذا أبطل الزواج لأن الزوج غير قادر جنسيا، يشترط الحصول على موافقة كتابية من الزوجة الجديدة التي قد تكون قبلت الزواج منه لأنها «مثلا» أرملة تريد من يتحمل معها مسؤولية أطفالها.
تلك هي أهم بنود القانون الجديد فيما يتعلق بالطلاق، والتي ربما لا تحقق أحلام البعض، لكنها قد تلبي الحد المقبول من محاولة إنقاذ البيوت المسيحية التي أغلقت نوافذها على زيجات تعفنت فيها الحياة، فتآكلت بصمت وقهر
مزدوج: قهر الشريك وقهر القانون الغائب، وما بين قفص الزوجية المغلق وغياب التشريع، تنفجر الكارثة في وجوه الجميع، وما لم نتدارك الأمر ستظل نهايات تلك الحكايات حاضرة فوق صفحات الحوادث بدلا من أن تجد خلاصها في ساحات العدالة.