حرب طاحنة، ودمار شامل، ونزوح متكرر، وشُح حاد فى السلع، وأسعار تتجاوز القدرة على الشراء، ومجاعة تهدد الأسر، وفقدان شبه كامل لمصادر الدخل، هذا هو واقع قطاع غزة منذ أكثر من عام ونصف العام، حيث تحولت الحياة اليومية إلى معاناة لا تنتهى.

ووسط هذه الكارثة الإنسانية، برزت فكرة طالب فى الصف السابع يُدعى كريم طارق أبوذكرى من مخيم النصيرات، الذى نزح مع أسرته أولًا إلى رفح ثم عاد إلى المنطقة الوسطى بعد اجتياحها، ثم قرر أن يكون عونًا لوالده فى مواجهة تحديات الحياة القاسية.
دليفرى برق كان الحل الذى توصل إليه، وهو مشروع توصيل متكامل ينقل الطلبات المنزلية، الأدوية المنقذة للحياة، وقطع الأثاث، بل وحتى المرضى والجرحى إلى المستشفيات.
الدستور حاورت أبوذكرى وأسرته لرصد طبيعة عمل مشروعهم وتحدياتهم اليومية فى ظل القصف المتواصل.
■ بداية.. حدثنا عن الفكرة وكيف أقنعت العائلة بها؟
- كنت طالبًا متفوقًا قبل اندلاع الحرب فى قطاع غزة فى 7 أكتوبر 2023، ومع استمرار القتال وتفاقم الأوضاع المعيشية، قررت مساعدة والدى فى تحمل أعباء الأسرة.
وبعد فترة بحث، توصلت أنا وعائلتى الصغيرة إلى فكرة مشروع دليفرى برق للنقل السريع، وجاءت الفكرة لتلبية حاجة المواطنين لوسائل نقل ميسورة التكلفة، خاصة بعد ارتفاع أسعار المواصلات؛ نتيجة إغلاق المعابر وشح الوقود.
وكنا نقيم فى منزل بمنطقة النصيرات بالمحافظة الوسطى على شارع صلاح الدين الرئيسى، إلا أن القصف دمر منزلنا مع بداية الحرب، ما اضطرنا للنزوح إلى رفح، وعندما توسعت العمليات العسكرية هناك، عُدنا إلى المحافظة الوسطى حيث نقيم حاليًا فى منزل مستأجر.
والمشروع ربحى، لكننا نحافظ على أسعار مناسبة تتناسب مع الظروف الصعبة التى يعيشها القطاع تحت وطأة الحرب والحصار.
■ كيف تم إقناع الشباب بالعمل فى مشروع صعب ومعرض للاستهداف؟
- يعيش قطاع غزة تحت الحصار منذ 17 عامًا، وخلال هذه الفترة تخرج آلاف الطلاب دون فرص عمل كافية، وعندما أعلنا عن وظائف شاغرة فى مشروعنا، تقدم 109 شباب خلال 24 ساعة فقط، معظمهم من الخريجين.
وفى يوم المقابلات، كانت المفاجأة أن المتقدمين شملوا أطباء ومعلمين ومهندسين ومتخصصين فى مجالات متنوعة، كل منهم جاء بدراجته الهوائية أو الكهربائية، راغبًا فى مساعدة أسرته فى ظل غياب الفرص الوظيفية المناسبة لمؤهلاتهم.
ومن بين هؤلاء عبدالله المبحوح، عضو فى فريقنا، الذى يعمل سائقًا للدراجات الهوائية رغم حصوله على شهادة جامعية فى تخصص تحاليل طبية، واضطر مثل غيره من الخريجين لهذا العمل؛ لسد احتياجات أسرته الأساسية.
■ ما طرق التوصيل المستخدمة؟
- فى ظل انهيار شبكة المواصلات بغزة، فرض دليفرى برق شروطًا غير اعتيادية للتوظيف تشمل امتلاك دراجة هوائية أو كهربائية أو عربة تجرها الحيوانات أو توكتوك يعمل بغاز الطهى، كحل عملى لضمان استمرارية الخدمة رغم أزمة الوقود وانعدام وسائل النقل التقليدية.
■ كيف استجاب المواطنون للفكرة؟
- شهدت خدمات التوصيل إقبالًا غير مسبوق فى غزة؛ نتيجة الظروف الأمنية الصعبة، حيث يفضل السكان طلب حاجاتهم من الأسواق والصيدليات عبر التطبيقات بدلًا من المخاطرة بالخروج.
وتفاقمت هذه الحاجة بعد انقسام القطاع إلى شطرين شمالى وجنوبى، حيث أصبح التنقل بينهما مكلفًا وخطيرًا، مما دفع المواطنين إلى الاعتماد على خدمات التوصيل كحل عملى وآمن يوفر الوقت والجهد والتكاليف.
■ ما طبيعة السلع التى تنقلونها؟
- نقدم خدمات شاملة تبدأ من شراء المستلزمات وتوصيلها من الأسواق والمحلات، وصولًا إلى نقل المواطنين خلال عمليات الإخلاء القسرى، وفى هذه الحالات نستخدم عربات تجرها الحيوانات لنقل الخيام والأمتعة، مع تحديد الأسعار حسب المسافة والوزن، وغالبًا ما تكون موحدة.
ورغم القصف المتواصل والنزوح المستمر وحتى الإصابات، فإننا نواصل التحدى والصمود، ونجحنا فى نقل الأدوية بين شمال غزة وجنوبها على مدار الساعة بالتعاون مع الصيدليات، كما نقلنا المصابين على عربات تجرها الحيوانات عندما تعذر استخدام وسائل النقل التقليدية.
ونحن عازمون على الاستمرار فى تقديم هذه الخدمات الحيوية رغم كل التحديات، حتى تحقيق هدفنا المتمثل فى توفير حلول نقل آمنة وميسورة لجميع أبناء قطاع غزة فى هذه الظروف الاستثنائية.
■ ما طبيعة الدعاية التى استخدمتها للترويج لفكرتك؟
- الإعلانات كانت عبر السوشيال ميديا وعبر صفحات واتس آب وفيسبوك.
■ كم يبلغ عدد العاملين فى الخدمة؟
- يعمل فريقنا المكون من 50 شابًا موزعين على محافظات غزة الخمس، حيث نوفر نقاط خدمة فى كل منطقة لتغطية احتياجات المواطنين. وفى ظل الأزمة النقدية الحادة وانقطاع الرواتب، نعتمد أنظمة دفع بديلة مثل البطاقات الائتمانية والمحافظ الإلكترونية، بعد أن تجاوزت نسبة صرف السيولة 30% بسبب شح العملات الورقية والمعدنية فى القطاع.
■ هل يتم نقل الأشخاص والأثاث؟
- نعم، نوفر نقل الأغراض الصغيرة بين شمال وجنوب غزة عبر الدراجات الهوائية كحل عملى ومناسب، بينما أصبحت سيارات النقل خيارًا صعبًا بسبب أزمة الوقود الخانقة، فحتى عند توفره، تصل أسعاره إلى مستويات خيالية، ما يجعل تكلفة النقل بالسيارات باهظة جدًا، ومع ذلك نواصل تقديم هذه الخدمات الحيوية بأفضل طريقة ممكنة تتناسب مع الظروف القاسية التى يعيشها أهالى القطاع.
■ كيف يتم توفير الوقود فى ظل الحرب المستمرة والحصار الإسرائيلى الخانق على القطاع؟
- فى ظل أزمة الوقود المستعصية، جاءت فكرة دليفرى برق كاستجابة مُلحة لاحتياجات المواطنين، حيث اعتمدنا بشكل أساسى على وسائل نقل بديلة مثل الدراجات والعربات التى تعمل بالطاقة البشرية أو الحيوانية.
أما السيارات التقليدية فاضطررنا لتشغيل بعضها بزيت الطبخ بعد تحويل محركاتها، فى محاولة يائسة للتغلب على شح الوقود الذى وصلت أسعاره إلى مستويات خيالية. وهكذا أصبح مشروعنا يعكس واقعًا مريرًا، حيث تحولت أبسط مواد الحياة اليومية إلى وقود بديل فى مواجهة الحصار والظروف القاسية.
ما أكثر موقف إنسانى تعاملت معه؟
- فى برق، تمكّنا من إنقاذ حياة شاب من شرق مخيم البريج للاجئين، حيث نقلناه على عربة يجرها حيوان إلى أقرب نقطة طبية تابعة للهلال الأحمر الفلسطينى عند مدخل المخيم، ما أسهم فى إنقاذه وتلقيه العلاج المناسب.