القائمة الأقباط اليوم أبحث
أهم الأخبار

الأوقافُ والأزهرُ فى وداع البابا «فرنسيس» بقلم فاطمة ناعوت

بقلم فاطمة ناعوت

الكبارُ من رموز العالم، الذين كرّسوا حياتهم لنشر قيم السلام والمحبة بين بنى الإنسان، هم ميراثٌ مشتركٌ بين البشر أجمعين. لهذا، احتشد نحو نصف المليون مشيّع فى ساحة كاتدرائية القديس بطرس فى الفاتيكان فى مراسم وداع البابا فرنسيس، يتقدمهم ملوكٌ وأمراءُ ورؤساءُ دول وشخصياتٌ عامة من جميع أرجاء الأرض، ومن مختلف العقائد والجنسيات.

الأوقافُ والأزهرُ فى وداع البابا «فرنسيس» بقلم فاطمة ناعوت

ومن مصر سافر الدكتور أسامة الأزهرى، وزيرُ الأوقاف ومستشارُ رئيس الجمهورية للشؤون الدينية إلى روما، لتقديم واجبَ العزاء وحضور مراسم الجنازة التى أُقيمت صباح أمس الأول 26 أبريل. وقد حضر الوزيرُ على رأس وفد

رفيع المستوى من مؤسسة الأزهر الشريف، نيابةً عن الرئيس عبد الفتاح السيسى، وبالأصالة عن نفسه. فقد كتب الدكتور الأزهرى كلماتٍ راقية نعى بها البابا فرنسيس، واصفًا إياه بأنه رمز إنسانى من الطراز الرفيع،

مشيدًا بدوره البارز فى دعم قضايا العدالة والسلام، مُثمّنًا حرصه على مد جسور الحوار مع العالم الإسلامى. كذلك أعرب الإمام الأكبر الدكتور أحمد الطيب عن حزنه العميق لوفاة البابا، واصفًا إياه بأنه شخصية

إنسانية متميزة وصديق عزيز كرّس حياته لخدمة الإنسانية، وأشاد بمحبة البابا فرنسيس للمسلمين، وإخلاص دعوته للسلام، وثمّن دفاعه عن فلسطين وأهل غزة المضطهدين، وقال إن جهوده الطيبة أسهمت فى دفع جهود الحوار الإسلامى-المسيحى.

تعكس تلك الكلمات الراقية عمق وأصالة العلاقة الطيبة بين الأزهر والفاتيكان، والتى توثّقت عُراها خلال توقيع وثيقة الأخوة الإنسانية فى أبو ظبى عام 2019 والتى تهدف إلى تعزيز قيم التسامح بين البشر على اختلاف أعراقهم،

وترسيخ أخلاقيات التفاهم والتقارب والحوار الإيجابى بين الأديان. أما الرئيس عبد الفتاح السيسى فقد أشار إلى أنه سيظل مُمتنًا للقاء الذى جمعه بالبابا فرنسيس فى مقر إقامته بالفاتيكان، معبرًا عن تقديره لشخصه وجهوده فى

تعزيز السلام والتفاهم بين الأديان. هكذا الكبارُ يعرفون قيمةَ الكبار ويقدّرون جهودهم ويُُعلّون لواءَ الإنسانية ويُجلّون مقامَ الرحيل ويدركون أن المحبة كنزٌ هائل إن فرّط فيه البشر، تراجع موكبُ الإنسانية وتصدّعت أركانُه.

وها نحنُ كذلك نحتشدُ فى رحاب كنيسة سان جوزيف للآباء الفرنسيسكان بالقاهرة، لنقدّم واجب العزاء فى فقيد الإنسانية الجليل قداسة البابا فرنسيس، بابا الفاتيكان الذى جال يصنع خيرًا، وغمر العالم برسالته

الإنسانية، ومحبته للسلام، ودعوته الدائمة للرحمة والتواضع والحنو على الفقراء والبسطاء والمرضى واللاجئين، وحتى الخُطاة للأخذ بأيديهم نحو الصلاح. ولم نأتِ لنودع بابا الفاتيكان، بل لنودّع رمزًا

للضمير الإنسانى الحى، ورقمًا صعبًا فى عالم رجال الدين الذين تخلّوا عن مظاهر الأبهاء وغادروا قصورهم العالية ليتجولوا فى الطرقات بين البسطاء والمعوزين يمدون لهم يد المحبة والاحتواء والإقرار

بكرامتهم. ولم يكن حضورُ الأزهر الشريف ووزارة الأوقاف وتمثيلُ الرئيس السيسى فى شخص الدكتور أسامة الأزهرى، مجرد حضور بروتوكولى شكلى، بل كان رسالةً مصرية بالغة الدلالة تكرّس إيمان الدولة المصرية بأن

القيم الإنسانية العليا، مثل الرحمة والسلام والمحبة، تتجاوز الأطر الدينية والسياسية، لتصبح لغةً واحدة يتحدث بها كل مَن أدرك جوهر الأديان، وفهم رسالة السماء إلى الأرض. تلك الرسالة التى تتلخص فى كلمة واحدة: الإنسان.

وكان ذلك الحضورُ المصرى والإسلامى الرفيع فى وداع بابا الكاثوليك ردًّا حاسمًا على صغار النفوس فقراء الروح ضحال العقل الذين لوثوا صفحات السوشيال ميديا بكلمات الشماتة فى رحيل هذا الرمز

العالمى الطيب، دون احترام لجلال الموت ولا مكانة الراحل الكريم، وربما دون أن يدركوا أنهم بسلوكهم المراهق هذا، إنما يسيئون لديننا الحنيف الذى علّمنا الاحترام والتحضّر والسمو. كان البابا

فرنسيس رجل لقاءٍ وحوار، لا رجل سلطة وتعالٍ. عاش يبنى الجسور بين القلوب، لا الجدران بين الأمم. دعا إلى كسر شوكة الكراهية، وأيقظ الضمير العالمى للدفاع عن المظلومين، لاسيما فى مناطق النزاع

والصراع مثل فلسطين، فلم يتردد فى إدانة العدوان الإسرائيلى على غزة، ونادى بإيقاف نزيف الدم، ونُصرة المدنيين والأطفال. كان يؤمن بأن الأديان خُلقت لا لتتصارع، بل لتتعانق فى سبيل بناء عالم

أكثر رحمة وإنصافًا وسلامًا. لهذا لم تحزن الكنيسة الكاثوليكية وحدها على رحيل البابا فرنسيس، بل حزن عليه كل قلب آمن بأن هذا العالم لا يُدار بالقوة، بل بالرحمة، ولا يُحكم بالجبروت، بل بالتواضع.

رحل البابا فرنسيس، بعدما ترك فى ضمير البشرية أثرًا لا يمحوه الزمان. ترك سيرةً نبيلةً لرجل آمن بالإنسان، ودافع عن الضعفاء، وغسل أقدام الفقراء واللاجئين، واعتبر أن كرامة الإنسان فوق كل اعتبار.

سلامًا لروحك، أيها الأبُ الحانى الذى ابتسم فى وجه صغيرى المتوحد عمر وربّت على رأسه. امضِ إلى الخلود فى سلام، وطوبى لمَن يحمل الشعلة التى أوقدتها فى عالمٍ يحتاج إلى الضياء والمحبة والسلام.

فاطمة ناعوت - المصرى اليوم
28 ابريل 2025 |