تبهرنى الحضاراتُ القديمة الضاربة بجذورها فى عمق الزمان، وتوقظ فضولى للمعرفة والتأمل. لذا، صقلتُ مرايا حواسّى وشحذتُ نصالَ حدسى؛ لكى أعيشَ هذا اليوم، رأس السنة الصينية، بكامل وعيى، مستغرقةً فى تفاصيل الطقوس والفلسفات القادمة من

أقاصى الشرق؛ الصين، تلك البلاد المدهشة التى صنعت إحدى أعرق الحضارات وأسهمت فى تشكيل ملامح الإنسانية. ولأننى أنتمى إلى واحدة من أقدم حضارات التاريخ، فإن شغفى بالعراقة تشكّل مبكّرًا جدًّا؛ منذ بدأت رحلتى فى القراءة وتحصيل المعارف.
صديقى المصرى هانى، وزوجته الصينية الجميلة آليس، وأبناؤهما الذين تشكّلت ملامحهم ومعارفهم من امتزاج تلكما الحضارتين العريقتين، كانت دعوتهم لى بمثابة قراءة كتاب جديد، طُبعت منه نسخةٌ
واحدة من أجلى. كتابٌ كُتبت سطورُه بخلطة حبرٍ مدهشة من مياه النيل ونهر هوانغ هو. إنها الحضاراتُ النهرية التى نشأت على ضفاف الأنهار، ما سمح لأبنائها بالاستقرار والتشييد والعمران، ومن
ثَمَّ ابتكار العلوم والفنون والمعارف وبقية مفردات الحضارة. فحين يرفعُ التاريخُ طبشوره ليكتب عن الحضارات العريقة التى شكّلت وجه الإنسانية، تتصدّر اللوحةَ مصرُ والصيُن؛ بوصفهما أقدمَ
حضارتين وأطولها استمراريةً ورسوخًا. كلاهما لم يكن مجرد بلد، بل مهدًا للفكر والفنون والسياسة والعلوم والفلسفة والعمارة، ما جعلهما قوتين ثقافيتين هائلتين، شكلتا وجدان العالم، قديمه وحديثه.
رأس السنة الصينية يقع فى يوم بين نهايات يناير وبدايات فبراير وفقًا لدورة القمر، فى النظام القمرى. وهذا العام 2025، كان الاحتفال بالعام الصينى الجديد يوم 29 يناير، وهو عام الأفعى الخشبية، الذى يرمز للحكمة والأناقة ودِقّة الحدس. والاحتفال به يُعدُّ تجسيدًا عميقًا للهوية الثقافية والقيم العائلية والتقاليد المتوارثة فى الصين منذ فجر التاريخ
فى مزرعةٍ قصيّة، فى غرب القاهرة، احتضنتنا الأشجارُ بثيابها الخضر، والنخيلُ بشهوق جذوعها، والبحيراتُ بصفحاتها الزرقاء، لنقضى يومًا لا يُنسى، بدعوة كريمة من آليس، التى قدمّت لنا
الهدايا والطعام بيد المحبة وقلب الترحاب. ولم تنسَ أن تقدم لصغيرى عمر ذلك المظروف الأحمر الأنيق، هونغ باو، وداخله عيدية العام الجديد الذى يُقدّم للصغار فى الصين مطويًّا على أمنيات
الحظ والبركة، وكأنما منحته خيطًا من تقاليد وطنها العريق. ابتسم عمر، فأضاءت ابتسامتُه قلبى، مثلما تضىء الفوانيس الحمراء سماء بكين فى الليلة ذاتها. كانت آليس، ابنة الشرق الأقصى، توزّع
ابتسامتها علينا مع صحون الطعام، فكانت سفيرة رائعة لتلك الطقوس الطيبة التى ورثتها عن قدامى أسلافها. واستكمالًا لطقس بداية العام، اجتمعنا حول مائدة مستديرة، كما يفعل الصينيون فى
مناسباتهم. فالمائدة المستديرة وراءها فلسفة تقول: لا أحد فى المقدمة، لا أحد فى المؤخرة، الجميع متساوون، يشاركون ذات النكهة ويتشاركون اللحظة ذاتها. وتعرفنا يومها على الأكلة الشعبية فى
الصين: هُوُو غُوُو، ومعناها القِدْر الساخن، وهى بدورها فلسفة وليست مجرد طعام، بل تجربة تفاعلية، حيث يغمس كلُّ فرد ما يشاءُ من الخضروات الطازجة وشرائح اللحم الرقيقة وفواكه البحر، فى
المرق المغلىّ، وكأننا نمزجُ ذوائقنا المختلفة داخل القِدر الواحد، فتسرى نكهاتُ الطعوم وتتمازج مثلما يتمازج البشرُ ليصنعوا الحضارات الإنسانية. التقطتُ بعصوات الطعام الصينية قطعةً من
الفِطر، ووضعتها فى طبق عمر، ثم أطعمته بيدى، تمامًا كما تفعل الأمهات الصينيات فى طقس يرمز للحب والرعاية. فالأم فى جميع ثقافات العالم تتشابه فى إطعام ابنها أولًا، كى تضمن له عامًا دافئًا مشبعًا بالحب والحنو.
وعندما حلّ المساءُ، انطلقت فى السماء الألعاب النارية، تتفجر بين الغيوم بالألوان والبريق، وكأنها ترسم أمنياتنا بحبر من ضوء. وتلك كذلك فلسفةٌ مُستقاة من روح الاحتفالات الصينية: حين كان
الصينيون فى القرون الأولى يشعلون المفرقعاتِ لطردِ الأرواحِ الشريرةِ التى تُحوِّم حول المدينة، فيصفو وجهُ الطبيعة ويستقبلون العام الجديد بصفحةٍ بيضاء. وكما كان القدماءُ يؤمنون بأنَّ الدوىَّ
القوىَّ لتلك المفرقعات يبثُّ الحياةَ فى السنةِ القادمة، كذلك شعرنا بخفق الفرح يدقُّ فى قلوبنا ونحنُ نرقبُ الألوانَ وهى تتفتحُ فوق رؤوسنا كزهورِ الفاوانيا فى شنغهاى، وزهرة اللوتس التى تتفتّح فى طِيبة.
الليلة، الاثنين 3 فبراير، فى الثامنة مساءً، تحتفل مصرُ بأسبوع الفن الصينى فى دار الأوبرا المصرية، بالشراكة مع اتحاد الدوائر الأدبية والفنية الصينية، وسفارة جمهورية الصين الشعبية فى القاهرة، من خلال مؤتمر الترويج للسينما والتليفزيون والأعمال الإلكترونية الصينية، والعرض الأول للفيلم الوثائقى صالون.
سعيدةٌ بالتعرف على هذه الأسرة المصرية/الصينية الجميلة، وسعيدة بأن أولى الجوائز الشعرية التى حصدتُها فى مشوارى الأدبى كانت من هونج كونج: أفضل ديوان شعرى عربى لعام 2006 عن مخطوطة ديوانى قارورة صمغ الذى تُرجم عامئذ إلى الصينية والإنجليزية، وصدر عن دار ندوة بريس بالصين. شكرًا للحضارة، وشكرًا للمحبة.