القائمة الأقباط اليوم أبحث
أهم الأخبار

كيف تقتلُ الأدبَ؟ شكرًا قصور الثقافة.. بقلم فاطمة ناعوت

بقلم فاطمة ناعوت

كيف تقتلُ مسرحية عظيمة لـشكسبير، أو رواية رائعة لـنجيب محفوظ، أو قصة قصيرة لـتشيكوف، أو ربما قصيدة عذبة لـإبراهيم ناجى؟. الإجابة باختصار: اختصرها. فى معرض القاهرة الدولى للكتاب الذى يُشرقُ هذه الأيام فى شرق القاهرة،

كيف تقتلُ الأدبَ؟ شكرًا قصور الثقافة.. بقلم  فاطمة ناعوت

تأكدت لى تلك الجريمة فى بعض الندوات الأدبية التى حضرتها لمناقشة بعض الأعمال الأدبية. يجلسُ الناقدُ على المنصّة ثم يحكى الرواية!!، ولا أدرى ماذا ترك للقارئ بعدما أحرق الأحداثَ، وأخمد الترقّب، وقتلَ الشغف، وخدَّرَ

القلق، وأطفأ الدهشة، وألقى بلحظة انصهار القارئ بين شخوص الرواية فى صقيع الكشف؟!. كتبتُ مقدماتٍ وتصديراتٍ لروايات عديدة بناء على طلب مؤلفيها، وقمتُ بترجمة روايات عديدة لروائيين عالميين مثل فرجينيا وولف، وفيليب روث،

وتشيمامندا نجوزى آديتشى، وتشينوا آتشيبى وغيرهم، وكتبتُ مقدمات لتلك الأعمال، وفى جميع ما أكتب من مقدمات أحرص دائمًا على ألا أحكى الأحداث حتى لا أخدشَ غلالةَ الشغف التى سوف يتدثر بها القارئ حين يبدأ فى قراءة العمل الأدبى.

لستُ من أنصار تلخيص الكتب. الكتابُ إمّا يُقرأ، أو يُترك، فى سلام. فالكتابُ، أىُّ كتابٍ، ليس وحسب، بما يحويه من أفكار وأحداث وشخوص، بل بالأسلوب الذى طُرحت به تلك الأفكارُ، وقُصَّت به

الأحداثُ، ورُسمت الشخصيات، فالأفكارُ، كما قال الجاحظ، مُلقاةٌ على قارعة الطريق. ولكن ما يميّز كاتبًا عن كاتب هو طريقة وأسلوب عرض ذلك الشىء الذى يسبحُ مُهوَّمًا فى خيال الكاتب، حتى يحوّله

إلى حروف، تستقر على صفحة ورقة بيضاء، فى كلماتٍ وتعابيرَ وفقرات وكتب ومجلدات!، فتدخل، عبر عينى القارئ، إلى عقله وقلبه وروحه، فيخرج بعدما يغلق دفتى الكتاب شخصًا آخر غير ما كان عليه قبل ولوج الكتاب.

فى طفولتنا، كانوا يمنحوننا مسرحيات شكسبير مُلخّصةً، Simplified Shakespeare، فتعرّفنا منها على الملك لير وبناته الثلاث، وخاصمنا ليدى ماكبث، التى أودت بزوجها إلى التهلكة حين تآمر طمعُها مع طموح زوجها على مائدة

الخديعة، غضبنا على بروتس، الذى خان عرّابه يوليوس قيصر فأوجعه الغدرُ أكثر مما أوجعه الخنجرُ يُغمَد فى ظهره، أحببنا أوفيليا وتعاطفنا مع هاملت الباحث عن هويته وثأر أبيه. بكينا مع أوديب يتعثّرُ فى عماه،

وحلمنا مع روميو وجولييت، احترمنا ديدمونة وحنقنا على عُطيل. عرفنا مضمون الحكايات، لكننا لم نعرف شكسبير حقًّا، ولم ننصت إلى صوته، إلا حينما قرأنا مسرحياته، كما كتبها قلمُه، قبل أن يبتسرها مقصُّ التلخيص.

قبل أعوام، أعطيتُ صغيرى مازن رواية الخيميائى لـباولو كويللو، فى ترجمتها العربية الجميلة التى اختار لها الروائى الكبير بهاء طاهر عنوان ساحر الصحراء. وعدتُ ابنى بمكافأة بعد قراءتها، تشجيعًا له على

اختبار متعة القراءة. دخل غرفته، ثم عاد لى بعد برهة قائلًا: رواية جميلة، وأجمل ما فيها أن سنتياجو وجد الكنز فى السعى نحوه، وليس ذلك المدفون تحت الهرم! وراح يحكى لى الروايةَ ويناقشُ الدلالةَ الفلسفية

والرمزية حول رحلة سانتياجو وحُلمه!. طِرتُ فرحًا!. ابنى صار قارئًا!. وحين هنأته على موهبته فى سرعة القراءة وبراعة التحليل، أخبرنى بأنه اكتفى بقراءة مقدمة الأستاذ بهاء، التى طرحَ فيها مُلخّصًا للرواية

ورؤيةً تحليلية لرمزها الفلسفىّ. اكتفى صغيرى بالمقدمة لأن نظريته العبقرية تقول: ليه تقرا أكتر، لمّا ممكن تقرا أقل؟!، وتعلّمتُ يومها أن على المترجم ألا يكشفَ العمل حتى يُجبرَ القارئ على القراءة، ولا يقتل شغفه.

تلخيص الكتب جريمة أدبية، ولكن فى المقابل بوسعنا تشويق القراء وتشجيعهم على القراءة عبر نثر قطعٍ وومضاتٍ ولآلئَ من كنوز الكتاب من أجل اجتذاب القراء، خصوصًا الشباب العازف عن القراءة الأدبية، والذى بدأ ينجرف نحو بوستات سوشيال ميديا منزوعة الأدب فقيرة الإبداع، فمتعةُ القراءة لا تضاهيها متعةٌ أخرى.

شكرًا للشاعر المثقف الصديق جرجس شكرى، أمين عام النشر بالهيئة العامة لقصور الثقافة، على إصداره عشرين عنوانًا من كنوز الدكتور طه حسين فى معرض الكتاب بسعر رمزى احتفالًا بالذكرى الخمسين على

رحيل عميد الأدب العربى العظيم، منها مستقبل الثقافة فى مصر، مع أبى العلاء فى سجنه، مرآة الإسلام، وكذلك الكتاب الإشكالى الخَطِر فى الشعر الجاهلى. ومن المبهج بحق أن كنوز طه حسين قد لاقت

إقبالًا جماهيريًّا حاشدًا، وكأن الشباب قد ضجروا من غثاء الكتابات الاستهلاكية منزوعة الدسم الإبداعى فقيرة القيمة الفكرية، فراحوا يفتشون بين أضابير أوراق الزمان الصفراء المتهالكة عن

الأثر الخالد والإرث القيّم من الألماسات والدُّر والأحجار الكريمة التى تركها لهم السلفُ العظيم، ميراثًا خالدًا لا يذوى شبابُه ولا يخفت بريقه. صوموا تصِحُّوا جسدًا، اقرأوا تصِحُّوا روحًا وفكرًا.

فاطمة ناعوت - المصرى اليوم
30 يناير 2023 |