القائمة الأقباط اليوم أبحث
أهم الأخبار

200 جنيه.. تتلصَّصُ على المجتمع! .. بقلم فاطمة ناعوت

بقلم فاطمة ناعوت

كأنكَ تتلصَّصُ على بيوت بعض أُسر المجتمع وأسرارِها، عبر عينى ورقة مالية من فئة الـ 200 جنيه، تلك التى راحت تسافرُ من يدٍ فقيرة، إلى يد عابثة لصّة، إلى يدٍ كادحة، إلى يدٍ فنانة،

200 جنيه.. تتلصَّصُ على المجتمع! .. بقلم  فاطمة ناعوت

إلى يدٍ مقهورة، إلى يدٍ ثرية، إلى يدٍ مستغلِّة، إلى يدٍ كريمة، إلى يدٍ لاهية، إلى يدٍ مُعوزة، إلى يدٍ حاسدة، إلى يدٍ طامعة، إلى يدٍ عاجزة، إلى يدٍ شريفة، إلى يدٍ أرملَ، إلى يدٍ

مريضة، إلى يدٍ خائنة، حتى تعود بلعنتِها إلى اليدِ العابثة التى سرقتها، ثمّ تُتِّمَ تعويذتَها وتسقط من جديد فى يد صاحبتها الأولى: الأمّ الفقيرة التى صارت ثكلى، بعدما أطلقت

لعنتَها القاتلة على صاحب اليد اللصّة، وهى لا تدرى أنه ابنُها الأوحد. فيتصدَّعُ قلبُها المفجوعُ وتتساقط أشلاؤه مع تهاوى الورقة المالية الملعونة المختومة باسمها على أسفلت الطريق.

فلاشاتٌ وامضةٌ من مَشاهدَ خاطفةٍ غيرِ مشبَّعة، لا تحكى إلا ما يكفى أن نعرفَه عن أحوال نماذجَ من الناس، لكى نتعرَّفَ عليهم ونكون شهودًا على مآسيهم وأحلامهم. أبطالُ تلك المشاهد نجومٌ كبارٌ على

الشاشة، بسطاءُ مهمَّشون مهشَّمون على أرض الواقع ذى الأطياف المتعددة. لكن اكتمالَ تلك المشاهد المبتسرة، فى نُقصانها وعدم تشبّعها. ففى النقصِ اكتمالٌ. لأن عقل المُشاهد سوف يُكملُ ما نَقُصَ من خبراتِه الخاصة.

فيلم 200 جنيه تأليف أحمد عبدالله، وإخراج محمد أمين وبطولة عدد هائل من نجوم الصفِّ الأول، يمثِّل كلٌّ منهم بطلَ حكاية قصيرة موجعة بالاشتراك مع البطلة الرئيسية التى تمثِّلُ القاسمَ المشترك فى جميع

الحكايا: ورقة الـ 200 جنيه، التى كانت بمثابة ظرف زمان يتجوَّلُ بين ربوع الأمكنة فى البيوت والشوارع والأزقّة والحوارى والمؤسسات الحكومية وجيوب الأثرياء وأسمال الفقراء، حتى ترتسم لنا تابلوهاتٌ

ناقصةٌ من حيوات بشر كثيرين تنقلت الورقة بين أياديهم لتقصَّ علينا ما تيسَّرَ من أوجاعهم وأحلامهم المُجهضة على نحو مقتضب وغير كامل، على أن نُكمِل نحن المشاهدين ما نقُصَ عمدًا فى فلسفةٍ فنية مبتكرة وناجزة.

الخُطّةُ الإخراجية التى وضعها محمد أمين تقومُ على تعشيق فلاشات موزاييك بشرية حيّة من مَشاهدَ إنسانية فى أوج لحظات ضعفها وانكسارِها، أبطالُها بشرٌ من البسطاء والأثرياء لا

يعرفون بعضهم البعض، ولا تتقاطعُ حيواتُهم إلا من خلال ورقة مالية صغيرة، تعرفُهم ولا يعرفونها. ورقةٌ مالية صارت باليةً من فرط ما تناقلتها الأيادى ورشقتها العيون، فقررت هى أن

ترشقَ عينَها الفاحصةَ داخلَ بيوتهم وأرواحهم لكى تتلصّص على أسرارهم وتحكيها لنا، بينما هم لا يرون فيها إلا عددَ مائتين من الجنيهات، وما بوسع قوتها الشرائية أن تسدَّ لهم من حاجة.

النجمة المثقفة والإعلامية الاستثنائية إسعاد يونس تفتتحُ لنا الفيلم كسيدة أُميّة فقيرة تبيتُ ليلتَها فى الشارع حتى تفتحَ مؤسسةُ المعاشات شبابيكَها، فتضمنُ أن كيسَ نقودِها الظامئَ سوف يبلّ

ريقه بحفنة من النقود بالكاد تكفى الخبزَ الذى يسدُّ الرمق، وبعض قطع حلوى لأطفال الحارة المحرومين. لكن القدر لن يكتفى بفقرها وعوزها، فقرر أن يضيف إليهما وجعَ الثكل فتفقد ابنَها الوحيد بعدما

دعت عليه بالموت، وهى لا تدرى أنه محطُّ دعوتها. تفتحُ لنا إسعاد يونس قوسَ الفيلم كامرأة فقيرة مبتهجة بالأمل، وتغلقُ لنا القوسَ الآخر كأمٍّ مفجوعة صارت قاتلةً لابنها العابث. وبين القوسين

حكايا كثيرة قدّمها لنا نجومٌ كبار بوسع كلّ منهم أن يحملَ عملا مستقلا، لكنهم آثروا أن يقدّموا لنا سماءً مرصّعةً بالنجوم فى هذا العمل الجميل. ليلى علوى الزوجة الجميلة المخلصة التى ترعى زوجها

فى مرضه، حتى تدفنه وتدفن معه حياتَها. أحمد السقا السائقُ الشهم الذى يجودُ بما لديه لكى يمسحَ دموعَ سيدة مفجوعة. أحمد آدم الطامعُ الذى لا يشبعُ من استغلال المعوزين. غادة عادل الراقصةُ التى

تكره عرض جسدها للناهشين وتحلمُ بما يُنجيها من عوزها. خالد الصاوى الثرى الذى يحسد الخادمة الفقيرة على راحة البال وقلّة المَطالب، والخادمةُ التى تردُّ له الحسدَ حسدًا. هانى رمزى العاملُ

الفقير الذى يقهره احتياجُ طفلته لارتداء فستان جديد فى حفل المدرسة. صابرين الفنانة التى ترصدُ تحوّل سيدةٍ من تحت الأضواء إلى بائعة متجولة يقهرها المتنمرون. أحمد السعدني الذى يفتتح الفيلم

كشابٍّ عابث يسرقُ أمَّه، وينتهى به الحال ممزقا على أسفلت الطريق بسبب لعنة السرقة الأولى. وغيرهم العديدُ من النجوم الذين غزلوا لنا نولَ خيوط هذا الفيلم الجميل، الذى يقدّم لنا بانوراما الطبقية والوجع فى كل مجتمع.

twitter:@fatimaNaoot

فاطمة ناعوت - المصرى اليوم
13 سبتمبر 2021 |