القائمة الأقباط اليوم أبحث
أهم الأخبار

أمّى.. التى تموتُ كلَّ عام! .. بقلم فاطمة ناعوت

بقلم فاطمة ناعوت

فى شهر سبتمبر من كل عام، تترك أمى غصنَ شرفتنا، وتطيرُ إلى حيث تطيرُ الأمهاتُ ولا يعُدن. منذ أول طيرانها قبل أعوام، أنتظرُها كل صباح، تربتُ على كتفى، وتقول: متى تدركين أن الحياة ليست ما

أمّى.. التى تموتُ كلَّ عام!  .. بقلم فاطمة ناعوت

تقرئين فى الكتب؟! الحياة ليست مثالية وليس كل الناس ملائكة كما تظنين!. أمى سيدة واقعية، ترى الأمورَ كما هى، وتُسمّى الأشياءَ بأسمائها. وأنا حالمةٌ مثل أبى، أصبِغُ الواقع بألوانى، حين لا

يروقُ لى؛ بوسعى أن أرى برجَ الكهرباء نخلةً خضراء، وأن أسمع فى صخب السيارات هديرَ بحر، أو مقدمة إحدى سيمفونيات تشايكوفسكى. تلك إحدى الحيل الذهنية التى يلجأ إليها مَن يرفضون ما فى الواقع من شرور.

كنت أراها جبلًا، كيف لسيدة جميلة أن تكون جبلًا؟! وأنا صغيرة، حين قرأتُ الميثولوجيا الإغريقية، قبضتُ على أمى بين ربّات الأساطير. رأيتها أثينا حين تطفرُ حكمتُها، آرتيمس حين تخرج للعمل مثل رجل، وتعود إلى البيت لتحمى

صغارها، أفروديت حين تتكسرُ أشعةُ الشمس فوق وجهها الناصع، هيرا حين تغضبُ وتنهرنى لكى أترك رواية أقرؤها لأذاكر دروسى، هيستيا حينما أغلقت علينا باب البيت لتربينا وحيدةً بعد رحيل أبى، لتدخل معجمَنا عبارةٌ جديدة: أنا أمٌّ

وأبٌ. وبحثت عنها طويلًا فى يوفروسينى، فلم أجدها لأن أمى كانت نادرًا ما تضحك. كانت أشدَّ نساء الأرض بأسًا. مرةً واحدةً وحيدة، شاهدتُ انكسارَ أمى. كسرها عمر ابنى، حينما اكتشفنا إصابته بمرض التوحّد. رأيتُ دموعَها للمرة الأولى!

تموتُ أمى عند الساعة الثامنة مساء 5 سبتمبر من كل عام. ويقعُ الخبرُ على قلبى كصاعقة. تميدُ الأرضُ بى، وأدخلُ فى حال بكاء صامت، ثم أستسلمُ لشعور الخوف والقلق من غدٍ مخيف بغير أم. ثم أكتبُ لأعزّى نفسى: صوتُ أمى لا يطيرُ مرتين. أرحمُ ما فى موت الأمهات أنهن لن يَمُتن مرةً أخرى. أن ينتهى رعبُ المرءِ من فكرة فقد أمّه.

محاولةٌ بائسة لإيجاد أى فرح أو راحة فى موت أمى مرّةً واحدة، بدل الخوف من موتها كلَّ يومٍ! لكننى أدركُ الآن كم كنتُ أخدعُ نفسى! فالحقيقة أن أمى تموتُ كلَّ يومٍ منذ طيرانها إلى الله

مع كل نهارٍ يصافحُنى دونها، ومع كل محنة أمرُّ بها وحيدةً دون سند، ومع كل مشكلة عابرة تواجهنى خلال نهارى ولا أجد مَن يساعدنى عليها، ومع كل صفعة من الحياة تصفعنى ولا أجد مَن يربتُ

على ظهرى ويُمسّد شعرى قائلًا: ولا يهمك، أنا معك، وسوف يكون الغدُ أجملَ، ومع كل عيد أم دونها، ومع كل لحظة يقع فيها بصرى على رقمها على شاشة هاتفى، ومع كل دقّة تليفون فى بيتى أركضُ

وأنا أرجو أن تكون المهاتفة من ماما، لأسمع صوتها ذاك الذى تبخّر فى الأثير ولم يعد موجودًا، ومع كل نظرة إلى مذياعها وساعة الحائط فى بيتى، تلك التى كانت يومًا فى بيتها، ومع كل صورة

لها تقع عينى عليها فى ثوب زفافها إلى أبى بعدسة الأرمنى ڤان ليو، ومع كل نظرة فى عينى ابنى مازن لأتذكر صوتها يقول: مازن طفل مُشرِّف، وفى عينى ابنى عمر لأتذكر كم داخت به عند الأطباء

لتنقذه من التوحد، حتى إنها قبّلتْ يومًا يدَ الطبيبة قائلة: عمر لازم يخفّ يا دكتورة!، فانهرتُ وأنا أرى هذا الجبل الصلب، الذى هو أمى التى لم تخضع يومًا لأحد، وهى تقبّلُ يدَ إنسان من أجلى!

ماتت أمى منذ سنوات، ولكن موتها لم ينته. بل يصفعنى كلَّ نهار حين أصحو من نومى لأتذكر أن يومًا آخر علىَّ أن أعيشه دون أمى التى تركتنى وطارت، ويدى معلّقةً لم تزل فى طرف ثوبها.

ماما سهير، نامى مستريحةً. وموعدنا فى ذكراك مع سورة غافر التى تُحبّينها بصوت الشيخ محمد صدّيق المنشاوى. تُحوّمين حول شرفتى يمامةً بيضاءَ، تحُطُّ برهةً فوق كتفى، تمنحنى القوة، ثم تطير.

وماذا أفعلُ بالثلجِ عشّشَ فى أركانِ البيت/ بقِطَّتِكِ البيضاء/ بصورِ العائلة على الحائط الأبيض؟/ بالأبوابِ البيْضِ مغلّقة أمام قلبى/ بستارةٍ بيضاءَ ساكنةٍ/ لأن الشيشَ مُقفَل؟/

بالسيارةِ البيضاء الحزينة تحت البيت؟/ بفوطةٍ بيضاءَ تحملُ رائحتَكِ/ بخصلةٍ من شَعرِكِ بيضاءَ/ عالقةٍ بالمشْط/ بشالِ حريرٍ أبيضَ/ ضمَّ كتفيكِ المُجْهدين بقطرةٍِ من ماءِ زمْزمَ/

عالقةٍ فى كأسِ غُسْلِك/ بوحشتى/ بخوفى؟/ هل أبيعُها وأشترى أقراصًا للنوم؟/ هل أقايضُ بثمنها على أبٍ قديمٍ/ نسيتُ ملامحَه/ وأمٍّ تركتنى وطارتْ/ ويدى لم تزل/ معلّقةً فى طرفِ ثوبِها؟

twitter:@fatimaNaoot

فاطمة ناعوت - المصرى اليوم
06 سبتمبر 2021 |