القائمة الأقباط اليوم أبحث
أهم الأخبار

خلف أسوار الكنيسة.. بقلم نفين مسعد

بقلم نفين مسعد

هذا هو المقال التاسع في سلسلة المقالات الخاصة بموضوع "الشخصية القبطية في الأدب المصري"، ويتعلق المقال برواية "خلف أسوار الكنيسة" للكاتب مينا فايق والتي صدرت عن دار السعيد في عام 2019.

خلف أسوار الكنيسة.. بقلم نفين مسعد

وفي الواقع فإن هذه الرواية لم تأخذ حقها من التعريف بها على الرغم من أهميتها الكبيرة، وعندما بحثت عنها على محرك جوجل لم أجد إلا عددًا محدودًا من الأخبار يتعلق بحفل توقيعها في شهر يوليو عام 2019، بل إنني

عندما استعلمت عن المؤلف من بعض المشتغلين بالأدب لم أحصل على معلومات عنه. لكن على أي حال فإن الرواية أحسنت تقديم مينا فايق إلى الجماعة الأدبية المصرية والعربية ودلّت على عمق التغير في تناول الشخصية

القبطية بعد ثورة يناير، إذ صار هذا التناول أكثر جرأة وعمقًا وشمولًا سواء في نقد الممارسات الاجتماعية وسياسات الدولة تجاه الملف القبطي أو في التطرق للصراعات داخل الكنيسة وإدارتها لعلاقتها مع الأقباط.

الرواية التي نحن بصددها تتميز بالدسامة الشديدة وهي تدور في الفترة من 1981 وحتى 2011 أي خلال فترة حكم الرئيس حسني مبارك أو تمتد قليلًا بعدها، وفكرتها الأساسية هي أننا أمام لعبة كبيرة تشبه البلاي ستيشن، وهذه اللعبة أطرافها هم الأقباط والكنيسة والدولة والإخوان والسلفيون ومَن على شاكلتهم، ومع أن مصالح جميع الأطراف قد تختلف إلا أنهم يشتركون في الحرص على استمرار اللعبة.

توجد للأقباط كمواطنين مطالب دينية وأخرى سياسية تتبناها الكنيسة وتستخدم ورقة أقباط المهجر في الضغط على الدولة لتحقيقها، وهي تستفيد في تلك الأثناء من إحكام سيطرتها على كل تفاصيل

حياة شعب الكنيسة والحفاظ عليه خلف أسوارها، أما الدولة نفسها فإنها توازن الضغوط الواقعة عليها بإشهار ورقة السلفيين حين يلزم الأمر واثقة من ترحيبهم بمظاهر الأسلمة والتديين. وإذا

كان هذا هو مستوى الماكرو للتوظيف المتبادل للدين فإن التوظيف قائم وبكثافة أكبر على مستوى المايكرو، فهذا بائع خضر يضحك على ذقن الزبائن ببيع خضار نصفه فاسد لكنه يروّج لبضاعته بصليب

كبير وصورة للسيدة العذراء، وهذا شاب يدلف إلى مجتمع الكهنة عن طريق التزلف لأحد المقربين من البابا حتى يصبح كاهنًا مثلهم ويصير له جاه وسلطان، وهذا مدرس لغة عربية يتودد للست الناظرة

بتعليم الطلاب الوضوء الصحيح والصلاة في فناء المدرسة رغم أن بين الطلاب يوجد طالبان قبطيان. إنها لعبة يمارسها الجميع، لكنها قد تفضي في لحظة معينة إلى كارثة، فليس أكثر خطورة من التلاعب بالدين.

تدور الرواية حول أسرة قبطية من الطبقة المتوسطة تسكن في حي شبرا، الأب موظف بالسنترال والأم موظفة بالتأمينات، ولديهما ولدان، الابن الأكبر مجدي، والابن الثاني وهو الراوي مولود عام 1981 واسمه في

شهادة الميلاد ماهر إخفاءً لهويته الدينية وچورچ في الأوساط المؤتمنة حيث يكون على راحته. انخرط الأول تمامًا في أنشطة الكنيسة بل ذاب فيها وأصبح كاهنًا، وبالتالي فإنه ترك اسمه الدنيوي إلى اسم

آخر ديني، وكان عجيبًا أن يناديه أخوه ابن أمه وأبيه بلقب "أبونا مرقص"، أو تقسم أمه أنها لم تنجب إلا "أبونا مرقص". وتمرد الثاني على سلوك القطيع وطُرد من خدمة الكنيسة لأنه لم يكره شيئًا

في حياته قدر ما كره "الطاعة"، عمل بصحيفة "مستقلة معارِضة" تعرف جيدًا ما يجوز لها أن تعارضه وما لا يجوز، وتم تكليفه في الصحيفة بمتابعة ملف الأقباط. ومع أن الراوي يعتبر أن فترة

الثمانينيات هي التي ترعرعت فيها المشاعر الطائفية لدى المسلمين والمسيحيين على حدٍ سواء، إلا أنه يلقي لنا ببعض العلامات التي كان كل منها يصلح لكي يكون نقطة البداية لبروز ظاهرة الطائفية، فليس

من قبيل المصادفة أن ينشئ عام 1918 حبيب جرجس مدارس الأحد لإعطاء النشء دروسًا في الدين أثناء صلاة الكبار في الكنيسة، ثم يقوم حسن البنا بعد عشر سنوات من هذا التاريخ أي عام 1928 بإنشاء جماعة الإخوان

المسلمين، ولمزيد من التأكيد على أن جوهر الخطاب الديني واحد لدى الطرفين سنجد أن حبيب جرجس عندما أسس الكلية الإكليريكية لتكون أهم مؤسسة تعليمية قبطية ثم مدارس الأحد فإنه كان يهدف لإنقاذ

الكنيسة "الغارقة في الجهل"، وهذا الكلام يشبه كثيرًا كلام سيد قطب عن المجتمع الجاهلي. وساهمت فترة الرئيس عبد الناصر في اهتزاز الشخصية المصرية خصوصًا بعد هزيمة 1967 وتزايد اللجوء إلى

الدين، وبطبيعة الحال لا يخلو الأمر من مبالغات شديدة في انتقاد هذه المرحلة فعبد الناصر عند المحللين في العادة إما ملاك لا يخطئ أو شيطان رچيم. حتى إذا جاء الرئيس أنور السادات تلاعب بالورقة

الطائفية كما لم يحدث من قبل ودخل في مواجهة مفتوحة مع الكنيسة، وذلك في الوقت الذي كان قد اعتلى الأنبا شنودة كرسي البابوية وهو الرجل الذي تحلى بكل المقومات الشخصية وكل الرغبة في تعزيز سلطته الدينية، وكان له ما أراد.

ويرسم لنا المؤلف ببراعة كيف أخذت الدوائر المتقاطعة لمسلمي مصر ومسيحييها في الانفصال والتباعد منذ الثمانينيات، كان الشارع يجمع أبناء شبرا دون تمييز ثم أخذت الكنيسة تتوسع في أنشطتها وتجذب إليها

أبناء الأسر القبطية فتركوا الشارع لأطفال المسلمين. وكان صوت أم كلثوم يصبّح على المصريين جميعًا كل يوم "يا صباح الخير يالي معانا" فإذا بالقنوات الفضائية القبطية تفتتح صباحات البيوت القبطية

وتبث العظات والترانيم. وكانت الأسواق والعيادات ومكاتب المحاماة تجمع المسلمين والمسيحيين ثم صار كل طرف يفضّل التعامل مع "واحد مننا". حتى البنوك التي كانت مستودع شقاء المصريين من عرق جبينهم دون

تمييز ظهرت شركات توظيف الأموال بأرباحها الأرنبية المتوالدة فتكالب عليها المسلمون، أما الأقباط فأغلبهم فضّل تجنبها ليس فقط لأن من طابعهم الحذر لكن لأن منطق تكوين تلك الشركات كان استبعاديًا لغير

المسلمين. وعلى هذا النحو جرى التبارز بالهويات الطائفية على كل المستويات، وأدى شيوع التطرف الإسلامي بتمويل خليجي سخّي إلى انغلاق قبطي متزايد خلف أسوار الكنيسة. وفي الوقت الذي كانت الدولة تشجع فيه

الهجرة إلى دول النفط لتوفير فرص العمل والاستفادة من عوائد الأموال، كانت الكنيسة تشجع الهجرة إلى الولايات المتحدة حيث مركز صنع القرار في العالم، وهكذا لعبت الهجرة دورًا ليس فقط في التأثير على

موازين القوة بين الدولة والكنيسة ولكن، وهذا أهم، في زيادة الفجوة فيما بين المصريين فتغيرت الطبيعة الوسطية للشعب المصري وتسللت مفردات الخليج وزيه وأفكاره وعاداته إلى شريحة يعتد بها من المصريين، ولم نعد كما كنّا قط.

عندما فتح اثنان من المتطرفين النار على أسرة قبطية مسالمة كانت في طريقها للصلاة بكنيسة المطرية، قُدّر لماهر المسؤول عن ملف الأقباط في الصحيفة "المستقلة" أن يكتشف مالم يخطر له على

بال. اكتشف أنه بينما تقلصت المساحات المرئية والطبيعية بين عموم المسلمين والأقباط فإن شبكة المصالح السرّية بين المؤسسات الدينية والأمنية والإعلامية على الجانب الآخر لم تتوقف عن

العمل. تأكد ماهر أن الشخص المنسوب إليه قتل الأسرة القبطية في المطرية ليس هو القاتل، تأكد لأنه يعرف المتهم مصطفى السيد نادر شمس الدين كما يعرف أصابع كفيه فهو زميله في المدرسة وصديق

عمره، إنه المسلم الذي يناديه ماهر أمام الناس وچورچ بينه وبينه فيفرج عن هوية چورچ الدينية الحبيسة، وهو الذي يسنده حين يسخر منه طالب سمج قائلًا "هو انتوا بتعبدوا تلاتة ياض يا

ماهر؟"، أو "هو صحيح انتوا بتبوسوا في بعض في ليلة رأس السنة؟". تأكد إذن ماهر من براءة مصطفى وقدّم دليل براءته، لكن الكل كان مصممًا على الإدانة من أول كاهن كنيسة المطرية وحتى

الضابط الكبير مرورًا برئيس تحرير الصحيفة "المستقلة" فهناك فيما بينهم مصالح وعلاقات وإعمال لمنطق "سيب وأنا سيب"، بمعنى أن تتنازل الكنيسة في هذا الموضوع فيتنازل لها الأمن في

موضوع آخر كأن يعيد إليها زوجة أحد الكهنة التي هربت وتوشك على اعتناق الإسلام، ويحتفظ رئيس التحرير بمنصبه في الصحيفة "المستقلة" إياها. هكذا يُسجَن مصطفى دون ذنب جناه فلا يُفرج عنه إلا بعد ثورة 25 يناير.

كان المؤلف أمينًا مع نفسه حين جعل الراوي ماهر يعترف "لا يمكنني القول بأنني قد تعرضت لاضطهاد ما بسبب هويتي الدينية على مدار حياتي، إلا إذا اعتبرنا سخافات من هم مثل محمد عزت اضطهادًا".

ومحمد عزت هذا هو مدرّس اللغة العربية والدين الإسلامي الذي كان يسخّف على ماهر بالقول "هاتتوضا معانا ولا هاتقعد في الحوش تقول كيكالايسون بتاعتكوا؟!". ما يعتبره ماهر سخافات هو جريمة

متكاملة الأركان من شخص في موقع يفترض في صاحبه أن يرّبي قبل أن يعلّم، لكن على أي حال فإن ماهر سار في حياته العملية بسهولة ودون أن يعاني من مضايقات بسبب دينه. وكما يوجد شخص مريض نفسيًا مثل

المدرّس محمد عزت، يوجد شخص سوّي مثل الشيخ محمد جاويش صديق حلمي والد ماهر، هذا الشخص الطيب الذي أصيب بسكتة قلبية بعد ضياع أمواله في شركة الريّان فبكاه صديقه حلمي بكاءً مرًا وعلّق صورته على

جدار الصالون حتى لا يغيب عنه وجه جاويش الصبوح. كما يوجد شخص آخر سوّي مثل جلال المحارب القديم الساخط على عبد الناصر والسادات معًا والذي لا يُدخل الدين في معاملاته مع الناس. ثم كيف لنا أن ننسى مصطفى المتهم البريء؟.

هذه الرواية المهمة كُتِبت بغضب وصل إليّ كقارئة ووجدت أن ماهر هو الوجه الآخر لجلال ذلك الشخص الغاضب دائمًا الناقد لما حوله بمرارة شديدة، وهي أيضًا- أي الرواية- كُتِبت

بصدق لا يحتاج إلى دليل. لقد دقّت الرواية ناقوسا بل نواقيس خطر مما كان يحدث في الشارع والمدرسة وخلف أسوار الكنيسة ومؤسسات الدولة، وتعبير "ما كان يحدث" إنما يصف

ثلاثين عامًا هي فترة حكم حسني مبارك، وهو إرث يحتاج جهدًا كبيرًا للتنشئة على قيم أيام زمان، فليس كل ما فات مات بل بعض ما مات مطلوب الإحياء بشدة وبسرعة من أجل سلامة بنيان الوطن.

صدّقت ماهر وحكايته، أما ما وجدته مقحمًا فذلك الخط الدرامي المتعلق بعلاقة الحب بين ماهر وأشواق المسلمة المحجبة، ليس لأن هذا لا يحدث في الواقع أبدًا بل هو بالتأكيد يحدث ويتكرر، لكن لأن هذه

العلاقة لم تتم خدمتها في الرواية، فلا اقتنعتُ بسبب هجرة ماهر القوي العنيد المتمرد إلى الولايات المتحدة، ولا اقتنعتُ بلحاق أشواق به بهذه البساطة، وإن من يرى هدوء أشواق وهي تودّع ماهر قبل سفره

مباشرة لا يتصور أن تهرب من أسرتها لتذهب إليه، ولا يوجد أي تمهيد لهذا التطور. نعم قضية الزواج المختلط قضية كبيرة وتحتاج معالجة أدبية بل ومعالجات، لكن وضعها على هامش الأحداث الأساسية لم يخدمها في رأيي.

أخيرًا إنهم يقولون في المثل الشائع: تكلم حتى أراك، وقد تكلم المؤلف مينا فايق في "خلف أسوار الكنيسة" فرأيناه بوضوح، لكن مثله لا يحتاج فقط لأن يُرى بل يحتاج لأن يُستَمع إليه فلديه ما لم يقله بعد.

الشروق
11 يونيو 2021 |