القائمة الأقباط اليوم أبحث
أهم الأخبار

شجرةٌ.. وأربعُ عيون .. بقلم فاطمة ناعوت

بقلم فاطمة ناعوت

حكايةٌ أعجبتنى من الفولكلور الأوروبى، أقصُّها عليكم. عنوانُ القصة الشجرةُ عبر الفصول، تحكى عن أب وأولاده الأربعة، الذين ودّ أن يعلِّمَهم درسًا حول عدم محاكمة الناس والتنمّر عليهم. أرسل الأبُ

شجرةٌ.. وأربعُ عيون .. بقلم فاطمة ناعوت

أبناءه بالتتابع فى رحلة استقصائية إلى شجرة كمثرى تقع على مسافة بعيدة، وطلب منهم تقاريرَ تفصيلية عن شكل الشجرة. رحلةُ الابن الأول فى فصل الشتاء، والثانى فى الربيع، والثالث فى الصيف، والأخير فى فصل الخريف.

حين اكتملت الرحلاتُ الأربع، عادوا إلى أبيهم بتقاريرهم. جمعهم الأبُ وراح يسمع ملاحظاتهم. قال الابنُ الأول إن الشجرة قبيحةُ المنظر، محنيةُ الجذع، ملتوية الأغصان.

وقال الثانى إن الشجرة مغطّاةٌ بالبراعم الخضراء وتحمل الكثيرَ من الوعد بالإثمار. لم يوافق الابن الثالث على ما قال أخواه وقال إن شجرة الكمثرى فاتنة مشرقةٌ

بالزهور شهية الرائحة، وهى أجملُ ما شاهد فى حياته على الإطلاق. هنا اعترض الابنُ الرابع على الجميع قائلًا إن الشجرة ناضجةٌ وارفةٌ مثقلة بالثمر، تضجُّ بالحياة والاكتمال.

قال الأبُ لأبنائه إنهم جميعًا على حق، رغم تباين أقوالهم حدّ التناقض. ذاك أن كلًا منهم لم يشهدِ الشجرةَ إلا فى حال واحد من أحوالها، عبر مواسم حياتها، ولم يشهدها فى أحوالها الأخرى. وهنا تجلّى الدرسُ: من الخطأ أن

نحكم على شىء، أو شخص فى موسم واحد من حياته، أو فى حال واحد من أحواله. وأن الجوهر، والسعادة، والبهجة، والفرح، والحب، التى تأتينا بها الحياةُ، لا يجوز أن نقيسها أو نُقيّمها، أو نحكم عليها إلا بعد اكتمال الفصول،

فإن أنت يئستَ ورفعتَ الراية البيضاء فى شتائك، فسوف تخسرُ الرجاءَ الذى يعدكَ به ربيعُك، وسوف يفوتك الجمالُ الذى سيأتى به صيفُك، وسوف يضيعُ عليك الاكتمال الذى سوف يحمله خريفُك، فإن استسلمت للألم الذى يضربُك فى

أحد الفصول فسوف تخسر الفرح الذى يأتيك مع الفصول الأخرى، فلا تحكم على الحياة ولا تحاكمها عبر فصل واحد من فصولها، بل ثابرْ واصبرْ على المناطق السوداء والظروف العسرة التى تمرُّ بك لأن أوقاتًا طيبة سوف تأتى فى مقبل الأيام.

■ ■ ■

كلٌّ منّا هو تلك الشجرة فى أحوالها وفصولها. أتأمّلُ الآن فصولى التى أتبدّل فيها بين الجدية الصارمة، والمرح الطفولى، والجنون حينًا، والتعقّل حينًا، التعجّل حينًا والرصانة

حينًا، الفرح حينًا والحزن حينًا آخر. أن أكون أمًّا، وأن أكون ابنةً، أن أجلسَ صامتةً كتلميذة تتعلمُ من أستاذها، وأن أتكلّم وأحاضر كمُعلّمة أمام تلاميذ، أن أجادلَ وأحاور وأناور

كمشاكسة، وأن أومئ فى هدوء كموافقة، وغيرها مما لا يُحصى من أحوال وفصول، جميعُها أنا وأنت، وجُماعها أنت وأنا. واحدُهم قد يرانى فى فصل ما، فيرسم عنى صورة قد يرسم نقيضَها إن صادفنى فى فصل آخر.

أذكر أننى دخلتُ المسرح الكبير بقاعة الأوبرا يومًا، فاستوقفنى بعضُ قرائى ووقفنا ندردش برهةً ونتمازح، فقالت لى سيدةٌ جميلة: (مش معقول، مش مصدقة أنك بتعرفى تضحكى وتقلشى كمان! لما بأقرأ مقالاتك أيام الإخوان يتهيألى إنك حد مكشّر طول الوقت!)، فضحكتُ وقلت لها: (وقت الإخوان كنا جنود بنحارب عشان ننقذ مصر من الاحتلال. لكن فى الأوبرا نحن عصافير مغرّدة).

كثيرون نحن. كل فرد منّا كثير. تمامًا مثل الشجرة، التى لا تتبدل على أربعة أشكال فى كل عام وفق الفصول الأربعة وحسب، إنما تتبدّل على مدار كل يوم، فورقة من أوراقها تسقط، تُبدّل من شكل الشجرة، وورقة تورق، تغيّر من

هيئة الشجرة، وغصنٌ يستطيل مليمترًا، يجعلها شجرة أخرى. لهذا قال هيراقليطس: (إنك لا تنزلُ النهرَ الواحدَ مرتين) لأن النهرَ الذى نزلت إليه منذ دقيقة جرى ماؤه، وتبدّل شكلُ أمواجه ولم يعد هو هو بعد دقيقة، ولا أنتَ هو

أنتَ الذى كنتَه قبل دقيقة، فقد كبرتَ دقيقة فى عمرك، وتبدّلت رؤاك وأفكارك وشاهدت خلال تلك الدقيقة ما لم تشاهده قبلها. ليتنا لا نحكم على الناس ولا نُدين أحدًا ولا نتنمّر على أحد. الدينُ لله والوطنُ لمَن يحبُّ الوطن.

twitter:@fatimaNaoot

فاطمة ناعوت - المصرى اليوم
07 يونيو 2021 |